دمشق بوابة صلاح الدين إلى الوحدة

دمشق بوابة صلاح الدين إلى الوحدة
(في ذكرى دخول صلاح الدين دمشق: 29 ربيع الأول 570هـ)

سمير حلبي

صلاح الدين فيشبابه
مرّت الأمة العربية والإسلامية بمرحلة شديدة من الضعف والانقسام قبيل ظهور "صلاح الدين الأيوبي" على مسرح الأحداث، وأصبح العرب والمسلمون مطمعًا لدول أوروبا، وصارت بلاد المسلمين نهبًا للصليبيين المتربصين بالأمة الإسلامية، فقد كانت الخلافة العباسية تؤذن بالزوال، وأصبح الخليفة العباسي بلا أي سلطان، بل لقد صار هو نفسه تحت وصاية القادة الأتراك الذين ازداد نفوذهم وأصبحت لهم السطوة والسلطة في الخلافة، وصارت وظيفة إمرة الأمراء يفوق سلطانها سلطان الخلافة، حتى أطلق المؤرخون على الخلفاء العباسيين في ذلك الوقت المستضعفين.
ظهور أسرة الأيوبيين
وفي ظل تلك الأجواء المشحونة بالتفكك والتخاذل ظهرت أسرة صلاح الدين، تلك الأسرة الكردية التي أسلمت منذ وقت مبكر، وكان لها من البأس والقوة ما مكّنها من السيطرة على عامة أرض فارس في عهد الدولة الأموية.
واشتدت قوتهم وازداد نفوذهم مع ضعف الخلافة العباسية، إلا أن ظهور السلاجقة في العراق قضى على تلك الدويلات الصغيرة التي أنشأها الأكراد، خاصة في الأجزاء الغربية من جبال إيران.


وتذكر المصادر التاريخية أن "شادي" جد صلاح الدين هاجر مع أسرته من أذربيجان إلى العراق التي كان يسيطر عليها السلاجقة، واستطاع أن يتصل ببعض رجال الدولة السلجوقية، وكان متميزا بالجرأة والشجاعة وشخصيته القوية فمنحوه حكم قلعة "تكريت"، فلما تُوفي شادي ورثه ابنه الأكبر "أيوب"، وأصبح حاكما عليها، وكان يعاونه أخوه الأصغر "شيركوه".
وفي تلك القلعة وُلِد "صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي" في سنة (532هـ=1137م).
في بلاط الأتابكة
واضطر أبناء شادي إلى ترك القلعة واللجوء إلى الأتابكة في الموصل فرارا من السلاجقة بعد أن قتل شيركوه قائدا سلجوقيا كاد يبطش بامرأة هناك، ولقي الأخوان أيوب وشيركوه الحفاوة والتكريم من "عماد الدين زنكي" حاكم الموصل الذي ألحقهما بالعمل معه، وجعل أيوب أميرًا على "بعلبك"، فلما قتل "عماد الدين" على يد غلمانه سنة (541هـ=1146م) ظل الأخوان إلى جانب ابنيه "نور الدين محمود" و"غازي"؛ فاتسع نفوذهما وقوى سلطانهما.
دمشق في حياة صلاح الدين
لعلَّ أولى ذكريات دمشق في وعي صلاح الدين ووجدانه ترجع إلى فترة مبكرة من صباه، وهو غلام صغير لم يتجاوز الحادية العشرة، عندما غزا الصليبيون دمشق في حملتهم الثانية إلى المشرق وحاصروها في (ربيع الأول 543هـ=يونيو 1148م)، فتصدى لهم أبوه "أيوب" مع "معين الدين أنر" حاكم دمشق ـ استمات أهل دمشق في الدفاع عنها في ملحمة بطولية رائعة حتى اضطر الصليبيون في النهاية إلى قبول العرض الذي طرحه "أنر" عليهم بتسليمهم حصن "بانياس" مقابل رفع الحصار عن دمشق، خاصة بعدما علموا بخروج الأميرين الزنكيين نور الدين وأخيه غازي لنجدة أنر، ولكن خروج الصليبيين من دمشق على هذا النحو بعد مصالحة "أنر" لهم دفع نور الدين إلى أن يفكر جديا في الاستيلاء عليها وضمها إلى أملاكه، وقوي هذا العزم في نفس نور الدين بعد أن توفي أخوه غازي وأصبحت مقاليد الأمور كلها في يده.
وقد ساهم الأخوان أيوب وشيركوه بقدر كبير في تحقيق أمنية نور الدين، فلما آلت إليه دمشق سنة 549هـ=1154م نقل إليها مركز حكمه، وعيّن أيوب حاكما عليها وجعل شيركوه نائبا عنه، واتخذ صلاح الدين رئيسا للشرطة، وكان في السابعة عشرة من عمره.
نور الدين والفاطميون
واتسعت دولة "نور الدين" لتمتد من حلب إلى دمشق، وكان لجهود الأخوين "أيوب" و"شيركوه" أكبر الأثر في توطيد أركان تلك الدولة الفتية، وفي الوقت الذي كان نجم دولة "نور الدين" في الشام آخذا في الصعود كانت أوضاع دولة الفاطميين في مصر في تدهور مستمر، خاصة بعدما تفاقم الصراع بين كل من "شاور" و"ضرغام" على الوزارة، والذي انتهى بانتصار "ضرغام" وطرد "شاور" من مصر سنة (558هـ=1163م).
ولجأ "شاور" بعد هزيمته إلى "نور الدين" في الشام فاستنجد به، وأطمعه في مصر، ووعده بثلث خراجها، وتعهد أن يكون تابعًا مخلصًا له.
فأرسل "نور الدين" حملة عسكرية كبيرة جعل على رأسها "شيركوه"، وخرج معه ابن أخيه "صلاح الدين" ـ وكان في الخامسة والعشرين من عمره ـ حتى دخلوا القاهرة، وألحقوا بضرغام وجنوده هزيمة منكرة، وقُتل مع من بقي من أتباعه.
ولكن "شارو" ما لبث أن نكث بعهوده، وأظهر الغدر، بعد أن استعاد الوزارة، واستعان بالصليبيين لمحاربة "شيركوه" و"صلاح الدين".
واستمر الصراع بين الجانبين عدة سنوات حتى استطاع "شيركوه" ومعه "صلاح الدين" دخول "مصر" في (ربيع الأول 564 هـ-ديسمبر 1168م)، وأراد "شاور" تدبير مؤامرة للخلاص من "شيركوه" ومن معه، وإخراج جيشه من مصر، ولكن شيركوه أسرع بالقبض عليه، فأمر الخليفة الفاطمي "العاضد" بإعدامه، فأعدم في (17 من ربيع الآخر 564هـ=19 من يناير 1169م)، وبموته استقرت الأمور في البلاد، وتقلّد شيركوه الوزارة إلا أنه تُوفي بعد نحو شهرين من تقلده الوزارة، فخلفه عليها صلاح الدين وكان عمره (31) عامًا.
صلاح الدين وزيرًا
وكان الخليفة الفاطمي يظن أن "صلاح الدين" سيكون أداة طيعة في يده لصغر سنه، ولكن الوزير الشاب خيب ظنَّ الخليفة، وعمل منذ الوهلة الأولى على استمالة قلوب الناس إليه، وأنفق في سبيل ذلك أموالاً طائلة، حتى سيطر سيطرة تامة على الجند، واستطاع القضاء على الجنود السودان الذين كان الخليفة الفاطمي يعتمد عليهم.
وما لبث الخليفة "العاضد" أن تُوفي في (المحرم 567هـ= سبتمبر 1171م)، فانتهت بوفاته الدولة الفاطمية، وقضى صلاح الدين على كل أثر لها في مصر.
بداية الوحدة الإسلامية

صلاح الدين في شيخوخته
كان الخطر الصليبي لا يزال يحدق بالأمة العربية والإسلامية، وأدرك "صلاح الدين" أنه لا مجال لصد ذلك الغزو الصليبي إلا بالوحدة الإسلامية، ولمِّ شتات الإمارات المختلفة تحت لواء واحد قوي.
وقد لاحت له الفرصة حينما علم بوجود بعض القلاقل والاضطرابات في الشام، فاستخلف أخاه "العادل" على مصر، واتجه على رأس جيشه إلى الشام فدخل دمشق في (آخر ربيع الأول 572 هـ = 29 من أكتوبر 1174).
وبدخول صلاح الدين مدينة دمشق بدأت أولى خطواته نحو تحقيق الوحدة الإسلامية الكبرى التي عاش يحلم بها، وتمكن ـ بعد ذلك ـ من الاستيلاء على عدة مدن من أهمها "حمص"، و"حماة"، و"حلب"، واستطاع أن يحقق الأمن والاستقرار للبلاد، وأحسن تدبير أمور الدولة، حتى أصبحت بلاد الشام التي فتحها خاضعة له، واستطاع "صلاح الدين" أن يحظى باعتراف الخليفة العباسي "المستضيء" بسيادته على مصر والشام واليمن.
وعاد "صلاح الدين" إلى مصر، ليبدأ التخطيط والإعداد للقضاء على النفوذ الصليبي في المشرق، بعد أن حقق حلمه بقيام الواحدة الإسلامية الكبرى بين مصر والشام، والذي توجّه ـ بعد ذلك ـ بانتصاره الساحق على الصليبيين في حطين.
أهم مصادر الدراسة:
·                  أيام صلاح الدين : عبد العزيز سيد الأهل - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ القاهرة – [ 1384هـ=1964م].
·                  البداية والنهاية: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ـ تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي ـ دار هجر لطباعة والنشر والتوزيع ـ القاهرة – [ 1419هـ= 1998م].
·                  التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية بالموصول: علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني (ابن الأثير الجزري) – تحقيق عبد القادر أحمد طليمات - دار الكتب الحديثة ـ القاهرة ـ [1383 هـ= 1963م].
·                  تراجم إسلامية: محمد عبد الله عنان- مكتبة الخانجي ـ القاهرة ـ [1390هـ= 1970م]
·                  حطين مسيرة التحرير (من دمشق إلى القدس): د. سهيل زكار ـ دار حسان للطباعة والنشر ـ دمشق- [ 1404هـ= 1984م].
·                  الروضتين في أخبار الدولتين: شهاب الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي ـ دار الجيل ـ بيروت: [ د.ت]
·                  سير أعلام النبلاء: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي - تحقيق: شعيب الأرنؤوط (وآخرون) ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت [ 1410هـ= 1990م].
·                  صانعو التاريخ العربي: فيليب متى ـ ترجمة: د. أنيس فريحة ـ دار الثقافة ـ بيروت – [ 1400هـ= 1980م].


إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. خطبة الشيخ الطيِّب السرَّاج في المجمع اللُّغوي في القاهرة عام 1933
    عندما تحدى أعضاء المجمع وارتجل قصيدته "التجديد"

    الشيخ الطيِّب السرَّاج إِمام اللُّغة العربية في العصر الحديث وسادنها، وهو أول من حمل راية السُّودان في المجامع اللُّغوية، وأول سوداني ينال عضوية المجمع اللُّغوي في القاهرة، الذي كان يُعرف آنذاك باسم “مجمع فؤاد الأوَّل للغة العربية“، وذلك في العام 1933 بعد صدور المرسوم الملكي بتأسيسه في العام 1932.
    ولقد بدأ السرَّاجي مشواره كعضو في هذا الصرح العلمي، ثم ترقى في المناصب حتى اختير رئيساً للجنة التحقيق وإِحياء الكتب القديمة، قبل تقلده مرتبة العضو المراسل في خمسينيات القرن العشرين.
    نهل من معين الشيخ الطيِّب السرَّاج كوكبةٌ من الأعلام، تشكَّلت مداركهم في حضرته، وتهذَّبت ملكاتهم في كنف علمه، فانبثقوا من رحابه إلى فضاءات الفكر والأدب واللُّغة، يَسطعون في سماء الحياة العامة تربية وعلماً بما نالوه من توجيهٍ وعناية. وكان في طليعة هؤلاء النُّجباء من ارتقى في مدارج التأثير، حتى غدا عَلَمًا يُشار إليه بالبنان، وكان من بينهم اللُّغوي الأديب البروفيسور عبد الله الطيِّب، الذي لم يكن تلميذاً نهل من علم السرَّاجي فحسب، بل جليساً للسرَّاج ومجالِساً له في حلقات الفكر والأدب واللُّغة بصالون السرَّاج الأدبي “منتدى الأصالة” الذي كان عضواً فيه، وهو يُعدُّ أول صالون أدبي في السُّودان تأسس في عشرينيات القرن الماضي، وثاني صالون أدبي في الوطن العربي بعد صالون“مي زيادة” في مصر.
    يروي البروفيسور عبد الله الطيِّب في تحقيق صحفي نشرته صحيفة" الرأي العام" عن قصة ترشيح الشيخ الطيِّب السرَّاج للمجمع اللُّغوي، والتي نقلها الكاتب الصحفي المخضرم الأستاذ إِبراهيم دقش، حيث يقول البروفيسور عبد الله الطيِّب:
    “كنتُ ضمن الوفد الذي ذهب إِلى القاهرة لتقديم الشيخ الطيِّب السرَّاج مرشحاً عن السُّودان في المجمع اللُّغوي، وأقمنا في بيت السُّودان، وعشية جلسة الترشيح اتصلت بعميد الأدب العربي الأستاذ طه حسين، وقرأت عليه أبياتاً من قصيدة للسرَّاجي يمدح فيها ملك اليمن وإِمامها، يقول فيها:
    يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمَرْجُوُّ نَائِلُهُ
    وَالْمُسْتَغَاثُ بِهِ فِي مُخْلَفِ الْمَزْنِ
    إِلَيْكَ جِئْتُ مِنَ السُّودَانِ تَرْفَعُنِي
    إِلَى لِقَائِكَ أَشْوَاقِي وَتَخْفِضُنِي
    مُهَاجِرًا مِنْ بِلادِ الشِّرْكِ، لَيْسَ لَنَا
    عَنْهَا مُرَاغَمَةٌ إِلَّا إِلَى الْيَمَنِ
    أَهْلَ الْمَصَانِعِ مِنْ غَمْدَانَ تَحْسَبُهُ
    إِذَا دَجَا اللَّيْلُ سَحَّ الْعَارِضِ الْهَتَنِ

    فقال لي: “إِنَّ الذي يكتب مثل هذا الشعر قد مات واندثر منذ آلاف السنين”، فأجبته: “بل هو حي يرزق، وهو معي في بيت السُّودان، وهو مرشح السُّودان للمجمع اللُّغوي.”
    ولقد شهدت جلسة الترشيح موقفاً لافتاً من الشيخ الطيِّب السرَّاج، حين وجَّه تحدياً علميّاً نبيهاً لأعضاء المجمع، داعياً إِياهم إِلى ذكر ما يعرفونه من أسماء الأسد في العربية. فلم يتمكّن الحاضرون من تجاوز سبعة عشر اسمًا، بينما مضى السرَّاج يُعدُّ بثقة وعفوية، حتى بلغ ثلاثة مائة اسم. ولم يكتفِ بمجرد السرد، بل كان يُثبت كل اسمٍ بما ورد له من شواهد في عيون الشعر العربي، وأخبار العرب وأيامهم، في دلالة قاطعة على سعة اطلاعه ورسوخ قدمه في التراث العربي”
    وقد بهر هذا الموقف الحضور، حتى إِن رئيس الجلسة، عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، طلب منه التوقف، ولم يُخفِ إِعجابه، فقال بظرفه المعهود: “يبدو أن الشيخ الطيِّب السرًّاج قد أبحر بنا في ذاكرته الموسوعية، وكأنه يقرأ من مخطوطة لغوية شعرية قديمة”
    وقد استهلّ السرَّاجي خطبته في المجمع اللُّغوي بأبيات من قصيدته الباذخة “التجديد”، التي عُرفت بين النقّاد برائعة القريض العربي، ويزيد عدد أبياتها عن 500 بيت؛ وقد تناقلت الروايات نسختين من هذه القصيدة: إِحداهما مكتوبة، والأَخرى مرتجلة ألقاها في حضرة المجمع ارتجالاً، فأسرت القلوب بجزالة لفظها وعراقة أسلوبها. وهنا أورد الصيغة المرتجلة لأوائل أبياتها التسعة، إِذ تجلّى فيها ألق البيان، وتوهّجت فيها روح الشعر الأصيل، فانبثقت منها حرارة الخطاب ووهج الرسالة:
    قالوا اسْتَعِيدُوا مَجْدَكُمْ تَجْدِيدا
    لَاقَى الْمُرَادُ مِنَ النَّصِيحِ مَرِيدا
    قَرَعَ الظَّنَابِيبَ الْيَعَاسِيبَ الأُلَى
    يُحْيُونَ فِينَا كُلَّ يَوْمٍ عِيدا
    شَدَّ الْحَيَازِيمَ الْكِرَامَ لِيَبْعَثُوا
    بَعْدَ الْبِلَى لُغَةَ الْجُدُودِ جَدِيدا
    لُغَةَ الْجَحَاجِيحِ، الْوَحَاوِيحِ،
    الْمَصَابِيحِ، السَّمَاةِ جُدُودا
    أَعْنِي الْمَرَازِبَةَ، الْمَلَاوِثَةَ، الْخَلَاجِمَةَ،
    الْخَضَارِمَةَ، الْأَبَاةَ الصِّيْدَا
    مِنْ كُلِّ سَرْدَاحٍ كَهَاةٍ جَسْرَةٍ
    جَلْسٍ عَشُوزَنَةٍ تُؤَوِّدُ الْجُودَا
    كَوْمَاءَ بَادِيَةِ الدُّخَيْسِ دَرْفَسَةً
    كَبْدَاءَ تَنْزِعُ مَشْيَهَا تَهْوِيدَا

    ردحذف