التتار

شبه جزيرة القرم واحدة من أجمل بقاع العالم؛ وهي جمهورية ذات حكم ذاتي ضمن جمهورية أوكرانيا؛ حيث تقع جنوب البلاد ويحيط بها البحر الأسود من الجنوب والغرب، بينما يحدها من الشرق بحر أزوف، ومساحتها 2700 كيلومتر مربع، وسكانها 2,5 مليون نسمة، ويشكل الروس حوالي 50 % منهم، والأوكران 30 %، والباقي من التتار المسلمين. وأهم مدنها هي العاصمة سيمفروبل، وكان اسمها فيما مضى "اق مسجد" أي المسجد الأبيض قبل أن يستولي عليها الروس.
وكانت عاصمتها فيما مضى مدينة "بخشراي" عندما كانت خاضعة لحكم خانات التتار، ومن مدنها المهمة أيضًا "يالطا" المدينة الساحلية السياحية الجميلة، والتي عقد فيها مؤتمر يالطا بين قادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية في فبراير عام 1945م ستالين وروزفلت وتشرشل، ومدينة سيفستوبل الميناء الذي كان يأوي أسطول الاتحاد السوفييتي الضخم، والذي أصبح محل نزاع بين روسيا وأوكرانيا، ومدن أخرى أقل أهمية، مثل: كيرشوفيادوسيا وبيلاغورسك وسوداك وجانكوك.
وكلمة القرم تعني القلعة باللغة التتارية؛ وتتمتع القرم بموقع استراتيجي هام وفيها الثروات الطبيعية، مثل: البترول، والفحم الحجري، والغاز الطبيعي، والنحاس، والحديد، والمنغنيز، والرصاص، والثروة الزراعية مثل: القمح، والفواكه، والمياه المعدنية ذات الخاصية العلاجية التي جعلت منها واحدة من أفضل المشافي في العالم.
وأقام التتار المسلمون في شبه جزيرة القرم منذ زمن بعيد، وهم قوم اكتسحوا أجزاء واسعة من آسيا وأوروبا بقيادة المغول في القرن الثالث عشر الميلادي،


ولقد أسس باطوخان حفيد زعيم المغول الكبير جنكيز خان القبيلة الذهبية التي أنشأت إمارة القبشاق إحدى ممالك المغول الكبرى، والتي سيطرت على أجزاء واسعة من روسيا وسيبيريا، واتخذت من مدينة سراي في الفولغا عاصمة لها، وأجبرت دوقية موسكو على دفع الجزية، وامتدت سيطرة التتار إلى شبه جزيرة القرم، حيث استوطنتها العديد من العائلات
التتارية، والتي اتخذت من الإسلام دينًا لها عام 1314هـ . وخضعت أجزاء من إمارة التتار للأتراك العثمانيين؛ بينما استولى القيصر الروسي إيفان الرابع على أجزاء أخرى، وتحولت الإمارة الكبرى إلى ثلاث إدارات هي استراخان وقازان والقرم .

وتولى الحكم في إمارة القرم الحاج دولت خيري أو كيراي في عام 1428م، وعندما توفِّيَ خلَّفه ابنه الثاني في الحكم بمساعدة البولنديين، إلا أن الأخ السادس منجلي قتل أخاه واستولى على حكم الإمارة بمساعدة الجنيزوف، حيث حكم في الفترة 1466/1515م وخضعت الإمارة لحكم العثمانيين في عام 1521م.
وحاصر محمد خيري موسكو، وأجبر حاكمها واسيلي على دفع الجزية، وتولى دولت خيري فتح موسكو عام 1571م، إلا أنه سرعان ما قلب الزمن ظهر المجن لإمارة القرم فقام بطرس الأول عام 1678م بمحاصرة القرم التي أسقطت في عهد الإمبراطورة انا أوانوفنا عام 1736م، واحتلت الجيوش الروسية عاصمة القرم بخشراي، وأحرقت الوثائق التي كانت تعد ذخيرة علمية لا تقدر بثمن، وكانت بمثابة رمز تاريخي للشعب التتري.
ولقد مارست الجيوش الروسية المذابح ضد السكان الآمنين إلى درجة أن الجثث لم تجد من يدفنها، وانتشرت الأوبئة التي أودت بحياة القتلة الروس أنفسهم إلا أن أبشع المذابح وقعت عام 1771م، عندما طبقت الجيوش الروسية المعتدية شعار من غير انتظار ولا عودة يجب محو التتار من هذه الأرض، وقتل في تلك المذابح أكثر من 350 ألف تتري.
ومارست روسيا القيصرية شتى ألوان القهر والتعذيب ضد شعب التتار، وصادرت أراضيهم ومنحتها لمواطنيها، وصادرت مساجدهم ومدارسهم، واضطر نحو مليون وعشرين ألفا منهم للفرار إلى تركيا، وقامت روسيا بتهجير الباقي إلى داخل المناطق الخاضعة لها؛ وذلك تطبيقا لاقتراح الأمير الروسي منشكوف، وعندما فشل الروس في زراعة أراضي القرم التي صادروها من أهلها التتار؛ وذلك لعدم خبرتهم بها أجَّروها مرة أخرى لهم لكي يزرعوها لهم.
وفي ديسمبر 1917م وإثر الثورة الشيوعية في موسكو أعلن تتار القرم عن قيام جمهوريتهم المستقلة برئاسة نعمان حيجي خان، إلا أن الشيوعيين سرعان ما أسقطوا الحكومة، وأعدموا رئيس الجمهورية وألقوا بجثته في البحر.
وفي عام 1920م أعلنت حكومة الاتحاد السوفييتي عن قيام جمهورية القرم ذات الاستقلال الذاتي، وعندما أراد ستالين إنشاء كيان يهودي في القرم عام 1928م، ثار عليه التتار بقيادة أئمة المساجد والمثقفين فأعدم 3500 منهم، وجميع أعضاء الحكومة المحلية بمن فيهم رئيس الجمهورية ولي إبراهيم، وقام عام 1929م بنفي أكثر من 40 ألف تتري إلى منطقة سفر دلوفسك في سيبيريا، كما أودت مجاعة أصابت القرم عام 1931م بحوالي 60 ألف شخص.
وهبط عدد التتار من تسعة ملايين نسمة تقريبا عام 1883م إلى نحو 850 ألف نسمة عام 1941م؛ وذلك بسبب سياسات التهجير والقتل والطرد التي اتبعتها الحكومات الروسية سواءً على عهود القياصرة أو خلفائهم البلاشفة، وتكفل ستالين بتجنيد حوالي 60 ألف تتري في ذلك العام لمحاربة النازيين، بينما هجَّر النازيون عند استيلائهم على القرم حوالي 85 ألف تتري إلى معسكرات حول برلين؛ وذلك للاستفادة منهم في أعمال السُخرة.
واتهم ستالين التتار بالتعاون مع النازيين الألمان فقام في مايو 1944م بتهجير أكثر من 400 ألف تتري في قاطرات نقل المواشي إلى أنحاء متفرقة من الاتحاد السوفييتي خاصة سيبيريا وأوزبكستان.
ولقد قام الجنود الروس بحرق ما وجدوه من مصاحف وكتب إسلامية، وأعدموا أئمة المساجد، وتم تحويل المساجد إلى دور سينما ومخازن.
وأصدر مجلس السوفييت الأعلى قرارًا في 20 يونيو 1946م بإلغاء جمهورية القرم ذات الاستقلال الذاتي، وذلك كما ورد في القرار لخيانة شعب القرم للدولة اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية، وفي عام 1967م ألغى مجلس السوفييت الأعلى قراره السابق باتهام شعب القرم بالخيانة، إلا أنه مع ذلك لم يسمح لهم بالعودة إلى وطنهم.
وعندما أعلن غورباتشوف آخر زعيم للاتحاد السوفييتي برنامجه الإصلاحي عام 1985م تحت شعار إعادة البناء "بريسترويكا" بدأ التتار في العودة إلى بلادهم، ولكن بلا أية حقوق، وعندما نالت أوكرانيا استقلالها عن الاتحاد السوفييتي عام 1991م عقد التتار مؤتمرهم الأول في 26 يونيو 1991م في مدينة سيمفروبل؛ حيث تم فيه تأسيس المجلس الأعلى لتتار القرم كممثل للشعب التتري، وانتخب المناضل التتاري الذي حكم عليه بالسجن مدة 15 عامًا "مصطفى جميل" رئيسًا للمجلس.
ولقد بدأ مصطفى جميل نضاله من أجل الحصول على حقوق شعبه تحت شعار لقد عادت إلينا شخصيتنا الإسلامية التي لا يمكن أن نفرط فيها، إننا مسلمون وسنبقى مسلمين، وسنعمل جاهدين على تعلُّم ديننا.
ويقدر عدد التتار في شبه جزيرة القرم حاليًا بحوالي 262 ألف نسمة، ويعيش أكثرهم في ظروف بالغة الصعوبة والقسوة بلا خدمات ولا إعلام ولا تعليم؛ لأن معظمهم لا يحملون الجنسية الأوكرانية التي تعتبر أكبر العقبات التي تواجههم؛ حيث تشترط الحكومة الأوكرانية دفع مبلغ وقدره حوالي مائة دولار للشخص الواحد للحصول على الجنسية، وهو مبلغ كبير إذا كان أفراد العائلة الواحدة ما بين 5 : 10 أفراد.
    ومن المشاكل الكبيرة التي يواجهونها مشكلة البطالة التي تصل إلى 49 %، وهم ينظرون إلى إخوانهم المسلمين في العالم نظرة أمل وتفاؤل، ويأملون في إقامة مشاريع على أرضهم، مثل تشغيل المشافي والمصحات، والاستثمار في المجالات الزراعية والصناعية وغيرها

*استيلاء التتار على دمشق :
الزمان / 14 جمادى الأولى – 658هـ
المكان / دمشق - الشام
الموضوع / جيوش التتار بقيادة هولاكو تحتل دمشق ثم تخرج منها سريعاً .
الأحداث /
تبدأ الأحداث من عند الفاجعة العظمى التي ابتليت بها أمة الإسلام عندما اجتاح التتر المتوحشون بلاد الإسلام وأسقطوا حاضرة الخلافة العباسية بغداد وقتل الخليفة وأولاده ومعهم قرابة المليونين مسلم وذلك سنة 656هـ فلما كانت سنة 658هـ كان العالم الإسلامي يتحكم فيه أربعة ملوك باستثناء الشمال الإفريقي .
1- شمال آسيا ويشمل بلاد ما وراء النهر ومعهم العراق ويحكمه هولاكو التتري .
2- البلاد الشامية ويحكمها الناصر بن العزيز بن العادل الأيوبي .
3- بلاد الكرك ويحكمها المغيث بن العادل .
4- بلاد مصر ويحكمها السلطان قطز المملوكي .
والعجب كل العجب لملوك يتحاربون من أجل الملك ويذهلون عن أعدائهم فلما اتفق الناصر مع المغيث على قتال قطز لأخذ الديار المصرية منه عنوة وإعادة حكم الأيوبيين عليها وفي هذه الأثناء عبر هولاكو بجيوشه الجرارة نهر الفرات ثم اتجه إلى حلب فحاصرها سبعة أيام ثم استسلم أهلها فغدر بهم وأعمل فيهم القتل والسبي فانخلع قلب ملك حماة فأرسل إليه مفاتيح البلد ثم اتجه هولاكو بعدها مباشرة وجعل قائد جيوشه كتبغانوين ولم يجد كتنغا أي مقاومة تذكر في المدينة فدخلوها سريعاً بل تلقاهم كبار المدينة بالرحب والسعة وكتب هولاكو أماناً لأهل البلد ولكن قلعة المدينة لم تستسلم فأحكم عليها التتار الحصار ونصبوا عليها المجانيق وفيهم منجنيق عملاق وظلوا يضربون القلعة ليل نهار حتى تداعت أحجارها وسقطت في 14جمادى الأول فقتلوا متولي القلعة بدر الدين بن قراجا ونقيبها جمال الدين بن الصيرفي ثم سلموا البلد لأمير منهم يقال له إبل سيان ومن هنا تبدأ فصول معاناة جديدة .
كان هذا الرجل لعنه الله معظماً لدين النصارى فاجتمع به أساقفة النصارى في دمشق فعظمهم جداً وزار كنائسهم فصارت لهم دولة وصولة بسبب ذلك حيث ذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحفاً فأعطاهم أماناً وفرماناً من جهته فدخلوا من باب ثوما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس وهم ينادون بشعارهم ويقولون 'ظهر الدين الصحيح دين المسيح' ويذمون دين الإسلام وأهله ومعهم أواني فيها خمر لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمراً ويرشون على وجوه الناس وثيابهم ويأمرون كل من يجتازون به الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم ودخلوا من درب الحجر الصغير والكبير ووقفوا عند رباط الشيخ أبي البيان ورشوا عنده خمراً فتكاثر عليهم المسلمون حتى ردوهم  إلى سوق كنيسة مريم فوقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق فمدح دين النصارى وذم دين الإسلام ثم حاولوا دخول الجامع الكبير بخمر وكان في نيتهم إن طالت مدة التتار أن يخربوا المساجد .
عندها اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء فدخلوا القلعة يشكون هذا الحال إلى الأمير 'إبل سيان' وظهرت حقيقة الحقد الصليبي عند نصارى الشام وظهر ما كان دفيناً منذ الحروب الصليبية وفي نفس الوقت كان سلطان الشام الناصر بن العزير معه جيوش كثيرة لمحاربة التتار ولكنهم غير مؤتلفين فتقرقوا شذر مذر ولا يدرون ما يخبأه القدر لهم بعدها .
لم يكد يمر على المسلمين في دمشق وسائر بلاد الشام سوى أربعة شهور من المعاناة من التتار الهمج والصليبيين الحاقدين حتى جاءت البشارات بانتصار المسلمين على التتار في عين جالوت وأن جيوش الإسلام تتبع التتار حتى دمشق فعندما طارت الأخبار بذلك فرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً وانطلقوا يردون الصاع اثنين للنصارى الحاقدين فاتجه المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب فأحرقوها وأحرقوا دور النصارى حولها وقتل العوام وسط الجامع شيخاً رافضياً كان مصانعاً للتتار على أموال الناس يقال له الفخر الكنجي كان خبيث الطوية ممالئاً لهم على أموال المسلمين وقتلوا جماعة مثله من المنافقين وقطع دابر الذين ظلموا وأذل الله عز وجل النصارى الحاقدين وانطلق المسلمون يقتلون التتار ويفكون الأسارى من أيديهم وكان دخولهم وخروجهم إلى دمشق كسحابة صيف سرعان ما انقشعت ولكنها كشفت حقيقة نصارى الشام ومدى حقدهم
 كيف قدم التتار إلى البلاد العربية الإسلامية ، وقد سبقتهم سمعتهم الرهيبة وأفعالهم المتوحشة ، فعاثوا في الأرض فساداً في بغداد وحلب ودمشق ، واتجهوا إلى الديار المصرية ليأخذوها ، وكانت تحت حكم السلطان المملوكي قطز ، وجاء الخبر إلى الناس في مصر أن عسكر هولاكو قد وصل إلى دمشق ، ونهب البلاد ، وقتل العباد ، فاضطربت من هذا الخبر القاهرة ، وعظمت البلية ، ووصلت رسل خمسة من هولاكو برسالة جاء فيها بعد كلام فيه احتقار للمماليك : ( سلموا إلينا الأمر تسلموا قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ، وقد سمعتم أنا أخربنا البلاد وقتلنا العباد ، فلكم منا الهرب ، ولنا خلفكم الطلب ، فمالكم من سيوفنا خلاص ، وأنتم معنا في الأقفاص ، خيولنا سوابق ، وسيوفنا صواعق ، فقلوبنا كالجبال ، وعددنا كالرمال ، فمن طلب حربنا ندم ، ومن تأخر عنا سلم ) . 

ثم قال له بعد كلام : ( فأسرعوا إلينا بالجواب قبل أن تضرم الحرب نارها ، وترميكم بشرارها ، فلا يبقى لكم جاه ولا عزّ ، ولا يعصمكم منا حصن ولا حرز ، وتترك الأرض منكم خالية ، والمنازل خاوية ، فقد أيقظناكم إذ حذرناكم ، فما بقي لنا مقصد سواكم ، وقد حذرنا قبلكم أهل بغداد بمثل ذلك فما سمعوا فجرى عليهم ما سمعتم به ، وقتلنا خطيبهم الذي يزعمون أنه الخليفة ، وخربنا عواقب الردى ) ، فها أنت ذا ترى أخي القارئ شدة التتار في كلامهم ، وقوة تهديدهم ، وجلبهم العبارات الميئسة ، خاصة أن هولاكو ختم الرسالة بهذين البيتين : 

أين المفر ولا مفـرّ لهـارب *** ولنا البسيطان:الثرى والماء 
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت في ***  يـدنا الأمـراء والخلفـاء 


فماذا فعل المظفر قطز بعد هذا التهديد الذي لا مثيل له ؟ إن الرجل توكل على مولاه الذي لا يخيب قاصده ، وقرر أن يدخل الحرب ضد هولاكو ، وذلك بعد أن جمع الأمراء فاستشارهم فقال لهم فيما قال : ( إن تأخرتم عن قتالهم ملكوا الديار المصرية ، وفعلوا بنا كما فعلوا في بغداد )، فأجمع أمرهم على الخروج إلى هولاكو ، وهنا فعل قطز فعلاً عجيباً لا يقدم عليه إلا من كان قد عقد العزم على المناجزة ، وبث الرعب في العدو المقابل ، وذلك أنه أمر بالرسل الخمسة فقتلوا ، وهذا مخالف لما هو معروف من أن الرسل لا يقتلون ، لكنه صنع هذا ليخيف الأعداء ويشعرهم بقوته وهيبته وسطوته .

واستعد المظفر قطز للقتال وجمع عدداً ضخماً من الجنود بينهم كثير من عربان الشرقية والغربية ، ونادى بالنفير العام إلى الغزو في سبيل الله تعالى ، فاجتمع عنده من عساكر مصر نحو أربعين ألفاً ، ثم برزت مشكلة جمع الأموال اللازمة لهذا الجهاد ، فعقد مجلساً دعى إليه القضاة والمشايخ ، وكان على رأسهم شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله تعالى ، واستشار السلطان قطز عز الدين بن عبد السلام في شأن المال ، فقال الإمام كلاماً عظيماً لا يصدر إلا ممن وثق بنصر الله تعالى لعبيده فقال : (اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر )، فقال السلطان : ( إن المال في خزانتي قليل وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار )، فقال له الإمام ابن عبد السلام :( إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك ، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام اتخاذه ، وضربته سكة ونقداً ، وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم ، ذلك الوقت اطلب القرض ، وأما قبل ذلك فلا )، فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بحضرة الشيخ ، وكانت له عندهم عظمة ، وله في أنفسهم مهابة بحيث لا يستطيعون مخالفته ، فامتثلوا ما قاله ، وهذا يدل على أن لمشايخ الإسلام القدماء عظمة ومكانة لا تدانيها مكانة .

وأما قول العز بن عبد السلام :( اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر ) فهو من باب الثقة بنصر الله تعالى ، وأن النصر يتنزل إن حققت شروطه ، والشيخ قد رأى أن شروطه تحققت ، أو أن ذلك من باب الكرامة للشيخ رحمه الله تعالى ، ويشبه هذا ما وقع لشيخ الإسلام ابن تيمية فإنه كان يقسم للناس أن الله سينصرهم على التتار في وقعة شقحب سنة 702هـ وكانت مع التتار أيضاً ، وكان إذا قيل له : قل إن شاء الله يقول : إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً .

ثم إن المظفر قطزاً جمع المال من الناس ، فقرر على كل رأس من أهل مصر والقاهرة من كبير وصغير ديناراً واحداً ، وأخذ من أجرة الأملاك شهراً واحداً ، وأخذ من أغنياء الناس والتجار زكاة أموالهم معجلاً ، وأخذ أشياء أخرى كثيرة ، واجتمع له من الأموال بسبب هذا ستمائة ألف دينار وكسور ، فأنفق ذلك على العسكر والعربان وجهز جيشه ، والطريف أن أحد الشعراء قال في صنيعه هذا الذي اتكأ فيه على فتوى الإمام ابن عبد السلام :

إن سلطاننا الذي نرتجيـه واسع الحال ضيق الإنفـاق
هو سـيف كما يقـال ولكـن قاطـع للرســوم والأرزاق

وصل المظفر قطز إلى فلسطين في موقع هنالك يقال له ( عين جالوت ) ، وكان ذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة 658 ، وكان يوم جمعة ، فلما رأى جنود التتار وكثرتهم قال رحمه الله تعالى للأمراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم ، وقد التقى مع التتار فانكسر الجيش الإسلامي ابتداء ، فترجل عن جواده ورمى خوذته وقال : وا إسلاماه ، فكان لهذه الكلمة فعلها في النفوس ، فاجتهد الجند والأمراء وقاتلوا قتالاً هائلاً ، وكان بينهما ما تشيب من هوله النواصي ، وقتل من الفريقين عسكر لا يحصى في معركة هائلة ، ثم انجلت المعركة عن هزيمة شنيعة للتتار ما ذاقوا مثلها من قبل ، وقتل قائدهم المحنك كَتْبُغانُوِين نائب هولاكو على بلاد الشام ، ولله الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، وما قامت للتتار قائمة بعد تلك المعركة ، بل كان أمرهم إلى بوار ، وفرح المسلمون فرحاً شديداً بهذه النتيجة ، واتبعوا التتار يقتلونهم في كل موضع ، وهرب التتار من دمشق وحلب ، وأيد الله الإسلام وأهله ، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين الذين فرحوا بانتصار التتار قبل ذلك ، وظهر دين الله وهم كارهون .

وبعد : لقد نصر الله المسلمين في عين جالوت نصراً عظيماً لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً يتوقعه ، والمسلمون اليوم تحيط بهم أخطار كثيرة من جهات عديدة لكن بشائر النصر قريبة إن شاء الله تعالى ، فهاهم أسود الله في فلسطين والشيشان وكشمير وغيرها يجاهدون في سبيل الله ، ويرفعون راية الدين عالية ، ويثبتون للدنيا جميعها أن هذه الأمة لا تموت ، ولا ينبغي لها أن تموت ، وأن رحمها ولود بالأبطال ، وأنها تستعصي على كل المؤامرات الدولية والمؤتمرات التيئيسية .


أسباب النصر

يجدر بنا أن نتوقف قليلاً لمعرفة أسباب انتصار قطز على التتار. إن كل الحسابات العسكرية تجعل النصر إلى جانب التتار بدون أدنى شك، ولكن الواقع يناقض كل تلك الحسابات، فقد انتصر قطز، وانهزم التتار. فقد كان لقادة التتار تجارب طويلة في الحروب، ولم يكن لقطز وقادته مثل تجارب قادة التتار ولا ما يقاربها، والقائد المجرب أفضل من القائد غير المجرب قطعًا، وكذلك الجيش المجرب أفضل من الجيش الذي لا تجربة له. وكانت معنويات التتار قادة وجنودًا عالية جدًا، لأنهم تقدموا من نصر إلى نصر، ولم تهزم لهم راية من قبل أبدًا، وكانت معنويات قادة قطز وجنوده منهارة، وقد خرج أكثر القادة إلى القتال كرهًا. وقد انتصر التتار في حرب الأعصاب، فكانوا ينتصرون بالرعب، مما يؤثر في معنويات أعدائهم أسوأ الأثر، والجيش الذي يتحلى بالمعنويات العالية ينتصر على الجيش الذي تكون معنوياته منهارة. وكانت كفاية جيش التتار متفوقة على كفاية جيش قطز فواقًا كاسحًا، لأن جيش التتار خاض معارك كثيرة، لذلك كانت تجربته العملية على فنون القتال باهرة إلى أبعد الحدود، أما جيش قطز، فقليل التجربة العملية قليل التدريب. والجيش الذي يتحلى بالكفاية -خاصة في ميدان التدريب العملي- ينتصر على الجيش الذي لا كفاية عملية لديه. وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز عَددًا وعُددًا، وقد ازداد تعداد جيش التتار بالذين التحقوا به من الموالين والمرتزقة والصليبيين، بعد احتلاله أرض الشام، والتفوق العَددي والعُددي من عوامل إحراز النصر. وكان جيش التتار يتمتع بمزية فرسانه المتدربين، وكان تعداد فرسانه كبيرًا، مما ييسر له سرعة الحركة، ويؤدي إلى تطبيق حرب الصاعقة التي كانت من سمات حرب التتار، والجيش الذي يتحلى بسرعة الحركة يتغلب عل الجيش الذي لا يتحلى بهذه الميزة. وكانت مواضع جيش التتار في عين جالوت أفضل من مواضع جيش قطز، لأن تلك المواضع كانت محتلة من التتار قبل وصول جيش قطز إلى المنطقة التي كانت تحت سيطرة التتار. وللأرض أثر عظيم في إحراز النصر وكان جيش التتار متفوقًا على جيش قطز في قضاياه الإدارية؛ إذ كان يستند على قواعده القريبة في أرض الشام، وهي التي استولى عليها واستثمر خيراتها، بينما كانت قواعد جيش قطز بعيدة عنه، لأنه كان يعتمد على مصر وحدها في إعاشته، والمسافة بين مصر وعين جالوت طويلة؛ خاصة في تلك الأيام التي كانت القضايا الإدارية تنقل على الدواب والجمال مخترقة الصحاري والوديان والقفار. هذا التفوق الساحق الذي بجانب التتار في سبع مزايا حيوية: التجربة العملية، والمعنويات العالية، والكفاية القتالية، والعدد والعدة، وسرعة الحركة، والأرض، والقضايا الإدارية، هذا التفوق له نتيجة متوقعة واحدة، هي: إحراز النصر على قطز وجيشه أسوة بانتصاراتهم الباهرة على الروم والفرس والعرب والأمم الأخرى في زحفهم المظفر الطويل. ولكن الواقع أن الجيش المصري انتصر على جيش التتار، فكيف حدث ذلك؟ أولاً: قدّم شيوخ مصر، وعلى رأسهم الشيخ العز بن عبد السلام إرشاداتهم الدينية لقطز، فأخذ بها ونفذها على نفسه وعلى رجاله بكل أمانة وإخلاص، وأمر رجاله بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فخرج الجيش من مصر تائبًا منيبًا طاهرًا من الذنوب. وكان على رأس المجاهدين جميع القادرين من شيوخ مصر على السفر وحمل السلاح وتحمل أعباء الجهاد. ثانيًا: قيادة قطز الذي كان يتحلى بإرادة القتال بأجلى مظاهرها، فكان مصممًا على قتال التتار مهما تحمل من مشاق، وبذل من تضحيات، ولاقى من صعاب. ولعل إصراره على مهاجمة التتار خارج مصر، وعدم بقائه في مصر، واختياره الهجوم دون الدفاع، واستبعاده خطة الدفاع المستكن، هو الذي جعل رجاله قادة وجنودًا في موقف لا يؤدي إلا إلى الموت أو النصر، مما جعلهم يستقتلون في الحرب، لأنه لم يكن أمامهم في حالة الهزيمة غير الإبادة والإفناء. إن قطز لم يجاهد ليتولى السلطة، بل تولى السلطة من أجل الجهاد. ثالثًا: إيمان قطز بالله واعتماده عليه، وإيمان المتطوعين في جيشه من المجاهدين الصادقين الذين خرجوا طلبًا للشهادة، كان له أثر عظيم في إحراز النصر. إن أثر قطز والمجاهدين معه في معركة عين جالوت كان عظيمًا، وحين اطمأن قطز إلى نصر الله ترجل عن فرسه، ومرغ وجهه في التراب تواضعًا، وسجد لله شكرًا على نصره، وحمد الله كثيرًا وأثنى عليه ثناءً عاطرًا. لقد كان انتصار المسلمين في "عين جالوت" على التتار انتصار عقيدة لا مراء


أخذ التتار حلب ودمشق

وبينما الناس على هذه الحال، وقد تواترت الأخبار بقصدالتتار بلادالشام، إذ دخل جيش المغول صحبة ملكهم هولاكو، وجازوا الفرات على جسور عملوها ووصلوا إلى حلب في ثاني صفر من هذه السنة، فحاصروها سبعة أيام، ثم افتتحوها بالأمان ، وغدروا بهم ، فقتلوا منهم خلقا لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ونهبوا الأموال وسبوا النساء والأطفال، وجرى عليهم قريب مما جرى على أهل بغداد فجاسوا خلال الديار، وجعلوا أعزة أهلها أذلة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وامتنعت عليهم قلعتها شهرا، ثم تسلموها بالأمان وخرب أسوار البلد وأسوار القلعة، وبقيت حلب كأنها حمار أجرب، وكان نائبها الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين ،وكان عاقلا حازما لكنه لم يوافقه الجيش على المصلحة ولكن سرعوا وكان أمر الله قدرا مقدورا. وقد كان السلطان هولاكو أرسل إلى أهل البلد يقول لهم حين قدم بجحافله: نحن إنما جئنا لقتال الملك الناصر بدمشق، ونحن نريد منكم أن تجعلوا بالقلعة شحنة، فإن كانت النصرة لنا فالبلاد كلها في حكمنا، وإن كانت علينا فإن شئتم قبلتم الشحنة وإن شئتم أطلقتموه. فأجابوه: مالك عندنا إلا السيف. فتعجب من ضعفهم وجوابهم بهذا فزحف حينئذ إليهم وأحاط بالبلد وكان ما كان بقضاء الله وقدره ، ولما فتحت حلب أرسل صاحب حماة بمفاتيحها إليه فاستناب عليها رجلا من العجم يدعى أنه من ذرية خالد بن الوليد يقال له: خسروشاه . فخرب أسوارها كما فعل بمدينة حلب .



هزيمة التتار

كتبها "علي أحمد باكثير" سنة 1945م، وهي تتعرض لفترة مهمة من تاريخ العالم الإسلامي؛ حيث واجه خلالها هجمة شرسة من التتار القادمين من جهة الشرق والصليبين القادمين من جهة الغرب، كانت تلك هي رواية "واإسلاماه" التي  يمكن عبر سطورها أن نتلمس عوامل الهزيمة وعوامل النصر كما عرض لها المؤلف.   
تفرق.. تنهزم
عرض باكثير من خلال الرواية للوضع السائد في العالم الإسلامي في تلك الحقبة، فإذا هي الفُرقة بين الدويلات الإسلامية، وانشغال كل ملك بما تحت يده؛ فلا يعين أحدهم الآخر على الأعداء. فها هو السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه يدهمه التتار بجيوشهم الجرارة؛ فلا يستطيع صدهم، فيرسل رسله إلى مركز الخلافة الإسلامية وأمراء المسلمين في الشرق يستمدهم العون المادي ليستعين به على صد التتار "فلديهم من الغنى الفاحش وفي بلادهم من مصادر الثروة الواسعة ما يكفل له القدرة على مواجهة عدو المسلمين جميعًا إذا أمدوه بنزر مما يملكون"(1). فلا يلقى لذلك أي صدى، بل إن بعضهم "أغلظ له في الرد، وكان من جوابه له أنه ليس من الغفلة والجهل بحيث يساعد جلال الدين على عدوه؛ ليخلو له الجو بعد ذلك فيغير على بلاده؛ فلا فرق بينه وبين التتار المتوحشين!"(2).
وهاهم ملوك المسلمين وأمراؤهم في الشام يسالمون الصليبين، ويبيعونهم السلاح الذي يقتلون به المسلمين، كما فعل الصالح إسماعيل أمير دمشق. وهاهم المماليك في مصر يكيد بعضهم لبعض في سبيل الوصول إلى كرسي الحكم. بينما هم مستسلمون أمام العدو الخارجي؛ فحين أرسل زعيم التتار للسلطان قطز -بطل الرواية وقاهر التتار- يهدده ويتوعده ويدعوه للتسليم وعدم المقاومة "استشار السلطان الأمراء فيما يجب أن يجيب التتار به، فأشار معظمهم أن يكتب إلى هولاكو جواباً لطيفاً يتقون به شره، ويخطبون به وده، ويتفقون معه على مال يؤدونه جزية إليه كل سنة؛ لئلا يهجم على بلادهم، فيهلك الحرث والنسل، وقالوا: إنه لا فائدة من مقاومة التتار، وإن اللين معهم أنفع من الشدة"(3).
النصر.. لم يكن "قطز" وحده
ولم يحصر باكثير -كما أرى- أسباب النصر في شخصية قطز وحده، وإن كانت هي الشخصية الأهم، وإنما جعلها باكثير -كما ظهر لي من الرواية- عدة عوامل تتضافر معاً.
   فالقائد الصالح يمثله في الرواية سيف الدين قطز، الذي "يضرب بعدله ونزاهته المثل"، كما يقول عنه باكثير في المقدمة. وهذا القائد تمثلت فيه عدة صفات أهّلته لهذا الدور الخطير الذي اضطلع به، من هذه الصفات نبل الأصل والشجاعة والفروسية والتربية الخشنة؛ فقد نشأ قطز عبداً مملوكاً ينتقل من سيد إلى آخر، فخبر آلام الشعب، وعايش مشكلاته، وخبر صروف الدهر وتقلبات الأيام، وكانت هناك الصفات الجسمانية والشخصية التي أهّلته، وأعانته على هذه القيادة، وكذلك فقد نشأ قطز نشأة دينية؛ إذ تعرف على الشيخ ابن عبد السلام في دمشق، وأخذ يختلف إليه خلال فرض الإقامة الجبرية على الشيخ في منزله.
   أما العالم الصالح فيمثله في الرواية الشيخ عز الدين بن عبد السلام؛ ذلك  العالم الذي لا يخشى في الله لومة لائم، "ويجهر بآرائه المخالفة للسلطان حتى فرض عليه الصالح إسماعيل الإقامة الجبرية في بيته، ثم انتقل إلى مصر لمساندة الملك الصالح أيوب الذي كان لا يمالئ الصليبين بل يحاربهم ويجاهدهم، وقد ولاه الصالح أيوب القضاء، ولكنه عزل نفسه منه حين رأى من الصالح عدم الإنصاف، وحين تولى قطز الإمارة أخذ يستفتي الشيخ ابن عبد السلام، ويعمل بفتياه، "فاستفتى الملك المظفر العلماء في جواز فرض الأموال على العامة لإنفاقها في العساكر، فتهيب العلماء في الإفتاء، وخافوا إن هم أفتوا بالجواز أن يغضبوا العامة عليهم، وإن أفتوا بالمنع أن يغضب السلطان، فظلوا يتدافعون الإفتاء حتى صدع ابن عبد السلام بفتياه العظيمة، فسكت سائر العلماء، وانفض المجلس على ذلك"(4). وكانت هذه الفتيا تقول: إنه لا يجوز فرض الأموال على العامة حتى يرد الأمراء ما لديهم من كنوز إلى بيت المال، فإن لم تفِ بالحاجة جاز فرض الأموال على العامة لإنفاقها على الاستعداد للجهاد. وقد سعد قطز بهذه الفتيا التي تدل على الشجاعة وسعة العلم.
ثالث هذه العوامل هو الغني الصالح الذي ينفق ماله فيما شرعه الله من الإحسان والبر وتجهيز المجاهدين، ويمثله في الرواية ابن الزعيم "والسيد ابن الزعيم مثل صالح للغني الشاكر نعمة الله عليه، لم ينس حق الله في ماله؛ فكان ينفق منه على الفقراء والمساكين وذوي الحاجة من الأرامل واليتامى، وكان يرى أن لدينه ووطنه حقوقاً عليه، لا تبرأ ذمته حتى يؤديها، وكم من غني في دمشق لا هم لهم إلا ملء بطونهم وإشباع شهواتهم"(5).
وعرض باكثير دورًا إيجابيًّا للمرأة في الجهاد تمثله "جلنار"؛ فهي ابنة خال قطز، نشآ معاً، وتعرضا للتشرد معاً، وجربا حياة العبودية معاً، وتفرقا في دمشق، ثم التقيا في مصر، وأصبحا زوجين. وكانت جلنار الزوجة الصالحة التي تعين زوجها وتؤازره وهو يعد العدة لملاقاة التتار، ولا يقتصر دورها في الرواية على هذا.. بل إنها قد شاركت في الجهاد بالسيف عندما تطلّب منها الأمر ذلك، حين انكشف المسلمون عن القائد، ورأت فارساً تترياً يكاد يغدر بالقائد، ولهذا نرى باكثير يؤكد من بداية الرواية على اهتمام السلطان جلال الدين بتدريب ابنته (جلنار) على ركوب الخيل وفنون القتال تحسباً لمثل هذا اليوم.
كأنهم خلق آخر
  ولا شك أن استفراغ الجهد في الإعداد لملاقاة العدو من أهم أسباب النصر، وهكذا نجد الملك المظفر قطز يستغرق 10 أشهر في إعداد العدة، وتجهيز الجيش لملاقاة العدو، وجاء من ضمن هذا الإعداد التصدي لحملات التهويل التي يبثها العدو لزرع الرعب في قلوب المسلمين، وشحذ همم الناس عن طريق العلماء والخطباء في المساجد، وتذكيرهم بما أعد الله للمجاهدين الصابرين من أجر عظيم؛ حتى قويت عزيمتهم، وارتفعت معنوياتهم، "فخالط الناس شعور عظيم لم يعهدوا له مثيلاً من قبل، وأحسوا كأنهم خلق آخر غير ما كانوا، وأنهم يعيشون في عصر غير عصرهم"(5).
وجاءت الشورى كمبدأ أساسي يقوم عليه نظام الحكم في الإسلام، طبقها قطز ليصلح جهاده ضد التتار قبل لقائهم، أما حين يشتد البأس ويحمى الوطيس فهنا لا بد من الصبر والمجالدة، وفي هذا الموقف يضرب القائد المثل لجنده بأن يكون هو أشدهم بأساً وقتالاً، وهكذا كان السلطان قطز؛ فحين يرى أن كفة العدو قد بدأت ترجح يكر بنفسه ليقوي من عزيمة المقاتلين، على أنه لم يكن يلقي نفسه في المهالك.. بل لقد "كان في كل ذلك حذراً كأنما ينظر بألف عين، لا تفوته أقل حركة يقوم بها العدو، ولا أي تضعضع يبدو من قبل أصحابه"(6)، وهو في ذلك صادق اللجوء إلى الله عز وجل، كثير الذكر لله خلال الاستعداد لبدء المعركة.
لغة "باكثير".. السهل الممتنع

الأديب باكثير قدم روايته عن فترة حرجة في تاريخنا
تمتاز الرواية -كسائر أعمال باكثير- بسمو اللغة وعذوبتها؛ فباكثير شاعر مبدع كما هو ناثر مبدع. وتتمثل براعته اللغوية -في رأيي- في استخدامه للغة الفصحى السهلة الممتنعة. مع تطعيمها ببعض المفردات الرصينة التي تدل على عمق تمكن باكثير من ناصية اللغة، كما تسمو بذوق القارئ، وتثري مخزونه اللغوي.
كما تبدو ثقافة الكاتب الدينية واضحة من خلال الرواية في مجملها؛ إذ إنها تدور حول محور الجهاد في سبيل الله بما يشمله من جهاد بالنفس وجهاد بالمال والإعداد لذلك إلى آخر تلك المعاني، وكذلك من خلال تضمينه لكثير من الآيات الكريمة في مواضعها المناسبة؛ مما يدل على استيعابه لكتاب الله عز وجل، وتمثله له حتى امتلأت به نفسه، فسال على قلمه.
وكذلك تبدو ثقافته الفقهية في قوله عن قطز وجلنار حين ذكر أن سيدهما غانم المقدسي قد أوصى بإعتاقهما عند وفاته، وعلق على ذلك بقوله: "كما دبّر لهما مولاهما الفقيد"(7) و"التدبير" في الفقه هو أن يوصي السيد بأن يعتق العبد عند وفاة السيد.
  لقد كتب باكثير هذه الرواية قبل قيام الكيان الصهيوني بثلاثة أعوام، ولكنه كان يرى ما عليه الأمة من الضعف والهوان وممالأة العدو والاستسلام له، فكتب هذه الرواية الرائعة يستنهض بها همم المسلمين، ويضرب لهم أروع الأمثلة من تاريخهم الحافل بالبطولات. ولم يختر باكثير فترة من فترات عهد النبوة أو الخلافة الراشدة، وإنما اختار عهداً تفرقت فيه الأمة الإسلامية إلى دويلات ضعيفة، وخارت فيه الهمم، وكثر فيه المثبطون الداعون إلى الاستسلام.

[1] - وا إسلاماه، ص (66)
[2] - وا إسلاماه، ص (66)
[3] - علي أحمد باكثير: وا إسلاماه، دار الكتاب اللباني –بيروت، دون تاريخ، ص (232)
[4] - وا إسلاماه، ص(222)
[5] - وا إسلاماه، ص (124)
[6] - وا إسلاماه، ص(253)
[7] - وا إسلاماه، ص (108)

تعليقات

  1. السلام عليكم
    حرب التتار -ملوك حرب التتار
    http://mtatar.com/ts3/register.php?ref=72

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأرشيف مفهومه تاريخه أصنافه و إدارته

الاحتلال البريطاني للسودان

Art nouveau الفن الحديث