المرأة و العمل السياسي

                     المرأة والعمل السياسي
من الطبيعي القول: أن السماح للمرأة بأن تتحمل مسؤوليتها العامة في المجتمع، لا يعني التشريع لها بأن تتخلى عن مهامها الأسرية والعائلية.. فالعمل بالنسبة إلى المرأة، ليس بديلاً عن عملها الأسري والعائلي. كما أن مسؤولياتها العائلية والأسرية، ليست مانعاً ومعوقاً عن القيام بأدوارها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وإنما هي أدوار ومهام مطلوبة من المرأة، وعليها أن تنظم أوقاتها وتبلور كفاءاتها، حتى تتمكن من القيام بكل المهام والوظائف.
والمقصود بالعمل السياسي بالنسبة إلى المرأة هو "العمل بالاستقلال والانفراد أو مع وفي ضمن أشخاص أو هيئات وتجمعات، في مجال الحكم وتكوينه بتشكيل السلطات (تشريعية وتنفيذية وادارية) وتولي موقع من مواقع الحكم والسلطة في رئاسة الدولة أو مجالس الشورى (النيابية) أو الحكومة أو الادارة، ووضع - أو المشاركة في وضع - السياسات العامة والخاصة للدولة في الداخل والخارج، ومراقبة سياسات وقرارات وأعمال السلطات، ونقدها أو تأييدها، وتكوين الجمعيات السياسية والانخراط فيها".


وبهذا يتضح أن للمرأة في المجتمع المسلم، مطلق الحق في العمل السياسي والعام بكل مستوياته ومجالاته.. والتزامها الديني ليس مانعاً من الانخراط في الشؤون العامة، بل على العكس من ذلك، حيث ان التزامها الشرعي يحملها مسؤولية اضافية في هذا الاطار.. فإقصاء المرأة من القيام بواجباتها ومسؤولياتها العامة، ليس من صميم الدين، وإنما هو بفعل بعض التقاليد والأعراف الاجتماعية، وسعي بعض النخب لتوظيف هذه الأعراف بما ينسجم وخيارات الاستفراد والاستبداد. قال تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب}.
فلا فرق ذاتي في الكرامة والأهلية والحقوق بين المرأة والرجل، ووجود وظائف متفاوتة للطرفين، لا يشرع بأي حال من الأحوال إلى إقصاء المرأة وتهميش دورها على الصعيد السياسي والعام. قال تعالى {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً}.
وقد ترتب على ذلك وضع حقوق أثبته الشارع المقدس للمرأة في مجال الأهلية الشخصية (في الولاية على الذات) والاقتصادية، فأثبت لها الولاية على نفسها ومالها وعملها حين تبلغ سن التكليف وتكون رشيدة في تصرفها. ولم يجعل لأحد عليها ولاية في شيء إلا في موردين: أولهما - الأب والجد للأب في شأن الزواج إذا كانت بكراً، على القول الراجح عندنا مقابل قول باستقلالها المطلق وعدم ولايتهما، وهو القول المشهور، ولايتهما - بناء عليها - ليست مطلقة ولا استبدادية ولا استقلالية، بل هي في حدود النظر لمصلحة البنت وبضميمة ولايتها على نفسها.
وثانيهما- الزوج، في خصوص ما يتعلق بحقوق الزوجية في مجال الاستمتاع. وفيما عدا هذين الموردين لا قيد لها، ولا ولاية لأحد عليها.
والموارد المذكورة في الفقه كالشهادة وحق الطلاق والميراث، حيث اختلف الوضع الحقوقي بين الرجل والمرأة فهو لأسباب موضوعية ولا علاقة لها بكرامة المرأة وأهليتها في تحمّل المسؤوليات العامة.. وعليه لا يوجد في الشريعة الإسلامية نص، يحرم على المرأة أن تشارك في الحياة العامة في حدود الضوابط الشرعية المتعلقة بلباس المرأة، ونمط علاقتها بالرجال الأجانب، ومسؤولياتها الزوجية والعائلية. فالنصوص الشرعية التي تؤكد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تشمل المرأة وليست خاصة بالرجل.. إذ قال تعالى {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويأتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عز حكيم}.
والمرأة في التجربة النبوية الكريمة، لم تكن بعيدة عن ممارسة مسؤولياتها العامة. فهي ساهمت مع الرجل في تقبل الدعوة والعمل على نشرها، وتحملت الأذى في سبيل ذلك، وتحملت عناء الهجرة والغربة، وشاركت في الحروب والغزوات. ولم تكن المرأة بعيدة عن كل مواقع الجهاد والدعوة إلى الإسلام في العهد النبوي الشريف..
ولنا في سيرة أمهات المؤمنين خديجة الكبرى وأم سلمة وحفصة وعائشة والسيدة فاطمة الزهراء والسيدة زينب بنت الإمام علي وسيدات مكة والمدينة خير دليل على تحملهن مسؤوليات جسام على مختلف الصعد والمستويات. وأنهن جميعاً مارسن العمل السياسي وتحملن في سبيل ذلك الكثير من المصاعب والمخاطر.. وفي سيرة أئمة أهل البيت (ع)، هناك الكثير من النساء برزت أسماؤهن في هذا الاطار كسودة بنت عمارة بنت الأشتر، وبكارة الهلاية، ودارمية الحجونية وغيرهن..
والقرآن الحكيم يضرب مثلاً بامرأة تمتلك كل مقومات الحكمة والقدرة على الأمور وهي ملكة سبأ.. إذ كانت تدير قومها بالشورى والحكمة بعيداً عن الهوى والاستبداد. إذ قال تعالى {إني وجدت امرأة تملكهم وأتيت من كل شيء ولها عرش عظيم}. ويحدثنا القرآن الحكيم أيضاً في موقع آخر عن امرأة عظيمة أخرى ألا وهي السيدة مريم العذراء. بقوله تعالى: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين}. ومن خلال صلاحها وخيرها العميم على الجميع نوديت من قبل قومها {يا أخت هارون}. فهي تجاوزت كل المسافات الزمنية لكي تواصل مسيرة الأنبياء والصالحين.
فالإسلام لا يمنع المرأة من ممارسة العمل السياسي بكل مجالاته ونيل حقوقها السياسية، بل على العكس من ذلك تماماً، إذ يحمّل المرأة مسؤولية العمل على تهيئة الظروف الذاتية والموضوعية لذلك.
وان التحدي الكبير الذي يواجه مجتمعاتنا اليوم، هو كيف نفجر طاقات المرأة ونبلور امكاناتها ومواهبها، حتى تنخرط بشكل فعال في شؤون المجتمع والأمة.
فالالتزام الديني لا يعني على الصعيد النسوي الهامشية والانعزال والاستكانة، بل يعني التحرر من كل التصورات الجاهلية التي تحول دون مساهمة المرأة في المجتمع، والانطلاق في رحاب الحياة بكل مجالاتها وآفاقها. فالدين لا يحول دون ممارسة المرأة لدورها العام في المجتمع، بل على العكس من ذلك، إذ يحمّلها مسؤولية في هذا الاطار، ويدفعها نحو الشهود وممارسة العمران الحضاري.
وعليه فإن الدين الإسلامي بكل قيمه وتشريعاته، لا يقف ضد المرأة وحقوقها. وإنما يتعامل معها باعتبارها إنسانة لها جملة من الحقوق وعليها مثلها من الواجبات والمسؤوليات.
وإن وجود واقع نسوي متأخر، هو وليد الظروف الاجتماعية والثقافية، وليس وليد الإسلام ومفاهيمه الكبرى. لذلك نحن بحاجة إلى إعادة تأسيس رؤيتنا للمرأة، استناداً إلى قيم الإسلام ومثله العليا، بعيداً عن ضغوطات الواقع أو إكراهات الأعراف والعادات.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأرشيف مفهومه تاريخه أصنافه و إدارته

الاحتلال البريطاني للسودان

Art nouveau الفن الحديث