ملامح النظرية الاسلامية في السياسة الخارجية

ملامح النظرية الاسلامية في السياسة الخارجية
جعفر عبدالرزاق
تعرف السياسة الخارجية بأنها «الستراتيجية التي يضعها اصحاب القرار لحكومة ما بصدد التعامل مع بقية الدول على الساحة الدولية، بهدف حماية وتوسعة المصالح القومية لتلك الدولة».(1)
اما العلاقات الدولية فهي «جميع الاتصالات والمعلومات وردود الافعال الناتجة عنها، وتؤثر على الساحة الدولية بصورة مقصودة أو غير مقصودة، والتي تحصل بين الوحدات السياسية الحاكمة المستقلة»(2). ويمكن اعتبار كل مفردة من مفردات العلاقات الدولية ذات اصل يتبع من داخل الحدود ولكن يطلق عليها «سياسة دولية» عندما يبدأ تأثيرها خارج حدود تلك الدولة لتصبح عنصراً متشكلاً داخل النظام السياسي الدولي.
ان الادراك الصحيح لماهيّة العلاقات الدولية يحتاج إلى فهم اعمق لطبيعة العناصر التي تتألف منها، وكذلك إلى فهم النظام السياسي الدولي وآلية العمل التي يتحرك بها. فالأول يحتاج إلى معرفة سلوك العناصر المؤثرة في العلاقات الدولية وخاصة الحكومات، اضافة إلى عناصر اخرى كثيرة كالايديولوجية، طبيعة التكوين، القرار السياسي..، اما القسم الثاني فبحاجة إلى التمعن العميق لكيفية التحول التاريخي للنظام السياسي الدولي وتكوينه، وكيفية فاعليته وخاصة اثر البيئة الحية على السياسة الخارجية للدول.
وعلى ذلك فالقول بأن العلاقات الدولية أمر ثابت ولا يتغير غير صحيح، لان العناصر التي تتألف منها والمؤثرة فيها متغيرة من جهة، والعلاقات الدولية نفسها تتغير بمسير التاريخ من جهة اخرى. كما انّه يمكن الافتراض بأنه ليس من الصحيح الادعاء بأن الخروج على العلاقات الدولية الحاكمة اليوم اصبح يوجب فناء الكيان السياسي الذي يخرج عليها.
وبناء على ما تقدم لا يمكن ان يكون باب العلاقات الدولية مقفلاً امام نمو القوى لدور اكبر وتأثير اوسع، تستطيع دخول الميدان للتأثير على النظام الدولي والوصول إلى موقع متقدم ومؤثر ومستفيد، لان الكيانات السياسة الضعيفة تبقى على الدوام قليلة التأثير على هذا النظام، كما انها لا تجني فوائد كثيرة منه بل هي المتأثر الاول به وان كان على حساب مصالحها ووجودها.


من هنا نجد الاسلام اليوم يطرح كعنوان سياسي وعقيدة غنية وقادرة على التأثير في الساحة الدولية إذا احسن استثمار الامكانيات والطاقات وادارة السياسة الخارجية بصورة فعالة. فالسياسة الخارجية تبغي تحقيق  الاهداف سواء القصيرة أو البعيدة الامد، ولا يمكن ان تكون هناك سياسة خارجية فاعلة دون الالمام الكافي بعناصرها ومقوماتها وعلاقات كل واحد منها بالآخر.
فالحاجة للمعرفة والادراك الكاملين لوضعية الدولة الاسلامية امر سياسي، بغض النظر عن الاهداف الانسانية التي تؤمن بها الحكومة، فبدون معرفة الواقع السياسي داخل البلال وخارجها لا يمكن وضع ستراتيجية واضحة واتخاذ مواقف صحيحة متكاملة. فالواقعية في التقييم تجعل صانع القرار في منأى عن التردد والتشويش والاضطراب والخطأ.
ولا يعني ذلك الاغماض عن القيم العليا التي ينادي بها الاسلام، بل يعني الاقتراب منها والتوجه صوبها بصورة واقعية بعيدة عن الانفعالات الزائفة، وتوظيف الامكانات المتاحة للسير قدماً في ذلك الاتجاه، فصانع القرار يجب ان يدرك ماذا لديه وماذا يريد؟
______________________________________
1- الحقوق الدولية في الاسلام، للدكتور خليليان، ص 60.
2- مجلة السياسة الخارجية التي تصدرها وزارة الخارجية الايرانية، العدد2، ص 279.

ولعل تنفيذ السياسات الداخلية للحكومة اسهل بكثير من اهدافها في السياسة الخارجية ففي الداخل غالباً ما تكون هناك وحدة سياسة متجانسة تستطيع الحكومة التحكم فيها، كما انها تمتلك معلومات وافية عنها، اما السياسة الخارجية، فهناك حواجز وعوائق تقف في تطبيقها وفق الاهداف المرسومة، فليس هناك وحدة سياسية واحدة بل هناك وحدات عديدة، كما ان هذه الوحدات ليست متشابهة بل تتفاوت في كل شيء تقريباً وتحتاج إلى مراعاة خصوصيات واوضاع كل واحدة منها.
تجربة صدر الإسلام
لعل اول اشارة قرآنية للسياسة الخارجية أو العلاقات الدولية تتجلى في التحليل السياسي الذي تضمنته سورة «الروم» وهي من السور المكية. فالرسول «ص» كان يعيش في مرحلة التغيير والبناء الفكري لنخبة من المسلمين الاوائل. وكان يطرح المفاهيم الالهية المتعلقة بالتوحيد والمعاد عبر السور المكية التي كانت تولي هذه القضايا اهمية خاصة. وكانت متطلبات الثورة النبوية تستدعي اولاً البناء الداخلي والعقائدي للافراد الذين سيتحملون مسؤولية النهوض بها، والانطلاق بالمبادىء الجديدة بين القبائل والشعوب، ودعوة الناس للدين الحنيف. ولم تكن الظروف التي كان يعيشها الدعاة الاوائل إلاّ ظروف القهر والمواجهة والتعذيب والمطاردة والتي تتطلب استعداداً روحياً عالياً لمواجهتها، وهنا تأتي البشارة من الوحي الالهي ولفت انظار المسلمين ليس إلى مكة أو شعابها وازقتها بل تأخذهم في نظرة بعيدة خارج الحدود وبعيداً عن الصحراء التي تحيط بهم من كل جانب، إلى الشمال حيث تتنافس القوتان العظيمتان آنذاك، الروم وفارس على السيادة والنفوذ. وتقرع الآيات اسماع المسلمين بأن الفرس ـ الذين لا يؤمنون بالوحي الالهي ـ سينتصرون على الروم ـ النصارى ـ ولكن لن يطول ذلك سوى بضع سنين وسيكون النصر للمؤمنين بالله اي الروم مرة اخرى. قال تعالى:
(الم * غلبت الروم * في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنين * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).
ان التأمل في ذلك الطرح والتنبأ بمستقبل العلاقات بين الروم وفارس وهما دولتان عظيمتان، وانعكاس ذلك على صفوة مؤمنة قليلة تعيش مرحلة الاضطهاد في مكة، ولم تستطع ان تصبح فئة ذات شوكة بل جماعات متفرقة يلفها الخوف ويهددها الموت بين حين وآخر، لا يعني ذلك سوى اهمية وعمق الارتباط بالخارج أو الالتفات للعلاقات الدولية بأعتبار ان الصراع بين الروم وفارس سيؤثر مستقبلاً على الدعوة الاسلامية، ويعني ذلك ايضاً ان اي حدث أو قضية أو صراع يحدث في الخارج سيؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فانتصار الروم على فارس اضعفها وبقيت تعاني من افتقاد حكومة قوية ونظام مركزي يستطيع السيطرة على تلك البلاد الشاسعة حتى بداية المواجهة مع الزحف الاسلامي بعد سنين عديدة، وادى فيما بعد إلى هزيمة الفرس وفتح العراق ثم ايران وما ورائها. وان انتصار هذه الفئة المسلمة في ديارها سيؤثر على القوى الاخرى مستقبلاً وهو ما حدث فعلاً.
وهناك مظهر آخر للعلاقات مع الخارج هو الهجرة التي اوصى بها النبي (ص) اصحابه إلى الحبشة واخبرهم بان حاكم الحبشة (النجاشي) سيرحب بهم ويوفر لهم ملجأ بحاجة إليه آنذاك. اذن لما وجد الرسول (ص) ان محيط مكة لا يستوعب رسالته وان رجال قريش مستعدون لابادة الصفوة المسلمة، رمى ببصره بعيداً، عبر البحر الاحمر إلى الحبشة. وكان يعرف عنها الكثير ولولم يكن ملماً باوضاع الحبشة بصورة وافية لما امر اصحابه بالهجرة اليها. اذن ورغم الاوضاع الخانقة في مكة كان الرسول (ص) يستطلع اخبار واوضاع الامم الاخرى. وانّه (ص) وبالرغم من مسؤولياته وانشغاله بمواجهة قريش ومؤامراتها، فقد كان مهتماً يجمع المعلومات عن بقاع اخرى اكثر اممناً لحمل الرسالة. وبالفعل كان مصيباً في ذلك وتكررت الهجرة إلى الحبشة وبقي اولئك المسلمون (الذخير الاحتياطي) هناك حتى بعد تأسيس الدولة الاسلامية في المدينة حيث عاد جعفر بن ابي طالب وهو قائد المهاجرين في السنة السابعة للهجرة وتصادف مع فتح خيبر.
بعد ان استتبت الامور للرسول (ص) واسس اول دولة اسلامية في المدينة المنورة لم تشغله المشاكل والقضايا التي برزت اثناء التحول الجديد. وكما بذل جهوده للبناء الداخلي والامن والاستقرار وتشييد اركان البناء الجديد وتغيير المفاهيم والعادات لتنسج مع الاطروحة الجديدة، اهتم كذلك بالتحالفات والمواثيق مع الاقليات الدينية كاليهود في المدينة وبقية الجماعات والقبائل التي حوله لبناء جبهة داخلية متينة ولتفادي الدخول في نزاع قرب أو داخل عاصمة الحكم وهو في بدايته. فقد اهتم (ص) بالعلاقات الخارجية التي اخذت مظهر (الدعوة إلى الاسلام)، فبعث الرسول والوفود العديدة إلى الملوك والاباطرة والزعماء، ومنهم حكام الدول الكبرى المحيطة بالجزيرة العربية. فقد اوفد مبعوثين يحملون رسائله الكريمة إلى «هرقليس» قيصر الروم و«كسرى» فارس و«المقوقس» زعيم مصر و«النجاشي» ملك الحبشة و«سرباتك» حاكم الهند والى زعماء عمان واليمامة (اليمن) وملوك (حمير) والى بقية رؤساء القبائل الساكنة في اطراف الجزيرة(1) يخبرهم فيها عن دعوته أو تشكيل حكومة جديدة ترتكز على بناء عقائدي الهي، ودعاهم إلى الايمان بالرسالة التي جاء بها، كما تضمنت بعض رسائله تهديداً ووعيداً أو تنبأ (ص) بزوال حكم المخاطب وانتشار الاسلام في امد قريب.
ان خطوة الرسول (ص) في انشاء علاقات مع الدول والزعماء الآخرين لجديرة بالدراسة والتدبر، فالوضع السياسي للدولة الحديثة لم يمض عليه سوى بضعة اعوام ولم تتسع سوى إلى ما بعد اطراف المدينة وما حولها. ووضعها الاقتصادي لم يزل معتمداً على الزراعة والتجارة والصناعة البدائية. فعناصر القوة المادية لم تكتمل أو تصل إلى مستوى عال مقارنة لما كانت عليه الدول الاخرى المحيطة به، فقد كانت تمتلك الوسائل والآلات والسفن الحربية وذات مدنيات قائمة ومزدهرة وجيوش عظمية مجهزة بالسلاح والدروع ونظم ادارية وقانونية، ومظاهر حضارية وبناء قصور ومعابد وقلاع واسوار وانشاء سدود وقناطر وجسور وغيرها. بينما كان مجتمع المدنية ما زالت سمات البساطة وملامح البداوة ترمي بظلالها عليه، والمستوى الاقتصادي والمعيشي كان في ادنى مستوياته فبيوتها الطينية إلى جانب بيوت الشعر والخيام ولم يكن هناك نظام اداري بالمعنى المتطور أو مظاهر مدنية تشابه تلك الموجودة عند الامم الاخرى. فالمجتمع المدني دخل تواً في مرحلة التنظيم والتقنين ولم تزل مظاهر وعادات العشائر والقبائل في دورها للانحسار التدريجي لتحل محلها ضوابط ومقررات وعلاقات جديدة تعتمد قوانين الشريعة الاسلامية.
ولعل هناك تساؤلات قد تثار حول الدوافع التي دعت الرسول الاعظم (ص) للتحرش بالدول العظمى
______________________________________
1- سيرة المصطفى، هاشم معروف الحسني، ص 182.

خاصة تلك اللهجة الحادة في نهاية كل رسالة حتى انها استفزت كسرى فمزقها وارسل امراً إلى واليه في اليمن يطلب منه اعتقال محمد (ص) وارساله إليه لمحاكمته على خروجه وجرأته! وهل كان بامكان الرسول تفادي اشعار القوى الكبرى كالروم الذين كانوا يحتلون الشام وهي على اطراف الجزيرة، ولهم علاقات تجارية وثقافية مع العرب وخاصة قريش وان المدينة اقرب إلى الشام من مكة، واحتمال تأثيرها بالقرار السياسي والعسكري الرومي اكبر من غيرها، خاصة إذا شعر الروم بان منافساً جديداً ظهر في الجزيرة العربية التي تسكنها قبائل كثيرة وقوية، يعتمد الروم على بعضها في حروبهم وصراعهم المستمر مع الفرس، والامر يصدق ايضاً على الفرس. وقد يقال ان موقع المدينة في تخوم الصحراء جعلها تحتمي بخط دفاعي واسع لا تستطيع جيوش الروم والفرس قطع فيافيها والمجازفة باجتيازها من اجل محاربة محمد (ص) وتدمير دولته. لقد كان باستطاعتهم الاستعانة ببعش القبائل لشن حرب ضد الدعوة الجديدة، وكان باستطاعة جيوشهم واساطيلهم النزول على الساحل والتوجه إلى المدينة أو حتى قطع الصحراء كما فعل بعض قادتهم في عصور غابرة، فالاسكندر المقدوني اجاز اراض شاسعة تراوحت بن السهول والجبال والهضاب والصحارى، وبالامس القريب استطاع ابراهة ان يصل إلى اطراف مكة مستصحباً الفيلة والتجهيزات العسكرية. لقد كان بامكانهم الوصول لو شعروا بتهديد جدي، ولكن يبدو ان غرور تلك الزعامات جعلها تستهزىء بالرسالة الجديدة، ومقدرة عرب الصحراء على تنفيذ وعودهم لما عرفوا عنهم من قبل من تشتت وتنازع وغزو ونهب وبداوة. فالروم لم يدركوا قوة الدولة الجديدة الا بعد ان دكت جيوش المسلمين اطراف امبراطوريتهم في تبوك ومن قبلها في مؤتة، مما جعلهم ينسحبون إلى قلاعهم المحصنة والاستعداد للدفاع عن حدودهم الجغرافية.
لقد كان هم الرسول (ص) هو الاجهار بدعوته ووصولها إلى اكبر عدد من الناس والشعوب والامم وكان يطمع أولاً في هداية زعمائهم لما لهم من تأثير على اتباهم. ان التمعن الواعي لسياسة الرسول (ص) مع الشعوب والدول الاخرى، يعطي فكرة عن الاهتمام الواضح بالعلاقات الدولية، فالهجرات المتكررة للحبشة، التي استقبلت اول لاجئين سياسيين، لم يكن الدافع ورائها الهرب من التعذيب، فأغلب المهاجرين كانوا من ذوي النعمة والفضل في قبائلهم التي باستطاعتهم حمايتهم لمجرد الوازع القبلي والتعصب العشائري، من الاضطهاد القرشي، فمثل جعفر ابن ابي طالب يتمتع بحماية اخوته وابيه وبني عمومته ولا يتوقع ان يبخل بنفسه فيهاجر طلباً لعافية ويترك علي (رض) وعمه حمزة (رض) ووالده ابو طالب وغيرهم من الهاشميين يواجهون قريش وجبروتها. فالغاية من الهجرة اسمى من النجاة بالنفس، والدافع لمغادرة مكة واللجوء إلى دولة اخرى ارفع من الهروب من المواجهة.
ولو كانت الهجرة فراراً من الاذى والتعذيب كما يدعي المؤرخون وكتّاب السير اذن ما هو المسوغ الذى  جعلهم يمكثون إلى السنة السابعة للهجرة؟ اي بعد ان هاجر الرسول (ص) واسس دولة مستقلة في المدينة، واحرز انتصارات عظيمة في بدر وخيبر.
لعل الرسول (ص) ابتغى من وراء ذلك عدة امور منها المحافظة على مجموعة مؤمنة بالدين الجديد خارج الحدود الجغرافية للجزيرة وخارج نفوذ قريش والعرب، ليطمئن بان جذوة الايمان ستبقى متّقدة فيما لو تعرّض هو واصحابه للتصفية، فهناك من يحمل مشعل الايمان ولو كان بصيصاً، وهناك من يحفظ القرآن ولو سور قليلة. ومنها انّه (ص) اراد ان يدعو اهل الحبشة للاسلام لما عرف عنهم من سلامة نفس وفطرة سليمة وايمان بالله سبحانه وتعالى، فاراد ان يستثمر تلك البيئة وبث دعوته في ذلك المحيط المناسب والارضية الملائمة، وهناك روايات تتحدث بأن النجاشي قد آمن بالاسلام وانّه ارسل رسالة جوابية للرسول (ص) يبايعه فيها على الطاعة(1) ومنها انّه (ص) اراد ان يختبر ردود افعال تلك القوى والدول تجاه دعوته وليتأكد من منهم يمكن عقد تحالفات أو معاهدات معه كما استجاب بعض زعماء القبائل، ورده بعض الملوك رداً دبلوماسياً كما فعل هرقل عندما ارسل إليه هدايا.
اما رسائل الرسول (ص) فهي من النصوص السياسية الهامة التي يمكن استقرائها واستنباط الجوانب الشرعية واساليب التعامل النبوي مع الدول والزعامات، ويمكن بواسطتها فهم طبيعة الاجواء التي كانت تحيط بالدعوة الاسلامية، والمنهج الذي اتخذه الرسول (ص) في كل واحدة منها وبصورة دقيقة، اضافة للمفردات والالفاظ التي استخدمها في مخاطبة كل واحد من الملوك والزعماء. هذه الرسائل من الذخائر القليلة التي توضح السياسة الخارجية التي انتهجها النبي الكريم (ص) في بداية تأسيس الدولة الاسلامية. وبدراستها ومطالعة نصوصها وفقراتها نستطيع ان نتبع ملامح المنهج الذي اختطه الرسول (ص) في علاقاته الخارجية، هذا اضافة إلى دراسة المعاهدات والاتفاقيات التي عقدها (ص) مع القبائل والعشائر المحيطة بالمدينة المنورة وداخل المدينة وخاصة مع اليهود الذي كانوا يشكلون قوة سياسية وعقائدية واقتصادية وعسكرية.
العلاقات الخارجية ما بعد صدر الاسلام
إثر الفتوحات العظيمة التي اعقبت وفاة الرسول الاعظم (ص) وانتشار الاسلام بصورة مطردة خلال عقدين من السنين، حتى فقدت الامبراطورية البيزنطينية اراضيها ونفوذها في الشام وخسرت الامبراطورية الساسانية اراضيها في العراق بل وموطنها الاصلي ايران، وسقطت حكومتها وتشتت جندها وانطفأت نار المجوسية. وسارت الجيوش الاسلامية حاملة مشعل الهداية والتوحيد شرقاً حتى بلغت الهند وحدود الصين، وشمالا باتجاه القفقاس وارمينية وآذربيجان، وغرباً نحو مصر وشمال افريقيا، وطهرت الجزيرة العربية كلها من الاصنام حتى اصبحت خالصة للاسلام.
لقد صاحب ذلك التحول والانتشار، والدخول في معارك وحروب طويلة مع شعوب وامم ودول متنوعة بعضها أثر الدخول في الاسلام، بعضها آمن طوعاً والبعض الآخر قبل بدفع الجزية والانصياع للدولة الاسلامية. ونشأت علاقات ومعاهدات واعراف تمثل مظاهر للعلاقات الخارجية بين الدول الاسلامية والامم المحيطة بها، وقد جرى التعبير عن هذه العلاقات والاحكام بـ(السيّر) التي كتبها المؤرخون الذين واكبوا تلك الاحداث، أو وضعت ضمن كتاب (الجهاد) باعتبار ان الابتلاء بتلك الاحكام انما يتأثر من ممارسة الجهاد والدخول في صراعات ومعارك مع الكفار الحربيين، فكانت احكام الحرب والقتال والصلح والاسرى والاستئمان والجزية والبغاة وما يصاحبها من السيطرة على الاراضي المفتوحة واحكامها الخاصة بها، هذا اضافة إلى المعاهدات وشروط الصلح وغيرها التي كانت تشكل القواعد التشريعية للسياسة الخارجية للدول الاسلامية. وكانت الوفود والسفارات بين الدولة الاسلامية والدول
______________________________________
1- سيرة المصطفى، ص 183.

الاخرى تتردد على هذه العاصمة وتلك ناقلة رسالة أو مشروع معاهدة أو عقود تجارية وغيرها.
وبعد القرن الهجري الثاني اخذ مصطلح (السيّر) يطلق على خصوص (سيرة الرسول) اي حياته واحواله وجهاده. واول ما كتب في السير هو زيد بن علي بن الحسين (ع) حينما خصص فصولاً من كتابه (المجموع) لهذا الغرض(1).
المؤلفات الاسلامية في العلاقات الخارجية
لعل اغلب ما كتب في قضايا السياسة والحكم والسلطة والادارة ومنها العلاقات الخارجية في وقت مبكر، يعود لعلماء اهل السنة. فمؤلفات الاوزاعي، ابو يوسف، ابو اسحاق الغزاري، محمد بن حسن الشيباني، ابو حنيفة، ابن خلدون، الماوردي، ابن رشد، ابن حزم، ابن تيمية، ابن قدامة وآخرين غيرهم. وهناك عدة امور واعتبارات منها ان الحكومات التي تعاقبت على حكم الدولة الاسلامية كانت تدين بمذهب اهل السنة اعتباراً من الدولة الاموية، العباسية، السلجوقية، المماليك، الايوبية، الاندلس إلى ايام الدولة العثماية التي آفلت في الحرب العالمية الاولى. ولم تتح للدول التي تتبع المذهب الشيعي الا فترات قصيرة مليئة بالمخاطر والاحداث واللاستقرار.
ولمّا كان السلاطين والملوك بحاجة إلى دعم شرعي مستعد من علماء الدين وفقهائهم، فقد كان من الطبيعي ان يجد علماء السنة الابواب مفتوحة امامهم، وقد شارك الكثيرون منهم في دعم السلطان والحكومات المتعاقبة، وكان لفتاواهم وقضائهم اثر في تدعيم وترسيخ اركان الحكومات التي توالت على حكم المسلمين طوال قرون عديدة. وقد اتيحت لهم فرص كثيرة للكتابة والتأليف والتصنيف في قضايا الحكم والادارة والسياسة بالطبع وفق المذهب الذي يؤمنون به. وقد طرحوا مشاكل ومسائل عديدة كانت تواجههم وليجدوا حلولاً واحكاماً لهاليقضي بها السلطان بين رعيته. اذن لا غرابة ان نجد هذا التراث الهائل من البحوث والمقالات والمؤلفات التي خصصت لبحث قضايا السياسة والحكم والحكومات.
اما علماء لشيعة وائمتهم (ع) فقد كانوا طوال التأريخ يواجهون خيارين اما الرضوخ والانصياع ومعاشاة الحاكم وحاشيته واما التصفية الجسدية والتشريد والنفي والسجن. وقراءة منصفة للتأريخ الاسلامي بعد مقتل امير المؤمنين علي (ع) نجد ان الشيعة كانوا مطاردين في كل العصور، وكانت عيون السلطان وجواسيسها تلاحقهم وتحصي انفاسهم، لانهم كانوا يمثلون طرف الرفض، وخندق المعارضة لكل دخيل على الاسلام من احكام تعسفية واثراء فاحش ومصادرة الحريات. فكانت تنحية علمائهم وعزلهم عن ممارسة نشاطاتهم أو عدم توليتهم اية مسؤوليات ومناصب مهما كانوا على درجة من العلم والفضل والتقوى. وكان الرفض المسلح المتسم بالثورات الشيعية وانتفاضاتهم المتوالية تثير القلق بين الجماهير المسلمة ضد السلطة التي لا تجد غير القمع والتقتيل والتشريد اسلوباً لمواجهتها.
هذه الحالة الهامشية التي فرضت على علماء الشيعة، وتلك الاجواء الخانقة، جعلتهم ينكفؤون على انفسهم وطلابهم وحوزاتهم، واصبح من الصعب التحدث أو التطرق لقضايا الحكم والادارة والسياسة. واخذت البحوث والدروس تسير في اتجاه آخر لا يثير حفيظة السلطان، فاقتصرت اهتماماتهم على
______________________________________
1- الحقوق الدولية في الاسلام، ص 60.

الاغلب، على البحوث الفقهية والاحاديث والروايات التي تتناول العبادات والمعاملات الاقتصادية والحقوقية والشخصية، واتسمت بالطابع الفردي، اي انها نأت بعيداً عن الطابع الاجتماعي والسياسي للاسلام والذي تفرضه طبيعة الاحكام وغاياتها.
ان ابتعادهم عن الميدان السياسي العلني جعلهم يضطرون للنزول تحت الارض والعمل السري والتقية، كما ان افتقادهم للتجربة الميدانية والقضايا اليومية المتعلقة بالحكم والقضاء ابعدهم عن التطرق لهذه المسائل الا في الخطوط العامة للقضايا الفقهية والحقوقية والجزائية.
وبالرغم مما ذكرناه آنفاً، فلا يعني ذلك بان ائمة اهل البيت (ع) وعلمائهم كانوا منعزلين عن الحياة العامة أو التعرض لبعض هذه القضايا، وخاصة في فترات الارتخاء عندما تنحسر عنهم شدة الارهاب وتنخفض الممارسات التعسفية، في لحظات ضعف الحكومات أو انشغالها باعداء آخرين غيرهم. بل ان بعضهم تدخل عندما شعر بأن الدولة الاسلامية في خطر على الرغم من ايمانه بعدم شرعية السلطات الحاكمة، فالامام علي بن الحسين السجاد (ع) تدخل عندما شعر بأن التهديد الرومي بمنع تصدير العملة الذهبية الرومية إلى بلاد الاسلام اثر توتر العلاقات بين الطرفين، بان ذلك سيؤدي إلى كارثة اقتصادية، وكان الخليفة الاموي حائراً في امره لا يدري ماذا يفعل، فاقترح الامام السجاد (ع) عليه ان يقوم بضرب سكة ذهبية جديدة تحمل شعار الدولة الاسلامية ويستغني بذلك عن الحاجة للتعامل بالعملة البيزنطينية، فضربت اول نقود اسلامية آنذاك.
وكانت اوضاع الدولة الاسلامية وخاصة علاقاتها مع الامم المجاورة تثير قلق واهتمام الائمة (ع)، فانبرى الامام السجاد (ع) بدعاء خاص لحماة الحدود المرابطين والمستعدين لمواجهة الكفار وحماية حدود الدولة الاسلامية وسمي بدعاء «اهل الثغور» وفيه تحريض للمسلمين وتذكيرهم بوجوب دعم المرابطين بالمال والنفس ورعاية اهلهم وذويهم في غيبتهم.
ولا تخلو الاحاديث والروايات المنقولة عن الائمة (ع) من التعرض لقضايا الحرب والدعوة للاسلام والجهاد والبغاة والمعاهدات وغيرها مما يدخل في نطاق العلاقات الخارجية، فالشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي صاحب كتاب «وسائل الشيعة» يورد حوالي ثلاثمائة حديث ورواية عن ائمة اهل البيت (ع) في ابواب جهاد العدو، احكام المرابطة، القتال، الاسرى، الدعوة، البغاة، آداب القتال والجيوش، الاستئمان، الجزية والامر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يكاد كتاب فقهي أو رسالة تخلو من تخصيص باب للجهاد والدفاع، فكتاب (اصول الكافي) وهو من المصادر الشيعية المعتبرة في الحديث. خصص مؤلفه باباً للجهاد والغنائم والانفال والخراج بعد ما تطرق لقضايا الولاية والامامة التي تشكل حجر الاساس لمنهج الحكم واختيار الحاكم في الفقه الشيعي.
المنهج الاسلامي في السياسة الخارجية
ليست المحاولة للتعرف على ملامح المنهج الاسلامي بيسيرة، وسط المناهج السياسية التي تتقاسم العالم اليوم، ومدت جذورها وآثارها على كل النشاط الانساني، واكسبتها التجربة التاريخية والعملية على مواكبة الظروف والتكيف مع التطورات والتغييرات التي تبرز بين حين وآخر. وإذا كانت المناهج السياسية المتبعة اليوم هي تعبير تاريخي واضح عن النشاط الفكري والحضاري للانسان الاوربي، وليس نجاحها في تلك البيئات كأطر للفلسفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الا بسبب تفاعل الشعوب الاوروبية مع تلك المناهج وحركتها في حقول الحياة وفقاً لاتجاه هذه المناهج ومتطلباتها واستعداداتها النفسي المتناهي خلال تاريخ طويل لهذا الاندماج والتفاعل(1).
فحين نريد ان نختار منهجاً أو اطاراً عاماً للنظام السياسي الاسلامي يجب ان نأخذ هذه الحقيقة اساساً ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تلبية حاجة الدولة الاسلامية الحديثة من جهة، وقادر على تعبئة قوى وطاقات الامة باتجاه الاهداف التي تسير قدماً نحوها. وبقدر ما تكون مكونات وعناصر النظام السياسي الاسلامي منسجمة مع العصر الحديث والواقع الدولي المعاصر، فيجب ان لا تخرج عن الاطر والضوابط التي وضعتها الشريعة الاسلامية للتحرك. فالقواعد الفقهية والآراء الاجتهادية تبقى تتحرك داخل الحدود المباحة والواجبة مع قدرة على التكيف للعنصرين الزماني والمكاني تمتاز بها الشريعة الاسلامية اعتماداً على المرونة المناسبة التي تنطلق من عدة ابواب شرعية كالمصلحة العامة والضرورة والاحكام الثانوية.
هذا المنهج الذي يحدد ويرسم الخطوط العريضة للسياسة الخارجية، ويضع الاستراتيجية الواضحة التي تجعل التحرك وفقها يسيراً، ثم تتفرع القضايا وتوزع الادوار والمراحل، وتشخص الامور الآنية والبعيدة، يحتاج إلى المام جيد وعميق بالنظرة العامة للعلاقات الدولية والسياسية الخارجية وفق المنظور الاسلامي، حتى يصبح خط السير واضح المعالم، عندها تبدأ مرحلة الجزئيات والتفاصيل التي تضع الخطوات واحدة بعد الاخرى لبلوغ الهدف. فلا يمكن التماس معالم نظرية السياسة الخارجية بالاعتماد على الآيات والاحاديث ذات العلاقة أو التي تنسجم مع الموضع بصورة مجزأة أو منفصلة عن المنهج الاسلامي العام ونظرة الاسلام للعلاقات الدولية وسلوك الحكومة الاسلامية تجاه الشعوب والامم الاخرى، فالتجارب القصيرة للرسول (ص) وامير المؤمنين (ع) قد تعين في رسم بعض المفردات وليس كلها، ومع ذلك تبقى ممارسات وسياسات ذلك العصر متأتية من متطلبات ذلك العصر ايضاً. فليس المهم ان نقلد الشكل الظاهري أو البناء الفوقي للسياسة النبوية دون التعرف على حقيقة المنهج الذي كان يسير عليه، والذي تأتي الاحداث والقضايا كمصاديق لذلك المنهج. نعم يمكن الانطلاق من سياسة الرسول (ص) والامام (ع) كأسس تحتية في صيغ التعامل مع المفردات العصرية للسياسة الخارجية واستنباط الضوابط والاهداف على ضوء تلك التجربة الغنية في صدر الاسلام، ومع ذلك فهناك الكثير من المستجدات والنظريات القانونية والمفردات السياسية الدولية بحاجة إلى صيغة تنبع من المنهج الاسلامي الاصيل للتعامل معها، تحافظ على وحدة المنهج من جهة، وتتفاعل وتؤثر في النظام الدولي من الجهة الاخرى.
فالفقيه مثلاً عندما يريد ان يتناول موضوعاً أو قضية تتعلق بالسياسة الخارجية أو العلاقات الدولية وفق التصور الاسلامي، يحتاج إلى المام كاف بالمصطلحات والمفاهيم السياسية المتداولة ومدلولاتها، معرفة جيدة بطبيعة النظام الدولي والمؤسسات الدولية والمناهج السياسية، عند ذاك يمكنه التعامل معها، وترجمة تصوراتها إلى اللغة الفقهية  التي يعتمدها في استنباط الاحكام وصياغة مفاهيم وتصورات اسلامية قادرة على التفاعل مع الواقع السياسي الموجود. فالفقهاء قد خطوا خطوات واسعة في مجالات التعامل مع القضايا
______________________________________
1- اقتصادنا، الشهيد محمد باقر الصدر، ص 13.

والمفردات الحضارية كالتكنولوجيا والمواصلات والتطور العلمي والطبي وغزو الفضاء، اضافة إلى المظاهر الحديثة كالبنوك والمصارف والنظام المالي وتحويل العملات والصكوك وغيرها بصورة استوعبوا فيها هذه المفردات ثم اعطوا آرائهم بكل ثقة وحزم وجرأة، وكذلك الحال بالنسبة للسياسة الخارجية التي ابتدأ الخوض فيها بعد تأسيس اول دولة اسلامية في العصرالحديث. والفقه الاسلامي لديه القابلية الواسعة على استيعاب جميع مفردات الشؤون الحضارية المستحدثة وفي جميع المستويات والموضوعات إذا ما بذلت جهود جمة في هذا الاتجاه.
والسياسي بحاجة ايضاًالى المام مناسب بالاحكام الفقهية واطلاع على النظريات الاسلامية في الحقول المختلفة كي تنسجم خطواته وآراءهُ وتصوراته مع المنهج الاسلامي، وليكون على بينة من امره وهو يسير في ذلك الطريق، فبدون العلم والمعرفة بكل خطوة يخطوها، أو قرار يتخذه، لا يستطيع النجاة من العثرة. فالتخطيط ضروري، وكل حكومة تحتاج إلى وضع برنامج استراتيجي يكفل الاستفادة القصوى من الامكانيات والطاقات المتوفرة في سبيل الوصول للاهداف المحددة.
وليس السياسي أو صاحب القرار هو المعني الوحيد بالبحث عن معالم المنهج، فالاتجاه التخصصي في العلوم حالياً يفترض وجود خبراء ومختصين في مجالات متنوعة ومترابطة كل واحد منهم يؤدي دوراً محدداً أو يأخذ جانباً من الموضوع اي السياسة الخارجية ويصب فيه خلاصة فكره ورأيه واجتهاده، فالمتخصص بالعلوم السياسية، والخبير بالقانون الدولي، والمستشار في العلاقات الدولية، وغيرهم، لا يمكنهم الوصول إلى الهدف اي التعرف على النظرية الاسلامية للسياسة الخارجية بدون القيام بترجمة وتعريف المصطلحات والاسس التي تبنى عليها السياسية الخارجية إلى اللغة الفقهية المتخصصة، عند ذاك يستطيع الفقيه الاجابة على تساؤلات أو المشاركة في مناقشة المفردات معتمداً على الاصول والمبادىء التي يستنبط منها الاجابة والوصول للغاية المنشودة. وهذا في حد ذاته يخفف من المهمة المناطة بالفقيه، فيتعاون الطرفان، المتخصص والفقيه لبلوغ ذلك الهدف.
ومع ذلك فليس الامر بتلك البساطة التي تتبادر للاذهان، فهناك عوائق عديدة منها اختلاف الآراء الاجتهادية بين الفقهاء، فاعطاء الرأي بشأن السياسة الخارجية أو مفرداتها لا يختلف عن اية فتوى أو حكم شرعي. ولما كان ميدان العبادات ضيقاً، فان الخلاف فيه لا يكون بسعة وحدة الميدان السياسي الذي تدخل فيه عناصر اخرى مؤثرة، حقيقية أو مصطنعة، اضافة إلى عمق تأثير الاختلاف في القضايا السياسية على الوضع العام للدولة وانجرار الجماهير وراءها بصورة آلية. وإذا كانت احكام السياسة الخارجية تكليفية وعبادية كبقية الاحكام، فكيف يمكن التوفيق بين المسؤولين الذين يمسكون بالقرار السياسي في السلطة في حالة تقليد بعضهم لمرجع والآخر لمرجع آخر، وآرائها مختلفة. وقد يقال ان آراء الفقيه المتصدي أو القائد هي الغالبة ولكن هذه المسألة لم تحل من وجهة نظر فقهية، بل هناك عرف اكتسب صفة التقليد والقانون في الممارسات اليومية حتى اصبح من القواعد غير المكتوبة. أو يقال ان رأي الفقيه في هذه القضايا اي التي تحمل صفة العمومية هو حكم، وليس فتوى، وكل المكلفين ملزمون باتباع الحكم بغض النظر عن المرجع الذي يقلدونه.
ويجرنا الحديث حول هذه القضية إلى ضرورة وجود فقهاء متخصصين في مختلف شؤون الحياة ونواحي الحكم والادارة، اي ان الطموح لوجود هؤلاء الفقهاء هو هدف استراتيجي لتغطية هذه الامور بصورة علمية دقيقة، ولا تستبعد آنذاك وجود فقهاء متخصصين مثلاً فقيه متخصص بالحقل الطبي والانجازات الطبية والاحكام الشرعية حولها كالانجاب الصناعي ونقل اعضاء الجسم والهندسة الوراثية وتطوير الجينات، وآخر مختص بقضايا الاتصالات والكمبيوتر ليس من الجانب الفني والتقني بل من الجانب الاخلاقي والشرعي مثل حقوق المنتجين وتطوير البرامج، والاتصالات والاقمار الصناعية ومفهوم التجسس والانصات بحيث لا تتعارض تلك النشاطات مع حقوق الافراد وحرياتهم، وفقيه مختص بالشؤون الاقتصادية والمالية وقضايا التضخم والعملات والتحويلات ونسب الفوائد والبنك الاسلامي وقضايا الاستثمار والشركات وغيرها. وهكذا لبقية حقول العلم والمعرفة المستجدة بحيث يكون للاسلام رأي في جميع هذه الحقول وراي له اصالته وعلميته ورصانته مبني على اسس علمية وفقهية معاً.
إثارات وتساؤلات
هناك العديد من المصطلحات السياسية والدولية التي اعتدنا على التعامل بها نتيجة نفوذ الفكر السياسي الغربي الذي ساد العالم الاسلامي. واصبحت هذه المصطلحات جزء من مكونات البحث والتحليل السياسيين، بالرغم من انها تمثل الاتجاه السياسي والفلسفي المستقاة منه والذي صبغها بطابعه ومنحاه، الا اننا مع ذلك لا نجد مناص من استخدامها خاصة وان بعضها اصبح امراً واقعاً في اي حديث أو بحث سياسي أو دولي. والحاجة ماسة إلى توضيح مدلولات هذه المصطلحات نظرا لاختلافات المدارس السياسية باعتبار انها وضعت اصلاً لمواكبة احتياجات ومتطلبات تلك المناهج، ولا يمكن استخدامها على علاتها في النظرية الاسلامية ولكن ابتداء ستبقى التسميات والمسمّيات حتى نضع غيرها.
هذه التساؤلات والمصطلحات تبرز كمعالم للمنهج المبتغى:
هل ينسجم مفهوم (السيادة القومية أو الوطنية) مع الاسلام؟
هل يعني (الاعتراف الرسمي) بدولة أو حكومة اعترافاً بشرعيتها واحقيتها؟
ماذا تعني مصطلحات (الامة، الشعب، الدولة، الاستقلال) في المفهوم الاسلامي؟
هل يعترف الاسلام بـ(الحدود الجغرافية وقيمة الارض والتراب)؟
هل يؤمن الاسلام بـ(عدم التدخل بالشؤون الداخلية) للمسلمين المظلومين في بلاد اخرى؟ وما هو مفهوم (الرعايا) بنظر الاسلام؟
هل يعطي الاسلام (الحصانة الدبلوماسية) للسفراء والدبلوماسيين الاجانب في دولة الاسلام؟
هل تعتبر احكام (المحكمة الدولية) وقرارات (الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي) ملزمة شرعاً؟
هل يمكن اعتبار (الوصول للسلطة) سبباً لاكتساب الشرعية في الحكم؟
هل يعتبر (القانون الدولي) أو (العرف الدبلوماسي) امراً لا محالة منه؟
ما هو رأي الاسلام بصدد: الارهاب، التجسس، نزع السلاح، الردع، القروض الدولية، الاستثمارات الاجنبية، الجمارك، التبادل الثقافي، حقوق الانسان، الحرية الديمقراطية، التمييز العنصري ـ اللغوى ـ الطائفي، مفهوم القوة، الامن القومي، المصالح القومية، الحكم الذاتي، الاتحاد الفيدرالي..
ولا يخفى ان للاطروحة الاسلامية مصطلحات خاصة بها برزت بوضوح مع تصاعد الصحوة الاسلامية، وهي بحاجة إلى تفسير وتطوير وابتكار مصطلحات اخرى مستعدة من منهج الاسلام، اضافة إلى ايجاد بدائل لمصطلحات وضعتها الحكومات المعادية للاسلام مثل المتطرفين، الاصوليين، تصدير الثورة، المتزمتين. وتركيز التعامل بالتسميات الاسلامية وفق الدلالات الخاصة بها ليكون تداولها شائعاً ومفهوماً في الاوساط السياسية والصحافة والاعلام والجماهير.
استقراء المنهج الاسلامي العام
خلال قرون متطاولة، والبعد التاريخي عن التجربة الاسلامية الاصيلة، وبسبب عوامل الهزيمة التي لحقت بالمسلمين، وتشتت دولهم، وتقسمت بلادهم إلى ما يزيد على خمسين بلداً، وتأثير الغزو الاستعماري الذي لم يقتصر على الصعيد العسكري بل امتد واتسع وشمل كل الجوانب الحياتية، الاقتصادية والاقتصادية، ولعل اخطرها هو الهزيمة الثقافية والفكرية امام الحضارة الغربية، حتى عادت مبادئها ونظرياتها متغلغلة في التفكير العام للمسلمين. واصبحت الثوابت التي اوجدتها قوانين في نظر البعض. ولسنا بصدد مناقشة مدى التخريب الثقافي الذي حاق بالمسلمين سواء بالغزو الغربي أو بالابتعاد عن المنابع الاصيلة للفكر الاسلامي الصحيح، واقتصار الايمان بالدين والعقيدة على بعض الطقوس والممارسات العبادية الا ما ندر. هذه المناقشة احتلت مساحة جيدة بعد النهضة الاسلامية وشعور ابناء الاسلام بضرورة العودة إلى تراثهم الغني وتاريخهم المجيد، واستلهام عناصر القوة والمنعة منه، مستظلين بالفكر الاسلامي المتجدد.
لقد افرزت حركة التفكير الاسلامي في ظل الاوضاع البائسة للبلاد الاسلامية، وفي ظل ظروف القهر والهزيمة النفسية والروحية والفكرية، عدة آراء واجتهادات حول المنهج الاسلامي للتعامل مع العالم الخارجي أو ما نسميه بالاتجاه الاستراتيجي للسياسة الخارجية للدولة الاسلامية. وتراوحت هذه الآراء من حالة الاستسلام إلى الدفاع، إلى الهجوم: وهي:
الاتجاه الاول: «الاسلام العدواني»
ويعتقد اصحاب هذا الراي بان طبيعة الاسلام عدوانية، وانّه استطاع ان يوسع رقعته ونفوذه بالعنف والسيف حيث اخضع الشعوب المجاروة له بالقوة. وان الجيوش الاسلامية خاضت حروباً طاحنة ومعارك ضارية من اجل التوسع والاستحواذ على ثروات الامم المجاورة والدول القائمة آنذاك. وان طبيعة تكوين الفرد المسلم ضمن الاطار الحاكم للدولة الاسلامية هي طبيعة ذات نزعات عدوانية تغذيها روح العداء والحقد لغير المسلمين وخاصة المناوئين لهم من اصحاب الافكار والمبادىء التي ترفض ما يحاول المسلمون فرضه بالقوة. وان النظام الحاكم للدولة الاسلامية ذو اتجاه عسكري، حيث كان كل مسلم يحتفظ بسلاحه ودرعه وفرسه في بيته استعداداً للمشاركة في اية عملية عسكرية أو غزو مسلح ضد شعب أو امة أو حدود دولة من اجل الفوز بالغنائم التي كانت تشكل دافعاً اساسياً للمشاركة. وان الاحكام الاسلامية وخاصة ما يتعلق بالمعتقدات الفكرية وقضايا التوحيد والمعاد تتضمن اجراءات قاسية وممارسات صارمة مستمدة من عناصر الاجبار والقهر والشدة والتطرف.
واصحاب هذا الرأي يتمثل بصورة رئيسية بالمستشرقين والمفكرين المسيحيين ورهبان التبشير المسيحي، حيث انهم قد وجدوا العقيدة الاسلامية تقف سداً كبيراً امام التوسع الاستعماري عندما كانت حملات التبشير تمثل طلائع الغزو العسكري. ويراد بهذا الطرح سلب الاسلام من كل الجوانب الانسانية والاخلاقية، واسباغ صفة العدوان والقسوة والشدة عليه لتنفير المسلمين منه اولاً، وزيادة في سعة الفجوة بين المسلمين وعقيدتهم، ومن ناحية اخرى بذر الشكوك امام الذين يرغبون بدخول الاسلام.
وهناك شواهد ومصاديق كثيرة تؤيد الهاجس الكبير والقلق العظيم الذي كان وما يزال يملأ نفوسهم ويسيطر على تفكيرهم من عودة الاسلام للحياة. وهذه الافكار المبثوثة في بطون الكتب والدراسات ومغلفة بعناوين جذابة كالدراسات الموضوعية والبحث العلمي، والبحوث الاكاديمية وباقلام كبار المؤرخين واساتذة التاريخ والسياسة والعلوم الاجتماعية والفلسفة وغيرهم. وقد تصدى للرد على تلك الشبهات العديد من الاسلاميين والمفكرين، وشغلت هذه القضية اهتماماً كبيراً لدى المتصدين للعمل الاسلامي والمؤمنين به، الذين آثروا الوقوف بصلابة امام السيل الجارف من التشكيك والمغالطات والاباطيل التي نسجت حول الاسلام(1).
ولم يقتصر اصحاب هذا الرأي على المستشرقين والمفكرين الغربيين بل انهم نقلوه إلى تلامذتهم وطلابهم الذين تربوا على نهجم، ونهلوا من علومهم وآرائهم وتشبعوا بافكارهم ونظرياتهم ومنها نظرتهم نحو الاسلام. فكتب بعضهم صراحة، وآخرون لمحوا تلميحاً، والكل ينطلق من الارضية التي يقف عليها. ولم يقتصر الامر على فئة معينة بل اشترك في ذلك كل اعداء الاسلام ومن مختلف التيارات السياسية والفلسفية، اضافة إلى جمهرة من العلماء المفكرين الذين انبروا لكتابة التاريخ أو التعليق عليه، محاولين بذلك اسقاط قدسية الاسلام وماضيه المجيد من اذهان الطبقات المثقفة التي اعتقدت بان البحث الموضوعي ومباني العلم الحديث تستدعي اعادة النظر بالتاريخ السياسي للمسلمين وكأن اعادة النظر يعني الايمان بما كتبه المستشرقون واعداء الاسلام دون رؤية وتمحيص والكشف عن تزوير الحقائق وتزييف الاحداث واختلاق دوافع ومبررات لم تخطر على بال احد آنذاك.
الاتجاه الثاني: «الاسلام المسالم»
وقد برز هذا الرأي كأفراز عرضي للمنحى الدفاعي الذي اتخذه الاسلاميون الذين انبروا للدفاع عن العقيدة الاسلامية، وتحليل وتفسير التاريخ الاسلامي بنظرة موضوعية عادلة. فكانوا يأتون بالادلة والبراهين لنفي التهم والشبهات التي اثيرت حول الفتوحات الاسلامية في القرن الهجري الاول، وان العمليات العسكرية لم تكن غاية لذاتها بقدر ما كانت وسيلة لازالة العوائق السياسية والسدود السلطوية والقيود الاجتماعية والقانونية التي تكبل العقل البشري وتكبت الفطرة الانسانية نحو التكامل والسمو من خلال التعرف على مبادىء العقيدة الاسلامية واسس التوحيد والمعاد والنبوة، والسجايا الانسانية والقيم الاخلاقية التي يبشر بها الاسلام.
وضمن السياق العام للحالة الدفاعية التي اتخذها المدافعون عن الاسلام، اتجه بعضهم أو تمادى في هذا الطرح، وحاول ان يعطي لرأيه وموقفه مرتكزات شرعية مستنبطة من الاسلام والقرآن الكريم، فأخذ يعرض الاسلام بانه دين سلمي فقط، لا يحبذ على القتال والثورة، وان السلم والسلام منهج اصيل في
______________________________________
1- تراجع مثلاً كتابات السيد محمد حسين فضل الله، «اسلوب الدعوة في القرآن» و«الاسلام ومنطق القوة».

استراتيجيه، وانّه غير مهتم بما يجري في العالم ما لم يمس حدود الدولة الاسلامية، وانّه لايقاتل الا الذين يقاتلون اهل دار الاسلام داخل حدود هذه الدار أو الذين يهددونها من الخارج! فاصبحت العهود والمواثيق غاية مطلوبة لتأمين عدم الاعتداء وليست حالة مؤقتة تقتضيها الظروف. واخذ بعضهم يفسر النصوص القرآنية المتعلقة بالجهاد والقتال بصورة مشوهة عقيمة بعيدة عن جو الاسلام والقرآن. واخذوا يحملونها الواقع المهزوم الذي يعيشونه، أو يتمسكون باحداث وقضايا وقتية مارسها الرسول الكريم (ص) واعتبروها حالة عامة ودائمة في الاسلام. وصارت مقولات هذا الدين دين المسلم والسلام سيفاً بوجه كل من ينفض الغبار عن الفرائض المنسية كالجهاد والدعوة إلى الاسلام. فاصبحوا لا ينظرون ابعد من انوفهم، وتلك حالة المهزومين (فالمهزومون الذين يحاولون ان يلووا اعناق النصوص لياً ليخرجوا من الحرج الذي يتوهمونه في انطلاق الاسلام ليحرر البشر في الارض كلها من العبودية لغير الله. ينسون هذه الحقيقة الكبرى... وهي ان هناك منهجاً ربانياً، العبودية فيه لله وحده يواجه مناهج بشرية العبودية فيها للعبيد. ان للجهاد المطلق في هذا الدين مبرراته النابعة من ذات المنهج الالهي، فيراجعها المهزومون الذين يحملون هزيمتهم وضعفهم على هذا الدين) كما رأى سيد قطب(1).
وإذا كان هذا الاتجاه قد تغلغل في بعض الاوساط من اهل السنة وخاصة اصحاب الاتجاه السلفي أو الاصلاحي، كصاحب المنار الشيخ رشيد رضا واستاذه محمد عبده، كما ذكر سيد قطب، فان هناك اتجاه مشابه لدى بعض الاسلاميين من الشيعة ولكن يتخذ مبررات وذرائع اخرى. فالقسم الاخير يعتقد باستحالة أو عقم المحاولات الرامية لنشر الاسلام لان القوى المتعاظمة للاستكبار العالمي وقدراته العسكرية والسياسية والاقتصادية لا يمكن مواجهتها دون اللجوء للقوة الاعجازية، ولا يوجد من يستطيع ذلك اليوم خاصة على الوضع المتخلف للمسلمين، فلا يبقى سوى امل انتظار ظهور المهدي (عج) والذي بشر به الرسول (ص) وائمة اهل البيت (ع) فهو الذي سيتولى هذه المهمة الشاقة بامكاناته وقدراته الفائقة لقدرات البشر. واصبحت العقيدة المهدوية بذلك الطرح منهجاً سائداً لدى بعض الاوساط الدينية والحوزوية وهو منهج يصب في النهاية امام اي منهج يعتبر الاطروحة الاسلامية قابلة للتحقيق وادارة البلاد وكقوة معترف بها على الصعيد الدولي والحضاري.
الاتجاه الثالث: «الاسلام الواقعي»
وقد تبلور هذا الرأي في العقود الاخيرة من القرن العشرين، في المرحلة التي وثبت فيها النهضة الاسلامية الحديثة بكل عمقها واتساعها، وعلى كافة اصعدة الفكر والفلسفة والتاريخ والثقافة. ويتلخص هذا الاتجاه بالنظرة الواقعية للاسلام بكل شموله دون تبعيض أو تجزأة للاحكام أو التصورات المستقاة منها. وباعتماد الاتجاه الموضوعي لتفسير الاحداث والقضايا التاريخية وتطابقها مع الشريعة الاسلامية، واستنباط المنهج العام لتعامل الاسلام مع الشعوب والامم، بشكل يحفظ للتاريخ مجده ورونقه، ويبعث الحافز للتفاعل مع المفردات الحضارية للعصر الحديث، فلا تفريط بالتراث الاسلامي أو النظر إليه بروح العداء أو تحميله فوق ما يستطيع، ولا بالاعتزال السياسي عن المجتمع الانساني والساحة الدولية.
______________________________________
1- في ظلال القرآن، سيد قطب ج10، ص 108، وما بعدها.

فعناصر القوة في الاسلام وخاصة منها ما يتعلق بعلاقات الدولة الاسلامية مع الخارج يجب ان يتعامل معها وفق ما اراد الاسلام وما فرضته الشريعة، وتبقى الاهداف العامة اسساً لأي منهج يصاغ لوضع استراتيجية للتحرك خارج الحدود مع النظر لمتطلبات الوقت واولويات كل مرحلة، ودفع العناصر المتحركة فيها نحو الابداع والانطلاق دون تقيدها بالاوهام والمخاوف والهواجس الا مع ما حدده الاسلام ورسمته الشريعة.
ولعل اهم نقاط التقاطع في الاتجاهات الثلاثة هي قضايا الدعوة للاسلام والجهاد في سبيل الله، وهي جزء من مرتكزات السياسة الخارجية التي يتبناها الاسلام في الدولة الاسلامية كاهداف استراتيجية عامة، ولا يعني ذلك عدم الالتفات للاهداف الاخرى التي تفرضها متطلبات الدولة واقتصادها وامنها ووضعها السياسي واعداد البنى التحتية لمسلتزمات الاهداف الاستراتيجية البعيدة المدى.
ويعتمد اصحاب هذا الاتجاه المنطق القوي في الاستدلالات على صحة هذا المنهج سواء في تحليل وتفسير الاحداث التاريخية أو في استنباط الموقف اللازم لمواجهة قوة أو حدث ما أو في التدليل على الغاية النهائية لنزول الرسالة السماوية الاخيرة وهي الاسلام، في سبيل نشر دين الله بين (الانسانية) وعلى كل (الارض).
فالواقعية التي يعتمدها اصحاب هذا المنهج مستمدة من واقعية الاسلام وملائمته للفطرة البشرية وحاجات المجتمعات الانسانية في مواجهة الحالات العامة والخاصة، الثابتة والمتغيرة، واعتماداً على قدرة الاحكام والفقه الاسلامي على التكيف مع متطلبات المرحلة الراهنة، والتعامل مع المفردات الحديثة بثقة وحزم. فاذا كان الرسول (ص) قد بعث لانقاذ البشرية من الشرك والكفر والظلم فهل يتم ذلك بالانكفاء والعزلة ام بالانطلاق والتحرك؟
يقول سيد قطب «ان البعض لا يلتفت إلى طبعية المنهج الحركي في الاسلام ومواجهته للواقع بوسائل متكافئة. فهو يحيل الاحكام النهائية الاخيرة على النصوص المرحلية قبلها، دون التفات إلى ان النصوص السابقة كانت تواجه حالات واقعة غير الحالة التي جاءت النصوص الاخيرة تواجهها. وحقيقة ان هذه الاحكام ليست (منسوخة) بمعنى انّه لا يجوز الاخذ بها مهما تكن الاحوال ـ بعد نزول الاحكام الاخيرة ـ فهي باقية لمواجهة الحالات التي تكون من نوع الحالات التي واجهتها. ولكنها لا تقيد المسلمين إذا واجهتم حالة كالتي واجهتها النصوص الاخيرة وكانوا قادرين على تنفيذها. ان الامر في حاجة إلى سعة ومرونة وادراك لطبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي»(1) ويقصد بذلك اولئك الذين يتمسكون بالاحكام ذات الاتجاه السلمي دون الالتفات للنصوص الاخيرة التي تحمل نفس الطابع لكن ذا اتجاه هجومي ويقصد بها الاحكام التي نزلت في سورة براءة وهي من اواخر السور التي نزلت وتتضمن احكاماً نهائية حسب رأيه.
ويضيف قائلاً «كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية والتشريع، والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير الله، أو تجعل فيه شركاء لله..  هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول الله سبحانه
______________________________________
1- في ظلال القرآن، ج10، ص 125.

(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً)(1).
وللعلامة السيد محمد حسين فضل الله آراء متقدمة واجتهادت عصرية واقعية، فقد الف كتاباً حول «الاسلام ومنطق القوة»، تناول فيه مفهوم القوة في الاسلام وعناصر القوة وجوانبها. ويقول في جانب من تلك الدراسة القيمة في معرض رده على بعض الآراء.. «كما نريد  ان نرد على الفكرة المعادية للاسلام التي تحاول ان تصور الاسلام في صورة الدين المحلي الذي انبثق من تفكير بشري محدود بحدود البيئة الخاصة، لان التشريعات الحربية والسلمية تعيش في اطار الاشكال التاريخية التي رافقت عصر الدعوة، ولا تخرج عن هذا الاطار، فلا يمكن ـ والحال هذه ـ ان تمتد إلى عصور تاريخية اخرى، تختلف اوضاعها واشكالها في شؤون الحرب والسلم.. اننا نريد ان نفهم خطأ هذه الفكرة وضلالها من خلال الحديث الذي اثرناه، لنخرج بالنتيجة المشرقة التي تقدر شمول القواعد الاسلامية العامة للتشريع لكل حالات التطور المعقولة في الحياة»(2).
ومع ان السيد فضل الله يبقى متحفظاً على حدود الجهاد واتساعه وخاصة الجهاد الابتدائي الا انّه يرسم الخط الصحيح للمنهج العام للنظرية الاسلامية حول الاتجاهين الاولين اللذين ذكرناهما آنفاً فيقول «ان كل ما نريده من هذا الحديث، هو ابداء التحفظات حول الفكرة التي يدعو اليها جمهور فقهاء المسلمين، من اعتبار الحرب اصلاً في الشريعة الاسلامية بحيث يحتاج السلم إلى مبرر. فربما كانت الفكرة الاكثر قرباً للاسلام، هي اعتبار السلم اصلاً لتكون الحرب قضية طارئة تخضع لمبرراتها، ولهذا ترجع إليه كلما زالت المبررات، أو ربما كانت قضية السلم والحرب خاضعة لمصلحة الاسلام والمسلمين، فليس احدهما اصلاً، ليكون الآخر امراً طارئاً، بل كل منهما اصل في اطاره وضرورة في موقعه.. اننا لا نستطيع ان نقرر من خلال حديثنا هذا، ان الاسلام لا يختلف عن اية عقيدة اخرى لا تخضع للمقومات الاقليمية والقومية، بل تمتد في مجرى الحياة الانسانية لتشمل العالم كله، من موقع المسؤولية الشاملة التي ترتبط بحياة الانسان بعيداً عن روح الغلبة والسيطرة والقهر والاستعلاء.. فهي تخضع في حربها وسلمها للخطة العامة الشاملة التي تتحرك في مصلحة الانسان..»(3).
ويذهب السيد كاظم الحائري وهو من الفقهاء المجددين ابعد من ذلك عندما يرفع القيد عن الجهاد الابتدائي والذي يتمثل في وجوب موافقة الامام المعصوم أو نائبه الخاص عليه، وخلافاً لما يعتقده فقهاء الشيعة من ان جهاد الفتح هو من شؤون وصلاحية الامام المعصوم، الا ان السيد الحائري يؤمن بان الجهاد الابتدائي في عصرنا الحالي كالجهاد الدفاعي بالنسبة لوجود المعصوم أو عدمه، ويستدل على مشروعية الجهاد الابتدائي انصباباً مطلقاً دون تقييد لا من حيث الزمان ولا من حيث قيد عصمة القيادة ولا من حيث القوى والكيانات التي نقاتلها ـ سوى قيد الشرك والكفر فيها ـ وسوى وجود امة تحمل راية التوحيد وتدعو لهداية الانسان ونشر الاسلام..(4).
______________________________________
1- في ظلال القرآن، ج10، ص 125.
2- الاسلام ومنطق القوة، السيد محمد حسين فضل الله، ص 226.
3- الاسلام ومنطق القوة، 223.
4- الكفاح المسلح في الاسلام، السيد كاظم الحائري، ص 10.

ان هذ القفزة العظيمة في الفقه الاسلامي تفتح الآفاق امام المسلمين للانطلاق نحو اداء الرسالة العالمية بكل اطمئنان وثقة وعزم وتمنح الامة والدولة الاسلامية مشروعية استخدام كل وسيلة شريفة ضرورية لنشر الاسلام وحمله للعالم وتحقيق الوعد الآلهي وايصال الهداية لكل انسان على هذه الارض.
ان اصحاب هذا الاتجاه الواقعي يمتازون بخصائص مشتركة تشمل السعة الثقافية والعمق الفكري والطرح الموضوعي، كما انهم اصحاب تجارب حركية وتنظيمية رائدة، ساهموا في التنظير للحركة الاسلامية الواعية وخدموا الاسلام والنهضة الاسلامية بكل اخلاص. وهناك سمة مميزة هي الانفتاح على العالم وعلى افكاره وتياراته واستيعاب الواقع ومفردات العصر والحضارة والتفاعل والتأثير في هذا الواقع بصورة لا تمسخ الفكر الاسلامي الاصيل ولا تطغى على الاسلوب الموضوعي المتين والنظرة الشاملة للمنهج الاسلامي والعلاقات الدقيقة بين عناصره ومكوناته.
مرتكزات النظرية الاسلامية للسياسة الخارجية:
قبل التعرض لتفاصيل هذه المرتكزات والمقومات التي نعتمدها في البناء الايديولوجي للسياسة الخارجية لابد من الاشارة إلى بعض الملاحظات التي تتعلق بهذا البناء:
1 ـ تمثل هذه المرتكزات القواعد الاساسية (بنظرنا) للسياسة الخارجية المستنبطة من الاحكام الاسلامية والنصوص القرآنية، والتي تشكل بمجموعها معالم النظرية الاسلامية المقصودة.
2 ـ ان هذه القواعد تمثل بناء واحداً متكاملاً لا يمكن الفصل بين اجزائه، فهي تدخل في الاطار العام لسياسة الدولة الاسلامية، ولا يجوز فصلها عن بقية النشاطات السياسية الداخلية وان كان الصعيد الخارجي هو الميدان الذي تتعامل به. فالسياسة الخارجية نشاط من الانشطة السياسية للدولة يتناغم مع مسيرتها وتوجهاتها ومبادئها.
3 ـ تبقى القيادة الاسلامية الشرعية المسؤولة عن تحديد اولويات كل واحدة من هذه المرتكزات أو تقديمها أو تأخيرها، وخاصة عند الاضطرار لتجميد العمل ببعضها واستمراره بالبعض الآخر وفق التصورات التي ترتأيها القيادة ومؤسسات القرار السياسي التي تملك صنعه.
4 ـ المصلحة العليا للاسلام والدولة الاسلامية عنصر ضابط لكل هذه القواعد، فيمكن تجاوز بعضها أو عدم الاعتناء بها طبقاً للظروف والمتطلبات التي يفرضها الواقع الميداني على الدولة. ولا يعني ذلك ضرب هذه المبادىء عرض الحائط باي شكل من الاشكال بل ان التعامل الواقعي مع الحالة الاستثنائية هو الذي يفرض ذلك. يبقى هذا الامر حالة مؤقتة تزول بزوال العارض أو العامل الذي استوجب التعامل معه على ذلك النحو.
5 ـ لا يعني التطرق لهذه المرتكزات هو حصرها بل يبقى باب الاجتهاد والاستنباط والاخذ بالتجارب السياسية التي حازتها المجتمعات الانسانية والامم الاخرى، مفتوحاً. وتبقى هذه المعالم بحاجة إلى صياغات جديدة وطرح عصري ينجسم مع الموقع الذي تمثله الدولة في المنظومة الدولية، والتعامل الصحيح والمنطقي مع الشعوب والحكومات. فالانفتاح على التجارب الانسانية يحقق التطور والتقدم إذا احسن التعامل معها بروح منفتحة خلاقة، ويوفر الجهد والمال والوقت على تكرار بعض التجارب الفاشلة. وعلى اية حال تبقى الاستفادة من خبرات وتجارب الآخرين جهداً جاهزاً وخزيناً حضارياًيمكن الانتهال منه واختيار ما يتوافق الاطروحة الاسلامية والمجتمع الاسلامي وبصورة لا يتناقض مع الاحكام الشرعية والمسائل الفقهية المستحدثة. أما اهم هذه المرتكزات فهي:
المرتكزات الاساسية
اولاً: سيادة الموازين الاسلامية:
السياسة الخارجية للدولة الاسلامية جزء من السياسة العامة للدولة. وان كانت بعض المؤسسات تعتبر مسؤولة عن تنفيذ هذه السياسة، الا ان ذلك لا يعني حصرها في هذه المؤسسات والدوائر، وخاصة فيما يتعلق بالاتجاه العام أو القضايا والاهتمامات التي يمكن للمسلمين عموماً ابداء الرأي بشأنها باعتبار انها جزء من الاطروحة الاسلامية التي يؤمنون بها ويدافعون عنها. ولان السياسة الخارجية هي الوجه الخارجي الذي تظهر به الدولة الاسلامية امام الشعوب والامم، فعلى ذلك تبقى السياسة الخارجية كبقية نشاطات الدولة مؤطرة باطار الاحكام والموازين الاسلامية وعلى ادنى المستويات. فلا يمكن لهذه السياسة أو النشاط ان يناقض هذه الاحكام أو تسير باتجاه معاكس للمنحى العام للدولة، أو يتجاوز القائمون عليها المسائل الفقهية والاحكام الشرعية تحت حجج وذرائع لا ترتكز على رأي لمرجع أو فقيه.
وهذه المقومات يجب ان تكون مستمدة من البناء الفقهي للاسلام بكل خصوصياته مثل:
1 ـ ان تكون منصوص عليها وليس اجتهادية.
2 ـ ان لا تكون منسوخة.
3 ـ ان تعتبر من الاحكام التكليفية.
4 ـ ان تتطابق مع السنة.
5 ـ ان تكون عامة ودائمة وليست متجزءة ومؤقتة.(1)
كما وان التعامل مع القواعد التي سيتم التطرق اليها سيكون وفق الاصول المعروفة في الفقه الاسلامي بكل ابعاده وتفاصيله. فلو حدث (تزاحم) بين قاعدتين تراعى الاصول في الاخذ بأخذها. وتبقى الضوابط الاسلامية سارية على السياسة الخارجية باعتبارها مفردة من مفردات السياسة العامة للدولة، فقواعد (لا ضرر ولا ضرار) و(مقدمة الواجب واجبة) و(الاستصحاب) وغيرها من القواعد الاصولية والفقهية. تراعى في كل خطوة من الخطوات أو في وضع منهج العمل أو خطوط السياسة الخارجية أو اتخاذ المواقف والتصريحات من قبل المسؤولين. ولا يعني ذلك تكبيل التحرك السياسي والدبلوماسي بمجموعة من القيود التي قد تحد من فاعلية التحرك الاسلامي، ففي الفقه الاسلامي لسعة ومرونة كافية وهناك صلاحيات لأولي الامر من تجميد بعض القواعد الفقهية أو الضوابط الاصولية إذا ما كانت المصلحة العليا للاسلام تستدعي ذلك.
ثانياً: لا سبيل للكافرين:
وهذا المرتكز مستوحى من الآية الكريمة (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) (النساء 141)
______________________________________
1- مجلة السياسة الخارجية، العدد 2، ص 228.

والسبيل يعني الطريق، ولكن يعني به ايضاً الشريعة والقانون، وهذا ما تعنيه الآية الكريمة. واما المقصود بـ(لن يجعل) اي النفي الابدي والاستحالة الدائمة التي يفرضها الله سبحانه وتعالى. ويفهم من الآية بان الله سبحانه لم يجعل هناك اي طريق مفتوح لتسلط وتغلغل الكفار على المسلمين. وان الشريعة الاسلامية اغلقت كل الطرق التي يمكن للكافرين ان ينفذوا منها الاستيلاء على المسلمين(1).
ويمكن تطبيق هذه القاعدة على العلاقات الخارجية بان انشاء اية علاقة أو تعاون أو صداقة أو معاهدة أو حلف بحيث يؤدي في النهاية إلى تسلط الكافرين على المسلمين وبلادهم ومقدراتهم فانها حرام. فهذه القاعدة تقف بالمرصاد لكل اتفاق سياسي أو اقتصادي أو عسكري وحتى ثقافي يستشعر منه بانه سيكون ممهداً وارضية لهيمنة الكافر على المسلمين.
وقد يعتقد البعض بان قصد الآية هو سد الطرق الفيزياوية أو التكوينية أو تسلط الكفار ولكن ذلك الامر لا يرتبط بالشريعة قدر ارتباطه بالمسلمين انفسهم، ويتبع لمدى وعيهم وادراكهم وفعاليتهم في الذود عن حمى الاسلام، والاستقلال بعيداً عن النفوذ الاجنبي، وسعيهم للاكتفاء الذاتي في احتياجاتهم كي لا يقعوا فريسة للهيمنة الاجنبية. ولكن يقصد أو يفهم منها ان الله سبحانه وتعالى اغلق جميع السبل التي يمكن للكفار ان يتسلطوا على المسلمين عبر الطرق التشريعية أو القانونية. أو بمعنى آخر انّه لا يوجد هناك مجال افسحته الشريعة الاسلامية يمكن للكفار ان ينفذوا خلاله، وإذا حصل ذلك فليس بسبب الشريعة بل لان المسلمين انفسهم لم يراعوا مقررات وضوابط الشريعة بصورة دقيقة فوقعوا تحت التسلط الاجنبي. ويمكن استشعار ذلك من استخدام لفظة (لن) ولم تستخدم (لم) اذ تفيد الاولى في النفي الابدي، سواء على الصعيد الزمني أو من اللحاظ التشريعية.
وقد اجمع الفقهاء على هذه القاعدة بانه لا يوجد في الاسلام قانون يؤدي إلى تسلط الكفار على المسلمين(2). فالشريعة الاسلامية لن تسمح ابداً بتسلط الكافرين على المسلمين ومهما كانت الحجج والذرائع.
ولا يعني الالتزام بهذه القاعدة هو الانعزال والانكفاء بل يعني الحذر والحيطة في التعامل مع الدول الاخرى. فأية دولة لا تستغني عن الحاجة إلى الخبرات الاجنبية والشركات والعلوم والتكنولوجيا في مختلف ميادين النشاط الانساني واستخدام المستشارين الاجانب وابرام العقود مع الشركات الاجنبية امر لابد منها في طور النمو والتطور الا ان كل ذلك يجب ان لا يؤدي إلى الهيمنة الاجنبية والنفوذ السياسي والاقتصادي وهناك تجارب معاصرة مثل فتوى السيد محمد حسن الشيرازي عام 1889 عندما اصدر فتواه الشهيرة بتحريم التدخين اثر الاتفاقية الجائرة التي عقدتها شركة بريطانية (ريجي) مع ناصر الدين شاه ايران. وافتتح الامام الخميني (قدس سره) بيانه الشهير عام 1964 بالآية المذكورة مندداً بلائحة (الحصانة القضائية) المعروفة باسم (الكابتولاسيون) التي وافق عليها نظام الشاه محمد رضا بهلوي والتي قضت بعدم وقوف أو استجواب الرعايا الاميركيين المتهمين بارتكاب جرائم في ايران امام المحاكم الايرانية.
ان العلاقات بين الدول الكبرى والبلدان الاسلامية بقيت طوال القرنين الماضيين محكومة بمعادلة الطرف
______________________________________
1- الفقه السياسي الاسلامي، ابو الفضل شكوري، ص 386.
2- الفقه السياسي الاسلامي، ج2، ص 391.

القوي والطرف الضعيف. وبقيت عمليات النهب الاستعماري والغزو والاستلاب الفكري والهيمنة الاقتصادية والسياسية ماضية وان اختلفت اشكاهلا وصيغها. وبعد بروز الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى منافسة للقوى الرأسمالية الغربية واشتداد الصراع بين المعسكرين كانت الدول الصغيرة تجد فسحة من التحرك في فجوة التنافس وتصارع المصالح للمعسكرين. ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي واستفراد اميركا بالعالم كقوة عظمى مهيمنة على جميع الشؤون السياسية والدولية والاقتصادية، اصبح التعامل مع الغرب في غاية الصعوبة، فاما الانصياع والرضوخ للهيمنة الغربية واما المواجهة الفاشلة خاصة على الصعيدين العسكري والاقتصادي وتجربة العراق وآثارها دليل واضح على تلك المواجهة وفي نفس الوقت انذار لكل دولة أو حكومة تفكر في الخروج عن الخطوط الحمراء. وليس باستطاعة الدول الاسلامية تحقيق مصالحها كاملة في الاستقلال السياسي والاقتصادي نظراً لتشابك العلاقات والمصالح بين دول العالم وخاصة مع العالم الصناعي، ولم يبق هناك بد سوى الاعتراف بجزء من مصالح الغرب في بلداننا بهدف تحقيق مصالحنا، فمنطق النظام الدولي اليوم هو منطق المصالح والدول الكبرى تريد تحقيق مصالحها في بلادنا شئنا ام ابينا، تعاونا معها ام واجهناها ونعلم ان المواجهة خاسرة ولا سبيل للشعارات واللافتات السياسية. ان موازين القوى اليوم لا تسمح للدول الضعيفة بلعب دور قوي، اقليمي أو دولي، داخلي أو خارجي، فكيف يمكن اذن التوفيق بين مصلحة الدول الضعيفة ومنها بلداننا الاسلامية وبين مصالح القوى الكبرى؟ هناك تبرز الحاجة للوعي والادراك والتخطيط السليم ورسم الاهداف الممكن تحقيقها والمصالح اللازم تأمينها بشكل لا يتقاطع كلياً مع الموازين الدولية ولا يطمح إلى نفي مصالح الآخرين بصورة تامة. بل تهدف السياسة الخارجية إلى تحقيق اقصى مصلحة في ظل ظروف معينة والتكيف المستمر مع الظروف الطارئة والمتغيرة بهدف استمرار تحقيق المصالح الممكنة مع الاعتراف بمصالح الآخرين ومحاولة تخفيض مستواها ودرجتها قدر المستطاع بالاساليب السياسية والدبلوماسية بشكل يحفظ هيبة الدولة، واستمرار علاقاتها ومصالحها خدمة لشعبها ومستقبل اجيالها. فالدخول في اللعبة السياسية يستلزم الحفاظ على مصالح الدولة ومحاولة توسيعها واكتساب سبل وطرق اخرى باتخاذ وسائل سياسية ودبلوماسية متعارف عليها مع كسب الاصدقاء أو جعل مصالحهم من مصالح الدولة تفادياً للمواجهة مع القوى الكبرى. وهناك تجارب عديدة لدول استطاعت ان تسير اشواطاً نحو التقدم الاقتصادي والثبات السياسي بشكل مضطرد (كوريا الجنوبية، ماليزيا، سنغافورة، تايوان، هونغ كونغ).
ثالثاً: التولّي والتبرّي
التولي مشتق من الولاية اي النصرة. قال الراغب الاصفهاني في المفردات: الولاء والتوالي ان يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد.
والموالاة تعني الارتباط والاتباع المعنوي والمادي للمتولى.. والولاء يكون على اربعة ابعاد:
الاول: ولاء المحبة أو ولاء القرابة.
الثاني: ولاء الامامة بمعناها الديني اي المرجعية.
الثالث: ولاء الزعامة والقيادة الاجتماعية والسياسية.
الرابعة: ولاء التصرف أو الولاية المعنوية والتكوينية والتي هي اسمى مراحل الولاية(1). ومنها اشتق الولي اي الحاكم والقائد الذي يتولى الامور. واما التولي فهو من باب «التفعل» اي قبول الولاية. وهناك ترتيب للولاية في العقيدة الاسلامية تبدأ بولاية الله سبحانه وتعالى ثم ولاية الانبياء ثم ولاية الائمة المعصومين، وفي الفقه الشيعي تأتي ولاية الفقهاء الجامعين للشرائط اي مراجع التقليد.
اما مصطلح التبرّي فهو مشتق من البراءة، وكما يقول صاحب المفردات (اصل البرء والبراء والتبري التقصي مما يُكره مجاورته، ولذلك قيل برأت من المرض وبرأت من فلان). اي الابتعاد والنأي عن امر أو جانب.
فاذا كان الولاء فعل ايجابي باتجاه الولي، فالتبري فعل سلبي، ولا يمكن ان يجتمعا في امر واحد بل المقصود هو تولي المؤمنين والتبري من الكافرين. وهذا الاصل يرتكز مبدئياً على النصوص القرآنية العديدة التي تؤكد بان مفهوم التولي والتبري هو ركن اساسي في انشاء العلاقات مع الآخرين.
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين) (آل عمران، 28).
(يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين اولياء من دون المؤمنين) (النساء، 144).
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض) (التوبة، 71).
(يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء) (المائدة، 51).
(لا تتخذوا آباءكم واخوانكم اولياء ان استحبوا الكفر على الايمان) (التوبة، 23).
(يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم اولياء) (الممتحنة، 1).
فهذه المجموعة من الآيات الكريمة تؤكد على اتخاذ المؤمنين اولياء بعضهم البعض. وهي تشخص الاتجاه العام للمؤمنين في ارتباطهم السياسي والعاطفي بحيث تشكل منهم معسكراً موحداً أو جبهة واحدة. وليس العلاقات مع الكفار دون ضوابط أو قيود، صحيح انها تقام من اجل المصلحة الاسلامية فلا يعني ان الانفتاح على الكفار يكون مطلقاً ويصل إلى مستوى المحبة القلبية والصداقة الحقيقية. كما ان الشريعة الاسلامية لا تسمح حتى بحالة اللامبالاة تجاه القوى الاجنبية بل تضع حدوداً واهدافاً تخرج المؤمن من حالة اللابالاة إلى الالتزام واتخاذ المواقف الذي تطلبه منه الشريعة. ويصف القرآن من يتمادى في علاقاته مع الكفار إلى مستوى الارتباط والمحبة والولاء، بالمنافق حيث قال تعالى:
(بشر المنافقين بان لهم عذاباً اليماً، الذين يتخذون الكافرين اولياء من دون المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعاً) (النساء، 137 ـ 138).
والسياسة الخارجية للدولة هي التي تحدد اولاً المعايير والموازين التي تصنف بها الدول والكيانات والحكومات كي يمكن تحديد السياسة الخاصة بكل منها حتى تبنى هذه السياسة على اسس واضحة الرؤية ومحددة المعالم. فيتم تصنيف الدول والانظمة إلى دوائر وكتل حسب انتمائها وتبعيتها السياسية ومتبنياتها العقائدية وارتباطاتها الدولية ومواقفها الخارجية وسياستها الداخلية تجاه الاسلام والاسلاميين. فميزان التقارب مع الدول يأخذ بعين الاعتبار مسائل عديدة. فلا يمكن توقع علاقات الدولة الاسلامية مع الدولة الكافرة اقوى من علاقاتها مع الدول المسلمة وان كانت الاخيرة منحرفة، فالمشتركات بين الدولتين
______________________________________
1- الفقه السياسي الاسلامي، ص 519، نقلاً عن «الخلافة والولاية في نظر القرآن والسنّة» للشهيد مطهري، ص 337.

المسلمتين اوسع من اية عناصر مشتركة مع دولة كافرة. بالطبع لا يكون ذلك على حساب مصلحة الدولة وعلاقاتها الاقتصادية وعلى حساب الانحياز (لنصرة المظلوم ومخاصمة الظالم). فهذا الاخير يفتح آفاق التعاون حتى مع غير المسلمين من اجل الحق ومواجهة القوى الظالمة اينما كانت وفق الموازين الدولية والاعراف السياسية بعيداً عن التطرف والمبالغة والعواطف.
رابعاً: الجهاد
اتسم التاريخ الاسلامي بسمة الجهاد باعتباره اهم ركائز الاستراتيجية الاسلامية في العلاقات الخارجية والصفة البارزة في التعامل مع الشعوب غير المسلمة. وساعد التراكم التاريخي لآثار الفتوحات الاسلامية، والتي اتسمت بعنصر الجهاد كمحرك اصلي ودافع رئيسي للجيوش الاسلامية على مستوى الافراد أو القيادة، في ان يصبح الجهاد أو الحرب المقدسة (Holy War) كما يسميه الغربيون هو محور الفكر الاسلامي في التعامل مع الآخرين. ولا يزال الجهاد يمثل المخزون الثوري القادر على تحريك الشعوب المسلمة في حالة الخطر باعتباره يرتكز على اسس عقائدية بحتة لان الجهاد يمثل مرتبة عالية في الحياة الآخرة اضافة إلى الاتصالات الدنيوية المتحققة بسببه.
استراتيجية الردع
يعتبر المفكرون السياسيون ان نظرية (الردع) الاستراتيجي قد انفرزت بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد دخول القوتين العظميين في الحرب الباردة في الخمسينيات. وتعتمد اسس هذه النظرية على التلويح بالقوة العسكرية والتطور التكنولوجي للاسلحة لاجبار دولة أو دول لاتخاذ سياسة معينة لا تناقض سياسة الدولة التي تلوح بالقوة. فالتأثير المعنوي على الطرف الآخر وجعله في حالة خوف من مغبة مواجهة الطرف القوي كفيل برضوخه على اتخاذ سياسة أو مواقف تنسجم أو لا تعادي الطرف القوي.
والاسلام لم يكن ليجعل دولته في مهب العواصف الدلية تتقاذفها القوى الكافرة بل سعى لتحقيق القدرة الدفاعية والهجومية للمسلمين عبر تبنيه لمرتكزات هذه القوة في صياغات ايديولوجية غير قابلة للتأويل أو التفسير بعيداً عن الاغراض التي استهدفتها الشريعة. فالآية الكريمة:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
واضحة الاهداف في الاعداد وقدر الاستطاعة، اي دون تحديد أو تقييد لهذه القوة ـ اي اقصى قوة ممكنة. كل ذلك يجعل آفاق التحرك والنشاط السياسي والعسكري مفتوحاً امام القيادة الاسلامية. وليست محصلة هذه القوة التي تشمل ايضاً الجوانب الاقتصادية والثقافية الا ان توجه في مسار استراتيجي يعتمد الواقعية في التعامل مع الانظمة والدول. فيكون الاتجاه نحو (الرهبة، الارهاب) اي التخويف أو الردع اي ردع عدو الله وعدو المسلمين.
والجهاد يمثل مرحلة متقدمة اي انحياز ميداني للاقتدار العسكري الذي اعتمدته استراتيجية الردع. وهو الوجه الآخر اي (الفعل) لـ(القوة).
والجهاد على نوعين:
الجهاد الابتدائي: اي الابتداء بالعمل العسكري من جانب المسلمين، والجهاد هنا يمثل المرحلة النهائية من سلسلة خطوات الدعوة للاسلام، تبدأ بالدعوة السلمية والنصح والارشاد والمجادلة والموعظة الحسنة والحوار الفكري الجاد لتنتهي بخيارات توضع امام الطرف الآخر هي:
1 ـ الايمان بالله والعقيدة الاسلامية.
2 ـ البقاء على دينه وكتابه السماوي ودفع الجزية ضمن التزامات اخرى.
3 ـ الدخول في صراع عسكري.
وهناك تفاصيل وافية حول هذا الامر في المصنفات الفقهية المختصة. والجهاد الابتدائي يستلزم اولاً الاطمئنان للقوة الاسلامية من مختلف الجوانب بحيث يحتمل النص والامل في دخول الآخرين في الاسلام. ولعل اهم الشروط الواجب احرازها قبل اعلان الجهاد الابتدائي هو وجود الامام المعصوم ويستلزم اذنه في ذلك. ويتفق فقهاء الشيعة في ذلك، فلا يعتبر الجهاد الابتدائي شرعياً ما لم يقترن بوجوده أو وجود نائبه الخاص دون النائب العام(1) ويحرم القيام به حال الغيبة اذ لا يجوز للفقيه العادل ان يدعو إليه ولا يحق له ان يعلن الحرب على الكفار ليدعوهم إلى الاسلام.
ويذهب صاحب (اللمعة) إلى اكثر من ذلك فيقول «ما لم يهدد الكفار المسلمين بخطر ولم يحتلوا اراضيهم ومدنهم وليس في نيتهم احتلالها فلا يجب البدء بحرب معهم»(2).
الجهاد الدفاعي: وهو اجراء احترازي أو مواجهة مباشرة مع عدو يهدد الدولة وسيادتها وامنها سواء كان داخل حدودها أو خارجها. يقول الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب «الجواهر»: «ان يدهم المسلمين عدو من الكفار، يخشى منه على بيضة الاسلام، أو يريد الاستيلاء على بلادهم واسرهم واخذ اموالهم»(3).
ويقول الامام الخميني (قدس سره) في «تحرير الوسيلة»: «لو غشي بلاد المسلمين أو ثغورها عدو يخشى منه على بيضة الاسلام ومجتمعهم، يجب عليهم الدفاع باية وسيلة ممكنة من بذل الاموال والنفوس»(4).
والدفاع عن الدولة وسيادتها وحدودها امر طبيعي وحق شرعي ليس للدولة فحسب بل لكل فرد أو جماعة انسانية، حيث تبقى مسؤولية المحافظة على كيانه ووجوده منوطة بتحركه ونشاطه واستعداده للدفاع عن ذلك الوجود. ولا يحتاج الدخول في تفصيلات هذا الامر باعتباره مفروغ منه سواء في القانون الدولي والنظم السياسية الحديثة والشرائع المساوية والوضعية كما ان العقل والفطرة يقرانّه بل يستوجبانه.
ولا يشترط الفقهاء الشروط التي يفترض توفرها في الجهاد الابتدائي، فالجميع مكلفون بالدفاع عن الاسلام والدولة الاسلامية ولا فرق بين كبير، صغير، ذكر، انثى، سليم ومريض. ولا يتوقف على حضور الامام أو نائبه واذنه ولا اذن نائبه الخاص أو العام بل لا يحتاج إلى مراجعة المجتهد المقلد أو المرجع فتقدير الدفاع عن بيضة الاسلام يعود إلى المكلف نفسه. ولا يوجد تقييد في الوسيلة أو الاداة أو الطريقة
______________________________________
1- من الفقه السياسي في الاسلام، محمد صالح جعفر الظالمي، ص 35، نقلاً عن كنز العرفان، ج2، ص 6 والرياض وباب الجهاد.
2- شرح اللمعة، ج1، ص 225.
3- من الفقه السياسي في الاسلام، ص 99.
4- تحرير الوسيلة، الامام الخميني، ج1، ص 485.

المستخدمة في الدفاع ولكن تبقى القيادة مسؤولة في تهيئة كل اسباب ووسائل الدفاع وبالاسلوب الذي يناسب الهجوم ليكون رادعاً له.
والعالم الاسلامي والمسلمون اليوم يعيشون في حالة دفاع ضد الهيمنة الاستعمارية للمحافظة على عقيدتهم ودينهم وتراثهم وثرواتهم وسيادتهم ومستقبلهم. وإذا كان الغزو العسكري يستوجب النهوض واداء الواجب بالدفاع عن الدولة، افلا يتطلب الغزو الثقافي والاقتصادي والسياسي موقفاً ورد فعل مناسب؟
ان عقيدة الجهاد الدفاعي لا تقتصر على الجانب العسكري والمعارك في ساحات القتال بل يتسع إلى اكثر من ذلك ليشمل الجوانب السياسية والاقتصادية. يقول الامام الخميني (قدس سره):
* لو خيف على حوزة الاسلام من الاستيلاء السياسي والاقتصادي المنجر إلى اسرهم السياسي والاقتصادي ووهن الاسلام والمسلمين وضعفهم، يجب الدفاع بالوسائل المشابهة والمقاومات السلبية، كترك شراء امتعتهم، وترك استعمالها، وترك المراودة والمعاملة معهم مطلقاً.
* لو كانت العلاقات السياسية بين الدولة الاسلامية والاجانب موجبة لاستيلائهم على بلادهم أو نفوسهم أو اموالهم أو موجبة لاسرهم السياسي يحرم على رؤساء تلك الدول الروابط والمناسبات، وبطلت عقودها، ويجب على المسلمين ارشادهم والزاممهم بتركها ولو بالمقاومة المنفية (السلبية)..(1)
ان الجهاد الدفاعي يبقى واجباً وتكليفاً يقتضي اداؤه في الوقت الحاضر وكل وقت، فالبلادالاسلامية اليوم مستباحة بفعل الهيمنة الغربية. ولا يمكن للدولة الاسلامية ان تقف موقف اللامبالاة والمتفرج امام عناصر التكبيل السياسي والاسر الاقتصادي للوطن الاسلامي. والسياسة الخارجية هي القادرة على استيعاب كل متطلبات الجهاد واداءه من جانب، وما يواجهه المسلمون في ظل حكومات منحرفة وانظمة ظالمة من جانب آخر. فالالتزامات المترتبة على الدولة الاسلامية تستدعي ان تتحرك في ذلك الاتجاه لمساعدة المسلمين لمقارعة تلك الانظمة الجائرة. والالتزام يعني الدعم والرعاية والمساعدة المالية والمعنوية. وهنا يأتي اهمية الحكمة في العمل والموازنة بين الواجبات الشرعية التي تتطلب الوقوف إلى جانب ذلك الشعب المسلم أو تلك الجماعة المسلمة وبين العلاقات والتعامل السياسي المعمول به على الصعيد الدولي وعدم الاصطدام واثارة السلطات الحاكمة. ويبقى التحرك الفاعل المتحفظ هو الاسلوب الامثل لدعم الجهاد الدفاعي. ويبرز هنا دور الدبلوماسية الاسلامية التي تستخدم اساليباً وطرقاً مناسبة للايفاء بمتطلبات التحرك دون التورط في نشاطات ساذجة مكشوفة تصبح دليل ادانة مما يحرج الدولة الاسلامية والطرف الآخر معاً.
قد يعتقد البعض بأن طرح موضوع الجهاد الابتدائي يبدو مبكراً نظراً لصعوبة المرحلة التي تمر بها البلدان الاسلامية أو المجازفة في الدخول في حروب ضارية مع الدول الكافرة من اجل اقناع ابناءها بالاسلام والافضل حصر التفكير بانقاذ المسلمين اولاً قبل هداية الكفار الذين يملكون جميع وسائل القوة والاقتدار، بل يبدو ان الدخول في صراع معهم يعني الهزيمة والفشل للمسلمين. وكل ذلك يبدو صحيحاً ولكن الخطر يكمن في حصر الفكر السياسي الاسلامي في أطر ضيقة يعني الانكفاء داخلها في احسن
______________________________________
1- تحرير الوسيلة، ج1، ص 486.

الاحوال. فآفاق التفكير السياسي والنظرة العامة للانسان والكون، والعناصر المتحكمة في نظرية العلاقات الخارجية في الاسلام يجب ان تبقى مفتوحة وواسعة ليتم التفاعل بين الاسس التي وضعها الاسلام والآفاق البعيدة في الستراتيجية العامة للاسلام. فاذا كانت الظروف الحالية التي يمر بها المسلمون عموماً تعرقل ترجمة هذه الاسس والمرتكزات على الواقع فلا يعني ذلك غلق الابواب امام التفكير بها وصياغة مقومات فكرية رصينة تستطيع استيعاب العالم وتثير الحماس في النفوس، وتشعر المسلمين بالدور العظيم الذي عليهم تأديته، وان لا يقنعوا برقعة جغرافية محددة عرفت تاريخياً بأنها وطن اسلامي، بل ان الارض كلها يجب ان تكون وطناً اسلامياً في يوم من الايام. والاسلام لا يفترض القيام بهذه المهمة المقدسة دفعة واحدة، والنهوض لمواجهة العالم في آن واحد، بل تبقى مسؤولية القيادة التي تمتلك كل مرتكزات الشرعية ومقومات الطاعة ان توفق بين الامكانيات المتاحة وبين تحقق هذا الهدف العظمى الذي نزلت الرسالة الاسلامية تبشر به ووصفت الرسول (ص) بانه مبشر ونذير للعالمين وان الدين كله لله. يقول السيد الحائري (ولا يمكن افتراض ان ديناً ما هو دين عالمي مع افتراض انّه يمتنع عن نشر سلطته على وجه الارض بالقوة الا بقدر ما يتطلبه الدفاع فهما افتراضان غير منسجمين، ذلك اننا نعلم ان سلامة الحجة وقوة المنطق لا تكفيان ابداً بالنسبة لكثير من الناس للانضواء تحت سلطة الحق ورايته، كما نعلم ان سيطرة الحق ولو بالقوة على كثير من الناس يؤهلم أو يدفعهم للتفكير فى الامر وتشخيص الحق)..(1)
خامساً: الاستجارة أو اللجوء السياسي
اشتقت لفظة (الاستجارة) من (الجوار) و(الجار) و(المجاورة) اي القرب. ولفظة الاستفعال (استجارة) تفيد الطلب اي تعني طلب المجارو أو اللجوء إلى الجوار. واما (الامان) فهو مصدر للأمن اي طمأنينة النفس وزوال الخوف..(2)
فالمعنى العام اذن يقصد به طلب اللجوء ومنحه، و(الآمن) يعطي للذي لا يملكه اي العدو أو المتهدد في خطر ويسمى عندئذ (المستأمن).
والاستجارة والامان هو احد مرتكزات السياسة الخارجية في الاطروحة الاسلامية. وقد اخذ اهتماما جيدا في المصنفعات والكتب الفقهية، وتناوله العلماء والفقهاء بالبحث والتمحيص، ومع انهم لم يفردوا له باباً خاصاً حيث جاء ضمن (كتاب الجهاد) في الرسائل العملية لعلاقاته بقضايا الجهاد والقتال والحرب، حيث تبرز اهمية اعطاء الامان وطلبه في تلك الظروف الاستثنائية.
والطرف المعني بالاستجارة هو العدو أو المشرك انطلاقاً من الآية الكريمة:
(وان استجارك احد من المشركين فأجره حتى يسمع كلام الله * ثم ابلغه مأمنه * ذلك بانهم قوم لا يعلمون) (سورة التوبة 5).
فلو رغب احد الكفار أو المشركين وطلب الاستجارة أو اللجوء إلى دار الاسلام ليسمع كلام الله ويتعرف على الاسلام وتعاليمه وشرائعه، فيجب ان يعطي الامان ليتمكن من الوصول إلى الحقيقة التي ينشدها وتتبدد تساؤلاته وشبهاته ويعود إلى بلاده بسلام وطمأنينة. واذ رغب بالاسلام وآمن به وآثر
______________________________________
1- الكفاح المسلح في الاسلام، ص 11.
2- معجم مفردات الفاظ القرآن، الراغب الاصفهاني، مادة أمن.

البقاء في حمى الدولة الاسلامية فذلك من حقه. والمتمعن فى هذه الحالة الاستثنائية والشروط التي ليس لها نظير في سائر العقائد يتيقن بعظمة الاسلام، ويستشعر الجانب الانساني في هذه الرسالة الخالدة. فاعطاء الامان يتم للعدو وتوفر له كل الاسباب والامكانيات الفكرية والامنية والمعاشية ليسلك طريق التكامل نحو الحقيقة، والتعرف إلى الاسلام من كثب وقناعة دون ضغط أو تهديد أو خوف، وهو مخير بعد ذلك بين الايمان والبقاء أو العودة أو بقاءه على شركه وهذه الحالة المثالية التي يهيأ الاسلام شرائطها تأتي في اوج الانفعالات النفسية وتصاعد العداء تجاه العدو، الا ان الاسلام يزيح كل هذه العوائق ويتعامل مع الناس عبر المفاهيم الانسانية المشتركة فيتيح الفرصة للعودة لله ونداء الفطرة السليمة حتى في احلك لحظات العداوة والبغضاء، وهو رد لكل الاتهامات التي تتهم الاسلام باكراه الآخرين على الايمان به.
عقد الاستجارة: يعرف العلامة الحلي «عقد الاستجارة» بانه (عقد الامان ترك القتال اجابة لسؤال الكفار بالامهال)..(1)
ويذكر العلامة الطباطبائي صاحب «الميزان» ان الغرض من الاستجارة هو «لسماع كلام الله» فيقول «فيتقدر الايمان الذي يعطاه المستجير المستأمن بقدره فاذا سمع من كلام الله ما يتبين به الرشد من الغي ويتميز به الهدى من الضلال انتهت مدة الاستجارة، وحان ان يرد المستجير إلى مأمنه والمكان الخاص به الذي هو في أمن فيه، لا يهدده فيه سيوف المسلمين ليرجع إلى حاله الذي فارقه، ويختار لنفسه ما يشاء على حرية من المشيئة والارادة». ويضيف «انما توجب اجارة المستجير إذا استجار لامر ديني يرجى فيه خير الدين، واما مطلق الاستجارة لا لغرض ديني ولا نفع عائد إليه فلا دلالة عليه اصلاً»(2)، فلا استجارة لاغراض التجارة والسياحة وغيرها بل هناك الامان وعقد الذمة للبقاء بتلك الاغراض المذكورة، وهناك قيود وضوابط منها:
1ـ لا يجوز الغدر بطالب الاستجارة أو اللاجىء أو تسليمه إلى العدو تحت اي عذر.
2ـ لا يعطى الامان أو اللجوء للقتلة والمجرمين.
3ـ لا يشترط في مانح اللجوء ان يكون مسؤولاً أو صاحب منصب بل يستطيع اي مسلم ان يمارس هذا الحق وعلى الدولة احترام عهده. فقد وافق الامام «ع» في احدى حروبه على امان منحه عبد مسلم لسكان قلعة كانت محاصرة فصادق عليه..(3)
اللجوء السياسي
اصبح اللجوء السياسي واحداً من المفاهيم الانسانية والسياسية التي تتعامل بها الدول وان اختلفت الاسباب والدوافع. فوضعت المعاهدات والبروتوكولات التي تنظم عمليات طلب اللجوء وقبوله وخاضعة للمفاهيم والاعراف الدولية. والدول التي توقع على تلك المعاهدات تصبح ملزمة باحترام تعهداتها وقبول اللاجئين اليها. واصبح من حق اي فرد يتعرض إلى اضطهاد وتمييز في العنصر، اللون، الدين، المذهب،
______________________________________
1- تذكرة الفقهاء، العلاّمة الحلي، ج1، ص 414.
2- الميزان في تفسير القرآن، العلاّمة الطباطبائي ج10، ص 158 - 159.
3- الفقه السياسي الاسلامي، نقلاً عن تذكرة الفقهاء، ج1، ص 414.

العرق أو تتهدد حياته بالخطر جراء انتمائه إلى جماعة أو اقلية معينة ان يطلب اللجوء السياسي في الدول الموقعة على تلك المعاهدة وهي اغلبها من الدول الاوروبية والصناعية. اما في بلداننا الاسلامية فما زال اللجوء السياسي يقتصر على الجماعات المؤيدة لنظام الدولة المستضيفة سواء في العقيدة أو الفكر السياسي اما اللاجئون الذين قد يعارضون أو لا تنسجم توجهاتهم مع نظام الدول المستضيفة لا مكان لهم فيها أو يقبلون دون كفالة معيشية أو أمنية أو سكنية أو غيرها.
واللجوء السياسي سمة حضارية تمارسها الدول حيث تمنح الامن والاستقرار للاجئين من مختلف بقاع العالم دون النظر لالوانهم وعقائدهم وانتماءاتهم. والاحرى ان يتم تشريع هذا القانون في بلداننا ورعايته استجابة لمآثر الاسلام والدين والانسانية.
لمن يمنح اللجوء السياسي؟
هناك عدة شرائح اجتماعية ودوافع عقائدية تجعل بالامكان منح اللجوء السياسي بعد توفر شروطها، وهم:
1ـ المهاجرون المسلمون: إذا اسلم الكفار وهو في بلادهم ثم تركوها ولجئوا إلى دار السالام وحمى الدولة الاسلامية، يستطيعون التمتع باللجوء السياسي والعيش بأمان وسلام على ارض الاسلام. ولا تستطيع الحكومة الاسلامية ان تجبرهم على العودة إلى بلادهم أو بلاد الكفر وفي جميع الاحوال والظروف ولا تستطيع كذلك مبادلتهم بالاسرى المسلمين عند العدو.(1)
والزوجات اللائي يسلمن ثم يهاجرن إلى دار الاسلام يصبحن مطلقات من ازواجهن الكفار بمجرد اسلامهن، وعلى الحكومة الاسلامية دفع مهورهن لازواجهن. ولو ارتدن وعدن إلى بلادهن فمن حق الدولة الاسلامية ان تطالب بما دفعته لهن.(2)
2ـ الكفار الشاكون الطالبون الحقيقة: وهم الذين يجلهون الحقائق والمعارف الاسلامية وهم في طريقهم للتوصل إلى التوحيد والايمان. فاذا رغبوا في دخول بلاد الاسلام للبحث والتحقيق فيستطيعون التمتع بالامان والحماية من اجل توفير الفرصة لهم لبلوغ ذلك الهدف السامي. فيمنحون اللجوء السياسي المؤقت والذي لا يستمر اكثر من عام واحد(3) كما يرى اغلب فقهاء الشيعة والسنة عدا الشافعي الذي يرى انها لا تزيد على اربعة اشهر(4) أو كما يرى آية الله اسماعيل الصدر بأن مدة الاقامة منوطة برأي الامام فهو يعينها تبعاً لما يراه من المصلحة. وبعد انتهاء الاجل يستطيع اولئك الكفار البقاء في دار الاسلام فيما إذا اسلموا أو رضوا بشروط عقد الذمة، عندها يمكنهم البقاء والعيش بصورة دائمة. وإذا لم يقبلوا بكليهما «اي الاسلام وشرائط الذمة» يمكنهم عندئذ العودة إلى بلادهم وحتى لو انفق من بيت مال المسلمين على تكاليف عودتهم.
3ـ المسلمون المضطهدون: الذين تتهدد حياتهم الخطر بسبب التزامهم بالاسلام وملاحقتهم من قبل
______________________________________
1- الفقه السياسي الاسلامي، ص 588.
2- الفقه السياسي الاسلامي، ص 589.
3- الفقه السياسي الاسلامي، ص 590.
4- التشريع الجنائي الاسلامي، عبدالقادر عودة، ص 482.

الحكومات المنحرفة. فالاولى ان يجدوا الاطمئنان والامن في حمى الدولة الاسلامية لانها مسؤولة امام جميع المسلمين ولا يمكن التخلي عن نصرتهم أو مساعدتهم أو تعريض حياتهم للخطر. فان آثروا البقاء بقوا وان صلحت الامور في بلدانهم امكنهم العودة اليها.
هذا ويمنح الامان للسفراء والمبعوثين من الدول الكافرة والقادمين إلى الدولة الاسلامية لاغراض سياسية ودبلوماسية، طوال فترة تواجدهم، فأرواحهم واعراضهم واموالهم مصونة. والرسول «ص» يقول: «لا يقتل الرسل ولا الرهن» اي حملة الرسائل والامانات.
والقوانين الدولية والمواثيق تنظم العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارات والقنصليات وسلوك وصلاحيات ممثلي البعثات الرسمية والدبلوماسية. وإذا ما ارتضتها الدولة الاسلامية فاللازم ان تحترمها وترعاها.
كما يمنح الامان للتجار الزوار والسواح الكفار وفق المفردات التي تضعها الدولة بل وباستطاعة حتى اتباع الدولة  أو النظام الذي هو في حالة حرب مع الدولة الاسلامية ان يدخلوها ويمارسوا نشاطاتهم التجارية والاقتصادية وغيرها.(1)
سادساً: المؤلفة قلوبهم
يقول الراغب الاصفهاني في المفردات في مادة «ألّف»:
الإلْف: اجتماع مع التئام. يقال ألَّفتُ بينهم، ومنه الاُلفة، والمؤلّف ما جمع من اجزاء مختلفة ورتب ترتيباً قُدِّم فيه ما حَقُّهُ ان يقدم واُخر فيه ما حقه ان يؤخر.
و«المؤلفة قلوبهم» هم الذين يُتحرى فيهم بتفقدهم ان يصيروا من جملة من وصفهم الله. فتأليف القلوب واحدة من السياسات العامة للدولة الاسلامية التي تنظم علاقاتها مع فئة أو فئات من المسلمين أو الكافرين خدمة لمصالح الدولة والاسلام والمسلمين.
يقول يوسف القرضاوي في «فقه الزكاة»: «المؤلفة قلوبهم الذين يراد تأليف قلوبهم بالاستمالة إلى الاسلام أو التثبيت عليه، أو بكف شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم، أو نصرهم على عدو لهم، أو نحو ذلك».(2)
والمعنى العام هو توفير الدعم المادي والحماية الاقتصادية لهذه الفئة أو تلك الجماعة لاستمالتهم إلى الجهاد والنصرة والايمان بالاسلام والدفاع عنه. وقد مارس الرسول «ص» هذه السياسة طوال حياته الشريفة استجابة لامر الله سبحانه وتعالى بوجوب تخصيص هذه المساعدة من الزكاة لانفاقهاعلى هذه الشريحة. جاء في قوله تعالى:
(إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) «التوبة 60»
______________________________________
1- الفقه السياسي الاسلامي، ص 592.
2- فقه الزكاة يوسف القرضاوي، ص 594.

من هم المؤلفة قلوبهم؟
هناك عدة آراء واجتهادات فقهية حول من تشملهم صفة «تأليف القلوب». فالبعض يعتقد انها مخصصة للكفار فقط، وآخر يعتقد انها للمنافقين وآخر يقول بأنها للمسلمين ضعاف الايمان وهناك من يقول بذلك كله. يقول الامام الخميني «قدس سره»: المؤلف قلوبهم، وهم الكفار الذين يراد الفتهم إلى الجهاد أو الاسلام، والمسلمون الذين عقائدهم ضعيفة، فيعطون لتأليف قلوبهم، والظاهر عدم سقوطه في هذا الزمان..(1)
ومن الفقهاء القدامى من يعتقد بأنها مخصصة للكفار كما هو رأي الشيخ الطوسي والشيخ المفيد(2). ويقول ابن الجنيد وهو من علماء الشيعة الاوائل بأنها تخص المنافقين(3) كما يرى الاسكافي هذا القول.(4)ويعتقد الشيخ يوسف البحراني صاحب «مجمع البحرين» و«الحدائق الناضرة» بأنها تخص المسلمين ضعيفي الايمان.(5)
والرأي الارجح انها اصل عام، ويشمل جميع المصاديق المذكورة كالكفار والمنافقين والمسلمين ضعيفي الايمان وأهل الثغور. ويميل إلى هذا الرأي فقهاء الشيعة الكبار كالشهيد الاول والشهيد الثاني. والشيخ الطوسي يصل إلى هذا الرأي في نهاية حديثة عن المؤلفة قلوبهم في كتاب «النهاية» ويقول بذلك ايضا المحقق الحلي.(6)
ويمكن تصنيف المؤلفة قلوبهم وفقاً للاراء المذكورة إلى:
1ـ الكفار: وهم الذين يراد الفتهم إلى الجهاد أو الاسلام اي استمالتهم بالاموال للايمان بالله والاسلام أو للجهاد إلى جانب السملمين في حروبهم. فقد اعطى رسول الله «ص» إلى صفوان بن أمية وكان مشركاً ثم اسلم. وروي ان الرسول «ص» لم يكن يُسئل شيئاً على الاسلام إلاّ اعطاه، فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثيرة، بين جبلين من شاء الصدقة.
قال فرجع إلى قومه فقال: يا قوم اسلموا فان محمداً يعطي من لا يخشى الفاقة(7) ويعطي للذين يخشى شرهم ويرجى باعطائهم كف شرهم غيرهم معهم.
ويمكن لهذه الفئة ان تشمل المؤسسات الاعلامية والصحف ووكالات الانباء والتلفزيون ودور النشر والكتاب والصحافيين واصحاب المناصب العليا في هذه المؤسسات بفرض عدم التعرض للاسلام والمسلمين. وهي سياسة طالما مارستها الدول على اختلاف توجهاتها وانظمتها السياسية من أجل الترويج لسياساته العامة وخاصة الخارجية، وليست الدولة الاسلامية بدعاً عنها فلها هي ايضا احتياجاتها ووسائلها لدعم سياستها ونفوذها. وأما من الجانب العسكري فيمكن بواسطتها عقد صفقات تسليحية وشراء اسلحة وذخائر لتقوية البنية العسكرية والدفاعية للدولة عبر الانفاق على استمالة الوسطاء
______________________________________
1- تحرير الوسيلة، ج1، ص336.
2- الفقه السياسي الاسلامي، ص391 نقلاً عن شرح اللمعة، ج1، ص 170.
3- الفقه السياسي الاسلامي، ص نقلاً عن شرح اللمغة، ج1، ص 170.
4- الفقه السياسي الاسلامي، نقلاً عن العروة الوثقى، ج9 ص 246.
5- الفقه السياسي الاسلامي، نقلاً عن الحدائق الناضرة، ج5، ص37.
6- الفقه السياسي الاسلامي، نقلاً عن المعتبر في شرح المختصر، ص 279 وشرح اللمعة، ج1، ص 170.
7- فقه الزكاة، نقلاً عن نيل الاوطار، ج4، ص 166.

والشركات المنتجة للسلاح. أو حتى دفع رواتب للمستشارين والخبراء والضباط والجنود للمشاركة في الجيش الاسلامي إذا اقتضى الامر، كل ذلك بالطبع من اجل المصلحة الاسلامية العليا.
2ـ المسلمون وهم على عدة فئات:
اولاً: ومنهم قوم من سادات المسلمين وزعمائهم لهم نظراء من الكفار، إذا اُعطوا رجي اسلام نظرائهم، فالمال وسيلة فعالة في  استمالة القلوب واقناع النفوس إلى الاسلام.
ثانياً: ومنهم زعماء ضعفاء الايمان من المسلمين، مطاعون في اقوامهم، ويرجى باعطائهم تثبيتهم وقوة ايمانهم ومناصحتهم في الجهاد وغيره، كالذين اعطاهم الرسول «ص» من غنائم هوازن وهم بعض الطلقاء من اهل مكة الذين اسلموا فكان منهم المنافق ومنهم ضعيف الايمان.(1)
ثالثاً: ومنهم قوم من المسلمين في الثغور وحدود بلاد اعداء، يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن ورائهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.
رابعاً: ومنهم قوم من المسلمين يحتاج اليهم بجباية الزكاة ممن لا يعطيها إلاّ بنفوذهم وتأثيرهم إلاّ ان يقاتلوا، فيختار بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحوق اخف الضررين وارجح المصلحتين.(2)
وقد ادعى البعض بأن سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط بعد موت رسول الله «ص»، واعتبر بعضهم ان تلك رشوة كانت تعطى في وقت كان الاسلام فيه ضعيفاً، اما وقد قوي الاسلام فلا حاجة لها. ولكن هناك شبه اجماع على بطلان دعوى النسخ وان حكم تأليف القلوب باق على قوته بعد وفاة الرسول «ص» إلى يومنا هذا. ولا يشترط وجود الامام المعصوم اذ ان الحكم جائز التنفيذ في غيبته وان كان بعض علماء الشيعة كالشيخ الطوسي يعتبره ضمن التزامات الجهاد الابتدائي فيشترط حضور أو اذن الامام المعصوم.(3)
والدولة الاسلامية تستطيع ان تصرف هذا السهم لتدعيم مواقفها ونشر مبادىء الاسلام وتوضيح سياساتها باستمالة الصحف ووسائل الاعلام وتطويعها لخدمة اهداف الاسلام العالية. فالتأثير الاعلامي اليوم اصبح من الاسلحة الفتاكة التي تؤثر على الدول والحكومات والشعوب. وكسب الانصار والمؤيدين لا يتم بالتحاكم إلى الحق والوجدان والضمير، فالشارع المقدس على معرفته بأحقية الرسالة الاسلامية لم يجد بأساً من استخدام المال في هذا السبيل.
سابعاً: العلاقات السلمية مع الدول غير المحاربة
الاسلام يبغي السلام دائماً، ففي ظل ظروف السلام والامن يمكن للدعوة الاسلامية ان تشق طريقها بيسر وسهولة، خاصة إذا ازيلت المواقع التي تمنع وصول الحق للنفوس والعقول. والدولة الاسلامية بحاجة للامن والسلام والاستقرار في علاقاتها الخارجية كي تستطيع الايفاء بتعهداتها والتزاماتها تجاه الشعوب المظلومة من جهة وتجاه احتياجاتها واقتصادها وتجارتها واموالها مع الدول الاخرى، ولا يمكنها التحرك
______________________________________
1- فقه الزكاة، ص596.
2- فقه الزكاة، ص596.
3- الفقه السياسي الاسلامي، نقلاً عن الحدائق الناضرة، ج5 ص 37.

بسهولة في اجواء النزاع والعنف والعداء والحقد. والرسالة الاسلامية تنتشر بيسر في الاجواء الهادئة المعتمدة على المجادلة والموعظة الحسنة والنقاش الهادىء، وقد اسلمت شعوب كثيرة بالطرق السلمية والدعوات الهادئة.
والقرآن الكريم يحث على السلم والصلح واجتناب العداء والضغينة والحروب قدر المستطاع، فاذا كانت الاهداف الاسلامية تتحقق بالاساليب السلمية فلا حاجة للعنف عند ذلك. فالحروب والنزاعات العسكرية حالة استثنائية وليست اصل في الاسلام، وحتى في الحروب الجهادية ـ الجهاد الثاني ـ فهي مرحلة لاحقة بعد اخفاق كل الجهود السابقة من الدعوة السلمية.
فالاسلام يعتمد مبدأي «التسامح» و«العدل» في بناء العلاقات مع الآخرين، فالتسامح يمثل الاسلوب الوديع المسالم الذي يفتح الآفاق الرحبة والظروف العاطفية الملائمة لاجواء الحرية والقناعة الفكرية بعيداً عن الاكراه والضغط والتشنج. وهناك عدة مفاهيم والفاظ قرآنية تصب في هذا الاتجاه وكلها تدعو إلى «العفو» و«الصفح» و«الاحسان» و«دفع السيئة بالحسنة» و«الاعراض عن الجاهلين» و«لا تسبوا الذين يدعون من دعون الله» وغير ذلك من المعاني التي تلتقي بالتسامح وتنطلق منه. والعدل يمثل القوة التي تكبح جماح الانحراف والتمرد وتهديد النظام بالفوضى والحياة بالدماء، فالعدل هو الاسلوب الوحيد لحماية الحياة.(1)
والعلاقات مع الذين لم يعادوا الدولة الاسلامية، تبقى طبيعية تنظمها المعاهدات والاتفاقيات الثنائية والدولية، وتفرضها طبيعة الوضع الدولي والانساني مع الشعوب الاخرى. كما ان حاجة الدولة الاستيفاء بأهدافها واغراضها الاقتصادية، الامنية، السياسية، التكنولوجية، العسكرية والثقافية لا تسمح لها بالانعزال والتقوقع. ويمكن للدولة الاسلامية ان توثق علاقاتها مع الدول التي لا تحمل نزعات استعمارية وهيمنة سياسية واقتصادية، وتبني العلاقات معها على اسس التكافؤ والاحترام المتبادل وتبادل المنفعة والمصالح المشتركة. وطبيعة العلاقات ومثواها وسعتها تعتمد على نوع الحكومة والنظام في تلك الدولة، ومدى اقترابه من مبادىء العدل والانصاف والمساواة ومدى المصلحة الاسلامية المتحققة منها. والفقه الاسلامي يحدد العلاقات مع الدول غير المحاربة اي التي لا تبغي أو لا تدخل في حروب ونزاعات عسكرية وصراعات مسلحة ضد الدولة الاسلامية، والقرآن الكريم يقول في سورة الممتحنة:
(لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا اليهم انّ الله يحبّ المقسطين * إنّما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين واخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم ان تولوهم * فأولئك هم الظالمون).
وعلى ضوء ذلك يمكن تقسيم الدول إلى اقسام:
1ـ الدول الاسلامية
وهي الاقرب سواء في التاريخ والعقيدة المشتركة والاوضاع الاقتصادية والاجتماعية. فالتعاون وتوسيع
______________________________________
1- اسلوب الدعوة في القرآن، ص 32.

العلاقات معها يخدم الاهداف العامة والاستراتيجية الاسلامية. ويمكن تصنيفها إلى:
أ ـ الدول الصديقة للدولة الاسلامية: وتؤيدها في مواقفها وسياساتها وخاصة على الصعيد الدولي. فيجب تقوية العلاقات معها وعلى كافة الاصعدة وتفادي المشاكل والخلافات الجزئية التي تعكر صفو العلاقات.
ب ـ الدول المحايدة: ويمكن تقوية العلاقات معها وخاصة الاقتصادية والتجارية وتشجيعها على تفهم مواقف وسياسة الدول الاسلامية وتقليل الضغط الخارجي المسلط عليها عبر التعاون معها ومساعدتها في مشاكلها على امل كسبها إلى جانبها.
ج ـ الدول العدوة وهي الدول التي تستشعر الخطر من الاسلام باعتباره يهدد نظام الحكم المنحرف القائم فيها، أو انها تتخذ مواقف انسجاماً لقوى كبرى في صراع مع الدول الاسلامية، عندها تجد الدولة الاسلامية نفسها مضطرة للدفاع عن نفسها ومواجهة هذه الحكومات، وتسعى وتشجع اي تحرك جماهيري للنهوض بوجه ذلك النظام المنحرف.
2ـ الدول غير الاسلامية
ويمكن تصنيفها إلى عدة فئات وهي:
أ ـ الدول ذات الماضي الاستعماري أو ذات التطلعات التسلطية على الشعوب: وهذه الدول هي التي تمسك بزمام النظام الدولي اليوم. والعلاقات معها بحاجة إلى وعي وحذر وحكمة ومحاولة التفاهم معها للتقليل من حجم الخسائر المتوقعة في المواجهة معها، وتحديد نفوذها بشكل يقتصر على المصالح الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية دون السقوط في دائرة النفوذ السياسي والهيمنة الثقافية. ومحاولة مسايرة الوضع الدولي تفادياً للاصطدام العسكري والسياسي معها مع التأكيد على ان من مصلحتها الاكتفاء بالمنافع الاقتصادية وبما يحقق مصلحة الدولة الاسلامية ايضا.
ب ـ الدول الصناعية «من غير الفئة المذكورة في أ»: وهي الدول التي لا تتطلع إلى هيمنة سياسية وان كانت تود ذلك يوماً ما، ويهمها بالدرجة الاولى تحقيق مصالحها الاقتصادية عبر الصادرات والواردات. ويمكن الانفتاح على هذه الدول وزيادة وتوسيع العلاقات التجارية والعلمية معها بهدف خدمة مصالح الدولة الاسلامية. وكذلك محاولة كسب صداقتها وخاصة في المواقف السياسية والاقتصادية في المحافل والمنظمات الدولية.
ج ـ الدول الفقيرة التي تشترك مع الدولة الاسلامية في سياستها العامة: فيمكن التعاون معها وتقوية العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية وتستشعر تحقيق مصالحها في علاقاتها مع الدولة الاسلامية، فتصبح صديقة لها.
د ـ الدول الفقيرة المحايدة: التي لا تؤيد الدولة الاسلامية ولا تقف منها مواقف عدائية. فالعمل على تحسين العلاقات مع هذه الدول ضروري من اجل تشجيعها على بناء علاقات سياسية واقتصادية والتخفيف عنها قدر المستطاع وسد حاجتها التي غالباً ما تعتمد على مساعدات الدول الكبرى والارتباط بها املاً في اتخاذ مواقف منسجمة مع مواقف الدولة الاسلامية وخاصة في المنظمات الدولية، لان هذه الدول على كثرتها تكون ذات تأثير كونها تملك اصواتاً ومقاعداً في تلك المنظمات ومن شأنها التأثير على القرارات المتخذة فيها.
هـ ـ الدول المعادية: وهي الدول التي تجد مصالحها مرتبطة بطرف قوي معادي للدولة الاسلامية فتتخذ مواقفه وسياسته انطلاقاً من الارتباط السياسي والاقتصادي بذلك الطرف. أو انها تقوم على سياسات تناقض المبادىء الاسلامية والانسانية كنظام جنوب افريقيا المعتمد على التمييز العنصري، أو الكيان الصهيوني الذي اغتصب الاراضي الاسلامية وشرد الشعب الفلسطيني المسلم ـ أو قد تكون من الدول التي تعادي الدول الاسلامية حقداً على الاسلام والمسلمين.
ثامناً: الوفاء بالعهود
من المفاهيم الاخلاقية والانسانية التي يوليها الاسلام اهمية خاصة هو الوفاء بالعهود والالتزامات. وهذا المفهوم والمعنى الاخلاقي التي تعارف عليها البشر وحثت عليه كل الرسالات السماوية والافكار الانسانية والاعراف الاجتماعية. الالتزام بالمواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية تجعل المنظومة الدولية تطمئن في تطبيقها وتنفيذها مما يضفي اجواء الثقة والصدق والامن والسلام العالمي. والرسالة الاسلامية حثت على الوفاء بالعهود في كل الاحوال والظروف ونهت عن النكث بها حتى في الحالات الحرجة، يقول الله سبحانه تعالى:
* (يا ايها الذين آمنوا اوفوا بالعهود).
* (والذين لاماناتهم وعهدهم راعون).
* واوفوا بعهد الله إذا عاهدتم).
* (واوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولاً).
وعن الرسول الكريم (ص) انّه قال:
«المؤمنون عند شروطهم».
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد».
وفي عهد امير المؤمنين (ع) إلى مالك الاشتر ما يوضح هذا المفهوم بكل جلاء وامانة.
فالالتزام والوفاء بالعهود تكليف شرعي لا يجوز نكثه، فالخيانة مذمومة والغدر محتقر. والاجدر بالمؤمن ان يفي بعهده إذا عاهد. بل ان امير المؤمنين (ع) يوصي بالصبر على العهد حتى عندما تضيق الامور ولا يحبذ فسخه بغير حق.
والدولة الاسلامية التي تمثل البناء السياسي والاخلاقي للرسالة الاسلامية، وتتجسد فيها معاني وغايات الرسالة العظيمة، تجد في الوفاء بالعهود والاتفاقيات التي توقعها مع اي طرف التزاما شرعيا واخلاقيا وادبيا امام الله والبشرية لا يمكمن التنصل منه. والاحرى بالدولة الاسلامية ان تشيع هذا المفهوم وتعيده إلى الواقع الذي طالما شهد اختراقات فاضحة للعهود إذا ما تعارضت مع مصلحة ذلك الطرف. والنظام الدولي يشهد اليوم التزاما بالعهود طالما كانت تفي بحاجة أو مصلحة الدولة وإذا ما فقدتها تجدها تختلق الذرائع والحجج للخروج عن تعهداتها.
الدولة الاسلامية والمنظمات الدولية
انشأت المنظمات الدولية والتي ازدادت بصورة ملحوظة بعد الحرب العالمية الثانية لتكون المكان الملائم للاتصال بين الدول والحكومات، وتنظيم العلاقات فيما بينها، ووضع ضوابط وقواعد للسلوك الدولي، وعقد الاتفاقيات والقوانين والمواثيق التي تنظم الشؤون الدولية وعلى مختلف الاصعدة السياسية، الدبلوماسية، الثقافية، الاقتصادية، الصحية، العلمية، الاجتماعية وغيرها. وبرز دور المنظمات الدولية وخاصة الامم المتحدة ومجلس الامن باعتبارها تمثل هيئة ذات سلطة فوق الحكومات، وبامكانها التدخل في المنازعات والخلافات الاقليمية والدولية وهناك العديد من المنظمات المختصة الملحقة بها والتي تهتم بشؤون تجارية، حقوقية، ثقافية، غذائية وتربوية. وتنقسم المنظمات إلى قسمين.
الاول: المنظمات الدولية العامة التي يمكن ان تتمتع بعضويتها كل دول العالم كالامم المتحدة والمنظمات التابعة لها، اليونيسكو، الفاو، الجات،..
الثاني: المنظمات الدولية الخاصة والتي تتشكل بين مجموعة دول لاغراض خاصة، والانضمام اليها غير متيسر ووفق شروط معينة، كالكومنولث، حلف الناتو، مجموعة الدول المستقلة، حلف السيتو (جنوب شرق آسيا)، حلف (السنتو)، السوق الاوربية المشتركة، منظمة الطاقة الدولية، الجامعة العربية، منظمة الوحدة الافريقية، منظمة المؤتمر الاسلامي، منظمة الاوبك وغيرها.
والدولة الاسلامية بامكانها التمتع بعضوية هذه المنظمات الدولية وغيرها وفق مصالحها واحتياجاتها. والتعامل معها لا يجري على اساس الاعتراف بشرعيتها وانها حق بل لانها تحقق جملة من المزايا والفوائد لا غنى عنها للدولة الاسلامية منها:
1 ـ دفع الضرر عن الكيان السياسي للمسلمين. فلهذه المنظمات تأثير كبير على اية دولة ومنها بلداننا الاسلامية. وباستطاعتها ان تسبب لها مشاكل جمة وتفرض عليها عقوبات ومقاطعة سياسية واقتصادية وعسكرية. فحضور الدولة الاسلامية فيها باستطاعته ان يدفع الضرر عنها وافشال الخطط أو القرارات المناوئة لها قدر الامكان.
2 ـ ان هذه المؤسسات يمكن ان تساهم في بعض الاحيان بتقديم خدمات جليلة للانسانية: كالمساعدة في الحروب والكوارث والاسرى وحل النزاعات والخصومات في المجتمع الانساني.
3 ـ تستطيع الدولة الاسلامية ان تستخدم منصة المنظمات الدولية لابلاغ العالم بموقفها وآرائها تجاه مختلف القضايا والاحداث، والتبشير بالتعاليم والمفاهيم الاسلامية واشاعة المثل والقيم العليا وخدمة الرسالة الاسلامية عبر طرح مشاريع انسانية واخلاقية.
4 ـ تقوية الاتصال بالدول المستضعفة والمحرومة واستمرار العلاقات معها والتنسيق فيما بينها حول مختلف الشؤون والقضايا الدولية.
5 ـ الاستفادة من البرامج التنموية والامكانيات التخصصية والمهنية التي توفرها هذه المنظمات وخاصة في مجال الزراعة، التجارة، الصحة، الثقافة، الاطفال، المرأة.
6 ـ التحرك داخل المنظمات الخاصة بالعالم الاسلامي أو العالم الثالث في اتخاذ مواقف مناسبة لمصالح شعوب تلك البلدان واقناع الدول الاعضاء بالمحافظة على مواقف موحدة ومواجهة التكتلات والاحلاف الاخرى، وان تصبح الدولة الاسلامية ذات قوة وهيبة في المجتمع الدولي إذا احسنت التعامل معها. ولعل اهم هذه المنظمات هي (منظمة المؤتمر الاسلامي) و(منظمة الاوبك) ومنظمة دول عدم الانحياز.
ان الالمام بجميع تفاصيل هذه المرتكزات يحتاج إلى جهود وخبرات متخصصة وعصرية قادرة على ترجمة الاسس الفكرية والعقائدية الاسلامية إلى واقع ملموس ومواقف وحلول للعديد من القضايا والمشاكل، والدبلوماسية الاسلامية ـ التي هي المصداق الامثل للالتزام بهذه الاسس ـ هي القادرة على تجسيد الاطروحة الاسلامية واعتبارها منهجا ذا مقومات وتوجهات تختلف عما اعتادته الاوساط السياسية والدولية. ويصبح الاسلام امرا واقعا وحاضرا في كل قضية واحادث وشأن دولي أو انساني على امل ان يعم الهدى ارض المعمورة وليس ذلك اليوم ببعيد.
***










فتح القسطنطينية.. بشارة نبوية
(في ذكرى فتحها 20 من جمادى الأولى 857هـ)

سمير حلبي

محمد الفاتح
انتظر المسلمون أكثر من ثمانية قرون حتى تحققت البشارة النبوية بفتح القسطنطينية، وكان حلمًا غاليا وأملا عزيزا راود القادة والفاتحين لم يُخب جذوته مر الأيام وكر السنين، وظل هدفا مشبوبا يثير في النفوس رغبة عارمة في تحقيقه حتى يكون صاحب الفتح هو محل ثناء النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".
وقد بدأت المحاولات الجادة في عهد معاوية بن أبي سفيان وبلغ من إصراره على فتح القسطنطينية أن بعث بحملتين الأولى سنة 49 هـ = 666، والأخرى كانت طلائعها في سنة 54 هـ = 673م، وظلت سبع سنوات وهي تقوم بعمليات حربية ضد أساطيل الروم في مياه القسطنطينية، لكنها لم تتمكن من فتح المدينة العتيدة، وكان صمود المدينة يزيد المسلمين رغبة وتصميما في معاودة الفتح؛ فنهض "سليمان بن عبد الملك" بحملة جديدة سنة (99 هـ = 719م) ادخر لها زهرة جنده وخيرة فرسانه، وزودهم بأمضى الأسلحة وأشدها فتكا، لكن ذلك لم يعن على فتحها فقد صمدت المدينة الواثقة من خلف أسوارها العالية وابتسمت ابتسامة كلها ثقة واعتداد أنها في مأمن من عوادي الزمن وغوائل الدهر، ونامت ملء جفونها رضى وطمأنينة.
ثم تجدد الأمل في فتح القسطنطينية في مطلع عهود العثمانيين، وملك على سلاطينهم حلم الفتح، وكانوا من أشد الناس حماسا للإسلام وأطبعهم على حياة الجندية؛ فحاصر المدينة العتيدة كل من السلطان بايزيد الأول ومراد الثاني، ولكن لم تكلل جهودهما بالنجاح والظفر، وشاء الله أن يكون محمد الثاني بن مراد الثاني هو صاحب الفتح العظيم والبشارة النبوية الكريمة.
محمد الفاتح
ولد السلطان محمد الفاتح في (27 من رجب 835 هـ= 30 من مارس 1432م)، ونشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني سابع سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرا بالسلطنة والنهوض بتبعاتها؛ فحفظ القرآن وقرأ الحديث وتعلم الفقه ودرس الرياضيات والفلك، وأتقن فنون الحرب والقتال، وأجاد العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك في الحروب والغزوات، وبعد وفاة أبيه في (5 من المحرم 855هـ = 7 من فبراير 1451م) تولى الفاتح السلطنة فتى في الثانية والعشرين من عمره وافر العزم شديد الطموح.
بناء قلعة رومللي حصار
قلعة رومللي حصار
كان السلطان بايزيد الأول قد أنشأ على ضفة البوسفور الآسيوية في أثناء حصاره للقسطنطينية حصنا تجاه أسوارها عُرف باسم قلعة الأناضول، وكانت تقوم على أضيق نقطة من مضيق البوسفور، وعزم محمد الفاتح أن يبني قلعة على الجانب الأوروبي من البوسفور في مواجهة الأسوار القسطنطينية، وقد جلب لها مواد البناء وآلاف العمال، واشترك هو بنفسه مع رجال دولته في أعمال البناء، وهو ما ألهب القلوب وأشعل الحمية في النفوس، وبدأ البناء في الارتفاع شامخ الرأس في الوقت الذي كان فيه الإمبراطور قسطنطين لا يملك وقف هذا البناء، واكتفى بالنظر حزنا وهو يرى أن الخطر الداهم سيحدق به دون أن يملك مندفعه شيئا.
ولم تمض ثلاثة شهور حتى تم بناء القلعة على هيئة مثلث سميك الجدران، في كل زاوية منها برج ضخم مغطى بالرصاص، وأمر السلطان بأن ينصب على الشاطئ مجانيق ومدافع ضخمة، وأن تصوب أفواهها إلى الشاطئ، لكي تمنع السفن الرومية والأوروبية من المرور في بوغاز البوسفور، وقد عرفت هذه القلعة باسم "رومللي حصار"، أي قلعة الروم.
بوادر الحرب
توسل الإمبراطور قسطنطين إلى محمد الفاتح بالعدول عن إتمام القلعة التي تشكل خطرًا عليه، لكنه أبي ومضى في بنائه، وبدأ البيزنطيون يحاولون هدم القلعة والإغارة على عمال البناء، وتطورت الأحداث في مناوشات، ثم لم يلبث أن أعلن السلطان العثماني الحرب رسميا على الدولة البيزنطية، وما كان من الإمبراطور الرومي إلا أن أغلق أبواب مدينته الحصينة، واعتقل جميع العثمانيين الموجودين داخل المدينة، وبعث إلى السلطان محمد رسالة يخبره أنه سيدافع عن المدينة لآخر قطرة من دمه.
وأخذ الفريقان يتأهب كل منهما للقاء المرتقب في أثناء ذلك بدأ الإمبراطور قسطنطين في تحصين المدينة وإصلاح أسوارها المتهدمة وإعداد وسائل الدفاع الممكنة، وتجميع المؤن والغلال، وبدأت تردد على المدينة بعض النجدات خففت من روح الفزع التي سيطرت على الأفئدة، وتسربت بعض السفن تحمل المؤن والغذاء، ونجح القائد الجنوبي "جون جستنياني" مع 700 مقاتل محملين بالمؤن والذخائر في الوصول إلى المدينة المحاصرة؛ فاستقبله الإمبراطور قسطنطين استقبالا حسنًا وعينه قائدًا عامًا لقواته، فنظم الجيش وأحسن توزيعهم ودرب الرهبان الذي يجهلون فن الحرب تمامًا، وقرر الإمبراطور وضع سلسلة لإغلاق القرن الذهبي أمام السفن القادمة، تبدأ من طرف المدينة الشمالي وتنتهي عند حي غلطة.
استعدادات محمد الفاتح
كان السلطان محمد الثاني يفكر في فتح القسطنطينية ويخطط لما يمكن عمله من أجل تحقيق الهدف والطموح، وسيطرت فكرة الفتح على عقل السلطان وكل جوارحه، فلا يتحدث إلا في أمر الفتح ولا يأذن لأحد من جلسائه بالحديث في غير الفتح الذي ملك قلبه وعقله وأرقه وحرمه من النوم الهادئ.
وساقت له الأقدار مهندس مجري يدعى "أوربان"، عرض على السلطان أن يصنع له مدفعا ضخما يقذف قذائف هائلة تكفي لثلم أسوار القسطنطينية؛ فرحب به السلطان وأمر بتزويده بكل ما يحتاجه من معدات، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى تمكن أوربان من صنع مدفع عظيم لم يُر مثله قط، فقد كان يزن 700 طن، ويرمي بقذائف زنة الواحدة منها 12 ألف رطل، ويحتاج جره إلى 100 ثور يساعدها مائة من الرجال، وعند تجربته سقطت قذيفته على بعد ميل، وسمع دويه على بعد 13 ميلا، وقد قطع هذا المدفع الذي سُمي بالمدفع السلطاني الطريق من أدرنة إلى موضعه أمام أسوار القسطنطينية في شهرين.
بدء الحصار
وصل السلطان العثماني في جيشه الضخم أمام الأسوار الغربية للقسطنطينية المتصلة بقارة أوروبا يوم الجمعة الموافق (12 من رمضان 805هـ= 5 من إبريل 1453م) ونصب سرادقه ومركز قيادته أمام باب القديس "رومانويس"، ونصبت المدافع القوية البعيدة المدى، ثم اتجه السلطان إلى القبلة وصلى ركعتين وصلى الجيش كله، وبدأ الحصار الفعلي وتوزيع قواته، ووضع الفرق الأناضولية وهي أكثر الفرق عددًا عن يمينه إلى ناحية بحر مرمرة، ووضع الفرق الأوروبية عن يساره حتى القرن الذهبي، ووضع الحرس السلطاني الذي يضم نخبة الجنود الانكشارية وعددهم نحو 15 ألفًا في الوسط.
وتحرك الأسطول العثماني الذي يضم 350 سفينة في مدينة "جاليبولي" قاعدة العثمانيين البحرية في ذلك الوقت، وعبر بحر مرمرة إلى البوسفور وألقى مراسيه هناك، وهكذا طوقت القسطنطينية من البر والبحر بقوات كثيفة تبلغ 265 ألف مقاتل، لم يسبق أن طُوقت بمثلها عدة وعتادًا، وبدأ الحصار الفعلي في الجمعة الموافق (13 من رمضان 805هـ = 6 من إبريل 1453م)، وطلب السلطان من الإمبراطور "قسطنطين" أن يسلم المدينة إليه وتعهد باحترام سكانها وتأمينهم على أرواحهم ومعتقداتهم وممتلكاتهم، ولكن الإمبراطور رفض؛ معتمدًا على حصون المدينة المنيعة ومساعدة الدول النصرانية له.
وضع القسطنطينية
تحتل القسطنطينية موقعا منيعا، حبته الطبيعة بأبدع ما تحبو به المدن العظيمة، تحدها من الشرق مياه البوسفور، ويحدها من الغرب والجنوب بحر مرمرة، ويمتد على طول كل منها سور واحد. أما الجانب الغربي فهو الذي يتصل بالقارة الأوروبية ويحميه سوران طولهما أربعة أميال يمتدان من شاطئ بحر مرمرة إلى شاطئ القرن الذهبي، ويبلغ ارتفاع السور الداخلي منهما نحو أربعين قدمًا ومدعم بأبراج يبلغ ارتفاعها ستين قدما، وتبلغ المسافة بين كل برج وآخر نحو مائة وثمانين قدما.
أما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه خمسة وعشرين قدما، ومحصن أيضا بأبراج شبيهة بأبراج السور الأول، وبين السورين فضاء يبلغ عرضه ما بين خمسين وستين قدما، وكانت مياه القرن الذهبي الذي يحمي ضلع المدينة الشمالي الشرقي يغلق بسلسلة حديدية هائلة يمتد طرفاها عند مدخله بين سور غلطة وسور القسطنطينية، ويذكر المؤرخون العثمانيون أن عدد المدافعين عن المدينة المحاصرة بلغ أربعين ألف مقاتل.
اشتعال القتال
بعد ما أحسن السلطان ترتيب وضع قواته أمام أسوار القسطنطينية بدأت المدافع العثمانية تطلق قذائفها الهائلة على السور ليل نهار لا تكاد تنقطع، وكان دوي اصطدام القذائف بالأسوار يملأ قلوب أهل المدينة فزعا ورعبا، وكان كلما انهدم جزء من الأسوار بادر المدافعون عن المدينة إلى إصلاحه على الفور، واستمر الحال على هذا الوضع.. هجوم جامح من قبل العثمانيين، ودفاع مستميت يبديه المدافعون، وعلى رأسهم جون جستنيان، والإمبراطور البيزنطي.
وفي الوقت الذي كانت تشتد فيه هجمات العثمانيين من ناحية البر حاولت بعض السفن العثمانية تحطيم السلسلة على مدخل ميناء القرن الذهبي واقتحامه، ولكن السفن البيزنطية والإيطالية المكلفة بالحراسة والتي تقف خلف السلسلة نجحت في رد هجمات السفن العثمانية، وصبت عليها قذائفها وأجبرتها على الفرار.
وكانت المدينة المحاصرة تتلقى بعض الإمدادات الخارجية من بلاد المورة وصقلية، وكان الأسطول العثماني مرابطا في مياه البوسفور الجنوبية منذ (22 من رمضان 805هـ = 15 من إبريل 1453م)، ووقفت قطعة على هيئة هلال لتحول دون وصول أي مدد ولم يكد يمضي 5 أيام على الحصار البحري حتى ظهرت 5 سفن غربية، أربع منها بعث بها البابا في روما لمساعدة المدينة المحاصرة، وحاول الأسطول العثماني أن يحول بينها وبين الوصول إلى الميناء واشتبك معها في معركة هائلة، لكن السفن الخمس تصدت ببراعة للسفن العثمانية وأمطرتها بوابل من السهام والقذائف النارية، فضلا عن براعة رجالها وخبرتهم التي تفوق العثمانيين في قتال البحر، الأمر الذي مكنها من أن تشق طريقها وسط السفن العثمانية التي حاولت إغراقها لكن دون جدوى ونجحت في اجتياز السلسلة إلى الداخل.
السفن العثمانية تبحر على اليابسة!!
إنزال السفن في الخليج
كان لنجاح السفن في المرور أثره في نفوس أهالي المدينة المحاصرة؛ فانتعشت آمالهم وغمرتهم موجة من الفرح بما أحرزوه من نصر، وقويت عزائمهم على الثبات والصمود، وفي الوقت نفسه أخذ السلطان محمد الثاني يفكِّر في وسيلة لإدخاله القرن الذهبي نفسه وحصار القسطنطينية من أضعف جوانبها وتشتيت قوى المدينة المدافعة.
واهتدى السلطان إلى خطة موفقة اقتضت أن ينقل جزءًا من أسطوله  بطريق البر من منطقة غلطة إلى داخل الخليج؛ متفاديا السلسلة، ووضع المهندسون الخطة في الحال وبُدئ العمل تحت جنح الظلام وحشدت جماعات غفيرة من العمال في تمهيد الطريق الوعر الذي تتخلله بعض المرتفعات، وغُطي بألواح من الخشب المطلي بالدهن والشحم، وفي ليلة واحدة تمكن العثمانيون من نقل سبعين سفينة طُويت أشرعتها تجرها البغال والرجال الأشداء، وذلك في ليلة (29 من رمضان 805هـ = 22 من إبريل 1453م).
وكانت المدافع العثمانية تواصل قذائفها حتى تشغل البيزنطيين عن عملية نقل السفن، وما كاد الصبح يسفر حتى نشرت السفن العثمانية قلوعها ودقت الطبول وكانت مفاجأة مروعة لأهل المدينة المحاصرة.
وبعد نقل السفن أمر السلطان محمد بإنشاء جسر ضخم داخل الميناء، عرضه خمسون قدما، وطوله مائة، وصُفَّت عليه المدافع، وزودت السفن المنقولة بالمقاتلين والسلالم، وتقدمت إلى أقرب مكان من الأسوار، وحاول البيزنطيون إحراق السفن العثمانية في الليل، ولكن العثمانيين علموا بهذه الخطة فأحبطوها، وتكررت المحاولة وفي كل مرة يكون نصيبها الفشل والإخفاق.
الهجوم الكاسح وسقوط المدينة
استمر الحصار بطيئا مرهقا والعثمانيون مستمرون في ضرب الأسوار دون هوادة، وأهل المدينة المحاصرة يعانون نقص المؤن ويتوقعون سقوط مدينتهم بين يوم وآخر، خاصة وأن العثمانيين لا يفتئون في تكرار محاولاتهم الشجاعة في اقتحام المدينة التي أبدت أروع الأمثلة في الدفاع والثبات، وكان السلطان العثماني يفاجئ خصمه في كل مرة بخطة جديدة لعله يحمله على الاستسلام أو طلب الصلح، لكنه كان يأبى، ولم يعد أمام السلطان سوى معاودة القتال بكل ما يملك من قوة.
وفي فجر يوم الثلاثاء (20 من جمادى الأولى 857هـ= 29 من مايو 1453م)، وكان السلطان العثماني قد أعد أهبته الأخيرة، ووزَّع قواته وحشد زهاء 100 ألف مقاتل أمام الباب الذهبي، وحشد في الميسرة 50 ألفًا، ورابط السلطان في القلب مع الجند الإنكشارية، واحتشدت في الميناء 70 سفينة _بدأ الهجوم برًا وبحرًا، واشتد لهيب المعركة وقذائف المدافع يشق دويها عنان السماء ويثير الفزع في النفوس، وتكبيرات الجند ترج المكان فيُسمع صداها من أميال بعيدة، والمدافعون عن المدينة يبذلون كل ما يملكون دفاعا عن المدينة، وما هي إلا ساعة حتى امتلأ الخندق الكبير الذي يقع أمام السور الخارجي بآلاف القتلى.
وفي أثناء هذا الهجوم المحموم جرح "جستنيان" في ذراعه وفخذه، وسالت دماؤه بغزارة فانسحب للعلاج رغم توسلات الإمبراطور له بالبقاء لشجاعته ومهارته الفائقة في الدفاع عن المدينة، وضاعف العثمانيون جهدهم واندفعوا بسلالمهم نحو الأسوار غير مبالين بالموت الذي يحصدهم حصدا، حتى وثب جماعة من الانكشارية إلى أعلى السور، وتبعهم المقاتلون وسهام العدو تنفذ إليهم، ولكن ذلك كان دون جدوى، فقد استطاع العثمانيون أن يتدفقوا نحو المدينة، ونجح الأسطول العثماني في رفع السلاسل الحديدية التي وُضعت في مدخل الخليج، وتدفق العثمانيون إلى المدينة التي سادها الذعر، وفر المدافعون عنها من كل ناحية، وما هي إلا ثلاث ساعات من بدء الهجوم حتى كانت المدينة العتيدة تحت أقدام الفاتحين.
محمد الفاتح في المدينة
ولما دخل محمد الفاتح المدينة ظافرا ترجل عن فرسه، وسجد لله شكرا على هذا الظفر والنجاح، ثم توجه إلى كنيسة "أيا صوفيا"؛ حيث احتشد فيها الشعب البيزنطي ورهبانه، فمنحهم الأمان، وأمر بتحويل كنيسة "أيا صوفيا" إلى مسجد، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل "أبي أيوب الأنصاري"، وكان ضمن صفوف الحملة الأولى لفتح القسطنطينية، وقد عثر الجنود العثمانيون على قبره فاستبشروا خيرًا بذلك.
وقرر الفاتح الذي لُقِّب بهذا اللقب بعد الفتح اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم "إسلام بول" أي "دار الإسلام"، ثم حُرفت واشتهرت بـ "إستانبول"، وانتهج سياسة سمحة مع سكان المدينة، وكفل لهم حرية ممارسة عبادتهم، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار والرجوع إلى منازلهم، ومنذ ذلك الحين صارت إستانبول عاصمة للبلاد حتى سقطت الخلافة العثمانية في (23 من رجب 1342 هـ= 1 مارس 1924م)، وقامت دولة تركيا التي اتخذت من أنقرة عاصمة لها.  
اقرأ أيضا:
المصادر:
·      محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية – تحقيق إحسان حقي – دار النفائس – بيروت – (1403هـ = 1983م).
·      علي حسون – تاريخ الدولة العثمانية – المكتب الإسلامي بيروت – (1414هـ= 1994م)
·      عبد العزيز محمد الشناوي- الدولة العثمانية دولة مفترى عليها – مكتبة الأنجلو المصري- القاهرة – 1984م.
·      عبد السلام عبد العزيز فهمي – السلطان محمد الفاتح – دار القلم – دمشق – (1413 هـ= 1993م).
·      محمد صفوت مصطفى – السلطان محمد الفاتح – دار الفكر العربي - القاهرة – 1948م.
محمد عبد الله عنان – مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام - مؤسسة الخانجي – القاهرة – (1382هـ = 1962م).








ثانياً : في الجانب السياسي :


وتجلى هذا الأثر في مجالين هما :

- اتحاد المسلمين وجمع كلمتهم تحت قيادات مخلصة .

- إضعاف الدولة الرومانية الشرقية – بيزنطة – مما أدى إلى الاستيلاء عليها نهائياً ، بعد انتهاء الحروب الصليبية بزمن غير بعيد .

أما وحدة المسلمين في مواجهة الصليبيين فقد كانت الدولة العباسية عند بدء الحروب الصليبية ضعيفة مفككة الأوصال على شكل ولايات متعادية يطمع رئيس كل ولاية أن يوسع ولايته على حساب ولاية جيرانه . وكانت الدولة الفاطمية في أضعف قواها وظروفها ، وهذا قد أدى لظهور شخصيات لمعت في جمع شمل المسلمين وتوحيد صفوفهم ضد الصليبيين ، وأشهرهم عماد الدين زنكي ، وابنه نور الدين محمود ، وصلاح الدين الأيوبي الذي دانت له مصر والشام واليمن واسترجع المسجد الأقصى من أيدي الصليبيين .

أما إضعاف الدولة البيزنطية فقد كانت هذه الدولة سداً منيعاً في وجه الفتوح الإسلامية والتي منعت امتداد الإسلام إلى أوروبا ، فلما استغاثت الدولة البيزنطية بأوروبا ضد السلاجقة المسلمين قامت الحملات الصليبية بتقوية الدولة البيزنطية في البداية ولكن أطماع الأوروبيين امتدت نحو هذه الدولة فحرصوا على الاستيلاء على البلدان التي تقع تحت أيديهم من المسلمين وإن كانت في الأصل للدولة البيزنطية ، مما تحول إلى صراع بين قادة الصليبيين في الشرق الإسلامي وأباطرة الدولة البيزنطية ، حتى حول الصليبيون الأوروبيون الدولة البيزنطية إلى دولة لاتينية إقطاعية ، ثم استعادت بعض نفوذها من الأوروبيين لكن العثمانيين جاؤوها وقد ضعفت وتضعضعت فأزالوها .

ثالثاً : إذكاء العواطف الدينية :

إذ ثاب المسلمون إلى رشدهم ، وعادوا إلى مصدر عزهم وانتصارهم ، واستيقظت في نفوسهم حمية الإسلام ، وعاشت في قلوبهم آيات الجهاد وأحاديثه ، ورفعوا علم الجهاد في سبيل الله تعالى ، وظهر القادة المجاهدون المخلصون وتبعتهم الأمة ونصرتهم .

وكره المسلمون النصارى الذين كانوا يقيمون معهم في البلدان الإسلامية ، وكذلك اليهود الذين وقفوا إلى جوار الصليبيين ضد المسلمين ، فعاملهم المسلمون بالتضييق والشجب وعدم الثقة وسحبت منهم بعض الأعمال والمناصب التي كانوا يتولونها من قبل ، وظهرت كتب ومؤلفات في الرد على أهل الكتاب وتبيين التحريف في أديانهم مثل كتاب : هداية الحيارى من اليهود والنصارى لابن القيم ، وكتاب : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية ، وكتب في ذكر مثالب الصليبيين ومفاسدهم ، وكتب في الثناء على الحكام المسلمين الذين قاتلوهم .


رابعاً : في التأثر ببعض العادات :
وهي مبدأ توريث الإقطاع بأن يقطع كل أمير وقائد جند في جيشه قطعة كبيرة من الأرض بحيث يتكفل بإدارة الإقطاع والإشراف عليه مالياً وإدارياً وعسكرياً ، ويؤدي من دخله ما عليه من مال للسلطان ، وأعظم سيئات هذا العمل ظهور نظام الطبقية في المجتمع وما يتبعه من مشاعر سيئة لدى الفقراء ، وظهور منافقي السلاطين ليعيشوا من أموالهم .

وكذلك رباطات الصوفيين و تكاياهم ، التي تشبه أديرة النصارى في بلدانهم ، فقد احترف بعض المسلمين الانقطاع للعبادة والقعود في رباطات بناها لهم السلاطين ، إيثاراً للعافية والدعة على حرب الصليبيين ، وأشاع الصوفيون بهذا روح التواكل حتى ترك كثير من الناس الجهاد مما جعل بعض الحكام يأتي بالجنود من أماكن بعيدة .

وأخيراً انتشار الرقيق والاتجار فيه ، فقد توسع أثرياء المسلمين في اقتناء العبيد والجواري والغلمان لتمام الزينة والرونق ، وجر هذا على المسلمين فساداً أخلاقياً عظيماً وتسربت معه عادات لا يقرها الإسلام في التحية والملابس ، وظهرت أماكن أعدت للهو والغناء وشرب الخمر وغير ذلك .






الدولة الفاطمية و الحرب مع الروم البيزنطيين
اتجهت سياسة الفاطميين بعد أن امتد نفوذهم إلى مصر في عهد المعز لدين الله الفاطمي سنة 358 هـ / 969م إلى إستعادة المدن التي استولى عليها البيزنطيون في شمال الشام، و لقد كان الفاطميون بعيدي النظر حين أدركوا أن الجيوش البرية وحدها لا تكفي لحماية العالم الإسلامي و انقاذ الوطن العربي، فأنشأوا إسطولا ضخما حمى البلاد من الهجمات البيزنطية ثم دافع عنها بعد ذلك في الحروب الصليبية.
و إلى جانب ذلك فأن الفاطميين وضعوا منذ الساعة الأولى لحكمهم خطة هي أن يقوم هذا الحكم على قواعد ثابتة من العلم و المعرفة، و خططوا كما يقال اليوم لسياسة تعليمية شاملة ترتكز على إنشاء جامعة كبرى، ثم على تفريغ العلماء للعلم، ثم أرسلوا يستدعون العلمــاء من الخارج و قد اشتــد هذا المــنهج و اتسع و قوي بعد إقامة الوحدة بضم البلاد الأخرى إلى مصر، و انشاء القاهرة و اقامة الأزهر.
و قام بتنفيذ هذه السياسة القائد الفاطمي جعفر بن فلاح الذي جهز جيشا كبيرا لأسترداد أنطاكية من الروم، و لكن الحملات الفاطمية التي أرسلت لأجلائهم عنها، فشلت في تحقيق هذه السياسة. و ظلت النزاعات و الغارات العسكرية المتبادلة قائمة بين الدولة الفاطمية و الدولة البيزنطية حتى عام 377هـ / 987م حيث قدمت إلى مصر رسل الامبراطور بارسيل الثاني، تحمل الهدايا للخليفة الفاطمي العزيز، و تطلب عقد الصلح بين الدولتين، و ابرمت اتفاقية للهدنه بينهما إلا إنها سرعان ما انهارت بعد فترة لم تدم طويلا، و ظل الروم البيزنطيون ينتهزون الفرص للنيل من الفاطميين، و تكررت المواجهات المسلحة بين الطرفين، و على الرغم من تتابع انتصارات الفاطميين على البيزنطيين في شمال الشام، فأن القائد الفاطمي برجوان عول  على مهادنتهم ليتسنى له التفرغ للقضاء على الفتن الداخلية في مصر، و بعد مراسلات سلمية بين قادة الدولتين إستؤنفت المفاوضات و لما تم الأتفاق على شروط الصلح، انتدب برجوان ارسطيس بطريرك بيت المقدس لمصاحبة السفير البيزنطي لدى مصرف سفره إلى القسطنطنية لعرض هذه الشروط على الامبراطور الرومي و اقرارها منه، فقام ارسطيس بهذه المهمة، و تم بذلك إبرام معاهدة صداقة بين مصر و الدولة البيزنطية تقرر فيها ما يأتي:
تظل الهدنة قائمة بين مصر و الدولة البيزنطية مدة عشر سنوات.
يتمتع المسيحيون الذين يقيمون في أنحاء الدولة الفاطمية بالحرية الدينية، و يسمح لهم بتجديد كنائسهم و بناءها.
يتعهد امبراطور الروم باسيل الثاني بأمداد مصر بما تحتاج إليه من الحبوب.
و رغم معاهدة الصلح هذه ظلت الأجواء المتوترة تحكم العلاقات ما بين الفاطميين و البيزنطيين إلى أن توفي الخليفة الفاطمي العزيز سنة 411 هـ / 1020م و خلفه إبنه الظاهر، الذي تم في عهده ابرام معاهدة صلح جديدة تضمنت الشروط التالية:
أن يسمح للامبراطور البيزنطي بأعادة بناء كنيسة القيامة ببيت المقدس.
أن يسمح لكافة المسيحيين بأعادة بناء الكنائس التي هدمها الحاكم عدا التي حولت إلى جوامع.
أن يعين الامبراطور البيزنطي بطريقا في بيت المقدس.
أن لا يقوم الفاطميون بــأي عمل عدائــي نحو حـــلب، حتى تقـــوم بســـداد الجزية السنوية التي كانت تدفعها للدولة البيزنطية منذ عام 970م.
ألا تمد الدولة الفاطمية يد المساعدة لأي عدو من أعداء الدولة البيزنطية و خاصة أهل صقلية الذين هددوا هذه الدولة و عاثوا في جزر بحر الأرخبيل.
و في مقابل هذه الشروط، يتعهد الأمبراطور بما يأتي:
أن يعمل على ذكر اسم الخليفة الفاطمي في الخطبة في جامع القسطنطنية و المساجد الواقعة داخل حدود الدولة البيزنطية.
أن يعيد بناء جامع القسطنطينية، و كان قد هدم ردا على هدم كنيسة القيامة في عهد الحاكم بأمر الله.
أن يطلق سراح الأسرى المسلمين الذين في قبضة الروم.
أن لا يقدم الامبراطور أية مساعدة لحسان بن مخرج بن الجراح الطائي صاحب الرملة الذي خرج على الخليفة الظاهر الفاطمي.
و في سنة 429هـ / 1027م تجدد ابرام اتفاق صلح جديد بين الخليفة الفاطمي المستنصر بالله و الامبراطور ميخائيل الرابع، بعد تعرض الاتفاق السابق لخروقات كانت سببا في تعكير جو العلاقات بين الدولتين.
المزايا السياسية و الفكرية لنظام الدولة الفاطمية
كان نظام الحكم في ظل الخلافة الفاطمية، كما كان في سائر الدول الإسلامية الأخرى، في العصور الوسطى، نظاما مطلقا يستأثر فيه الخليفة بجميع السلطات الروحية و الزمنية، و قد سارت الخلافة الفاطمية على هذا النحو منذ قيامها بالمغرب، ثم بعد ذلك منذ قيامها بمصر، فكان الخليفة الفاطمي، هو الدولة، و هو صاحب السلطات المطلق. و صورة الأمور السلطانية تضم الشروح الآتية:
(إن طاعة الأمام جامعة للملوك و الرعايا، و الرعايا تجمع الأعطاء و الطاعة، و إن الوزير يجمع السياسة، و الجباية، و الجباية جامعة للوزراء و العمال، و أن الملك يجمع الطاعة و السياسة، و العامل يجمع الجباية و الأعطاء و إن الأعطاء جامع للعمال و الرعايا، و أن السياسة مشتركة).
و من هذه الشروح الفلسفية لنظرية الحكم الفاطمية، يتضح إن الأمام هو رئيس الدولة الأعلى، و قد يكون هو الأمام الروحي و الملك الزمني معا، و قد يكون تحت رياسته ملوك آخرون، يدينون له بالطاعة الدينية و الدنيويه، و هو الحاكم المطلق، و من تحته تتدرج السلطات من أعلى إلى أسفل، و أول من يليه من أهل السلطات هو الوزير، و بأسمه و بتوجيهه يزاول سلطاته في الحكم، و يلي الوزير العمال أو حكام الولايات و الثغور، و هؤلاء يزاولون سلطات الحكم على من دونهم من الرعايا، و ليس للرعية شأن و لا قول و لا رأي، و ليس لها أن، تتصل بالعامل أو الوزير أو الملك، إلا بالطاعة المطلقة.
و الخلاصة إنها من الناحية الدستورية (نظرية الحكم المطلق) بل هي تمتاز فوق ذلك، بأن رئيس الدولة الاعلى فيها، و هو الأمام يمتاز بصفات العصمة و القداسة، باعتباره قائم الزمان، و أن قيامه يرجع إلى مشيئة الله.
و من الميزات التي تميزت بها الدولة الفاطمية صبغتها المذهبية العميقة، كما كانت تمتاز بطرافة نظمها السياسية و قد كانت الدولة الفاطمية مبتكرة مجددة في كثير من قواعد الحكم و الأدارة، و في كثير من الرسوم و النظم، و كانت هذه الرسوم و النظم فوق طرافتها الدستورية تطبعها نفس الصبغة الباذخة، التي تطبع الدولة الفاطمية و سائر مظاهرها.
كانت الخلافة الفاطمية خلافة مذهبية (شيعية) شعارها الأمامة الدينية، و كان لهذه الصفة المذهبية أثرها في صوغ كثير من النظم و الرسوم التي اختصت بها. و قد نشأت الدولة الفاطمية في قفار المغرب، دولة عسكرية ساذجة تظللها الصبغة الدينية، فلما اتسع ملكها و عظم سلطانها بأفتتاح مصر و الشام، شعرت بالحاجة إلى التوسع في النظم السياسية و الأدارية، التي يقوم عليها هذا الملك الباذخ، و لم تكتف بالأعتماد على الخطط العسكرية و الدينية و المدنية المعروفة، بل عمدت إلى الأبتكار في تنظيم الاصول و الخطط الدستورية، وفقا لحاجاتها و غاياتها السياسية و المذهبية.
و ليس من المبالغة القول إن ديوان الأنشاء كان أعظم الدواوين قاطبة في إدارة الحكم الفاطمية، و كانت مهمته من أخطر و أدق المهام. ففي دولة كالدولة الفاطمية، لها صبغة مذهبية خاصة، كانت السجلات أو المراسيم تصاغ في أساليب عالية، و كان بث الدعوة المذهبية و عرضها خلال المكاتبات السياسية، يتطلب أرقى و أبلغ الصيغ البيانية.
أما الخطط الدينية فكانت تشمل عدة وظائف خطيرة، أعظمها و أجلها قدرا منصب قاضي القضاة، و منصب الدعاة، و كان قاضي القضاة أعظم زعيم ديني في الدولة، و إليه مرجع الأحكام الشرعية في العبادات و المعاملات و الحدود، و النظر في شؤون السكة (دار الضرب)، و شؤون المساجد و أئمتها و سائر المتصرفين فيها، و كان اختصاصه يشمل مصر و الشام و المغرب و الحرمين، و مركزه العام بالقاهرة.
أما عن المتون الشرعية التي كانت مرجعا للقضــاء في العصر الـــفاطمي، فقـــد كانت تتضمن أساسا متون الفقه الشيعي أو فقه الأمامية الأسماعيلية، و ذلك سواءا في العبادات، أو المعاملات أو الحدود، و كان العلامة الفقيه الشيعي الكبير النعمان بن محمد القيرواني قاضي المعز لدين الله، هو أول من وضع متونا منفصلة في أحكام الفقه الأسماعيلي، لبثت طوال العصر الفاطمي، هي المرجع الأول للقضاء.
من جهة أخرى إتسمت الخلافة الفاطمية على الصعيد الديني بسياسة ثابته، اتسمت بجانب من المرونة، تمثلت في إستمالة أهل السنة و الجماعة، و تمكينهم من إظهار شعائرهم على إختلاف مذاهبهم، و كانت المذاهب السنية المعروفة، الشافعي و مالك و أحمد (بخلاف أبي حنيفه) ظاهرة الشعائر في مملكتهم، و كان مذهب مالك بالأخص ذائعا، و من سأل الحكم به أجيب إلى طلبه.
و قد أنشئت في الخلافة الفاطمية لأول مرة هيئة رسمية خاصة للنظر في شؤون العلوية و المنتسبين إلى آل البيت(ع)، و عرفت هذه الهيئة يومئذ بـ (نقابة الطالبيين)، و كان يتولى النظر عليها واحد من أكبر شيوخهم و أجلهم قدرا، يسهر على صحة الأنساب و اثباتها و رعاية شؤونهم و رعاية مصالحهم، و فيما بعد عرفت هذه الهيئة بأسم (نقابة الأشراف).
كانت الدولة الفاطمية أشد الدول الإسلامية حرصا على أن تطبع الشعب والمجتمع بطابعها الخاص، و أن تصوغ روح الشعب و عقليته و تفكيره و برامجه وفقا لمناهجها و رسومها.
تركزت الأعياد الدينية الرسمية في عهد الدولة الفاطمية، بجملة أعياد خاصه بها شرعت لغايات دينية و سياسية، أما الأعياد العامة، فهي رأس السنة الهجرية، و ليلة المولد النبوي الكريم، و ليلة أول رجب وليلة نصفه، و ليلة أول شعبان و ليلة نصفه، و غرة رمضان، و يوم الفطر، و يوم النحر أو عيد الأضحى، و أما الأعياد المذهبية فهي الأحتفال بمولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، و مولد ولديه الحسن و الحسين، و مولد زوجته السيدة فاطمة الزهراء ابنة النبي(ص)، و هي التي ينتسب إليها الخلفاء الفاطميون، و يوم عاشوراء أو عاشر المحرم، أي اليوم الذي يصادف فيه مقتل الإمام الحسين(ع) في طف كربلاء سنة 61 هـ هذا إلى جانب أعياد مصرية قديمة، كعيد فتح الخليج، و يوم النوروز، و عيد الشهيد.
و كانت الخلافة الفاطمية ترمي بترتيب هذه الرسوم و المناسبات إلى غايتين: الأولى أن تثبت هيبتها الدينية بما تسيغه من الخطورة و الخشوع على بعض المظاهر و الرسوم المذهبية، و الثانية أن تغمر الناس بفيض من الحفلات و المآدب و المواكب الباهرة، و أن تنثر عليها ما استطاعت من دواعي البهجة و المرح، و ذلك لكي تكسب ولاء الناس و عرفانهم و تأييدهم لها.
الحركة الفكرية و العلمية في ظل الفاطميين
قامت الدولة الفاطمية بمصر و الحركة العقلية المصرية تشكل طورا من أطوار قوتها، ذلك أن الدولة الأخشيدية التي استخلص الفاطميون منها تراث مصر، كانت نصيرة للعلوم و الآداب، و في ظلها إزدهرت الحركة الفكرية و الأدبية، ونبغ عدة من المفكرين. و الكتاب الممتازين، مثل ابن يونس المحدث و المؤرخ، و الفقيه أبوبكر الحداد، و أبو عمر الكندي المؤرخ، و الأديبين الشاعرين أبو جعفر النحاس و أبو القاسم بن طباطبا الحسيني، و الحسن بن زولاق الفقيه و المؤرخ.
و لما قامت الدولة الفاطمية بمصر ما لبثت الحركة العقلية أن لقيت ملاذها في قيام الجامعة الفاطمية الكبرى، التي تمثلت بـ (الجامع الأزهر) الذي أقيم في البداية ليكون مسجد الدولة الجديدة و منبرها الرسمي، ثم أنشئت فيه منذ عهد العزيز بالله تلك الحلقات الدراسية التي إستحالت فيما بعد إلى جامعة حقة، و كانت الدولة الفاطمية تعني منذ قيامها بناحية معينة من الدراسات الدينية هي الناحية المذهبية، و انشئت (جامعة دار الحكمة) الشهيرة في عهد الحاكم بأمر الله.
و أيضا أنشئ منصب داعي الدعاة ليشرف على بث الدعوة على يد نوابه و نقبائه، و تولي تدريس الأصول الشيعية و فقه آل البيت(ع) منذ البداية، جماعة من الفقهاء الممتازين، و في مقدمتهم بنو النعمان. و أولى الحاكم الفاطمي الحركة العقلية شيئا أو جانبا من رعايته، فأجزل النفقة لجامعة دار الحكمة كما هو بالنسبة للجامع الأزهر، و زودها بخزائن الكتب الجليلة، وعقد مجالس المناظرة للعلماء و الأدباء، و غمرهم بصلاته، و قرب إليه عدة من أقطاب المفكرين و الأدباء، أمثال الكاتب و المؤرخ الكبير محمد بن القاسم بن عاصم شاعر الحاكم و جليسه، و أبي الحسن علي بن محمد الشابشتي الكاتب صاحب الديارات، و قد توفي سنة 390 هـ، و ابن يونس العلامة و الرياضي و الفلكي الشهير و غيرهم.
كما نبغ في مجال علوم الطب عدة من أكابر الأطباء، منهم محمد بن أحمد سعيد التميمي طبيب العزيز بالله، و أبو الفتح منصور بن مقشر النصراني، ثم طبيب ولده الحاكم من بعده.
و ازدهرت الحركة الفكرية المصرية نوعا ما خـــلال النصـــف الأول مـــن القرن الخامس، بـــيد إنها ضعفت في أواخر هذا القرن في عهد المستنصر بالله، و كانت هـــذه الفترة غـــاصة بالمحن و الأحـــداث و الفتن الداخلية و الخارجية، فلم تلـــق الحركة الأدبــية كثــــيرا من الرعاية أو التعضيد، بيد إنها عادت في أوائل القرن السادس فانتعشت، و استمرت على إنتعاشا و قوتها حتى نـــهاية الدولة الفاطمية سنة 567هـ / 1172م.
و في الفترة الأخيرة من عصر الدولة الفاطمية، ازدهرت حركة الكتابة في مجال النثر من حيث براعته وروعة إسلوبه و افتنانه، و تعاقب فيها من ديوان الأنشاء عدة من أئمة البيان الرائع، الذين جعلوا من رسائلهم الحلافية و الديوانية نماذج من الفصاحـــة الباهــرة، و كـــان من هؤلاء أبو الفتوح الدمياطي شيخ القاضي الفاضل، و ابن الخلال.
و من ابرز الفلاسفة الكثيرين الذين تأثروا بالعقائد الشيعية عامة و الفاطمية خاصة أحمد حميد الدين الكرماني فيلسوف الدعوة وحجتها في العراق و صاحب الكتب الفلسفية الفاطمية مثل كتاب راحة العقل و كتاب المصابيح و كتاب الأقوال الذهبية و غيرها، و كذلك المؤيد في الدين و غيره.
و لعل أشهر عالم رياضي شهدته مصر الفاطمية هو الفيلسوف أبو علي محمد بن الحسن الهيثم الذي تضاهي مرتبته العلمية مرتبة اينشتاين في العصر الحديث.
لقد تفرد الفاطميون بانشاء دور الكتب الكبرى في الاسلام و بلغت تلك الدور حداً عجيباً، و اجتمع فيها من امهات الكتب و مصادر العلوم المختلفة. من مآثر الفاطميين التي لا يزال المسلمون يستفيدون منها حتى اليوم جامع الأزهر، و قد شرع القائد الفاطمي جوهر في بناء الأزهر بأمر من المعز عندما شرع في بناء مدينة القاهرة يوم السبت لست بقين من جمادي الأولى سنة 359هـ، و تم بناؤه في التاسع من رمضان سنة 361هـ، ثم جدد فيه العزيز بالله و الحاكم بأمر الله ثم جدده المستنصر بالله و الحافظ لدين الله. و كان هذا المسجد محل رعاية الخلفاء الفاطميين و عنايتهم فلم يقصروا في تجديده و الزيادة فيه، و وقفوا لمؤذنيه و خدمه وسائل نظافته و انارته و فرشه ما هو مذكور في كتب التاريخ.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأرشيف مفهومه تاريخه أصنافه و إدارته

الاحتلال البريطاني للسودان

Art nouveau الفن الحديث