العولمة

تعريف العولمة :
العولمة في اللغة مأخوذة من التعولُم ، والعالمية ، والعالم .وفي الاصطلاح تعني اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع أقوامها وكل من يعيش فيها وتوحيد أنشطتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات والجنسيات والأعراق . وقد عرض الكاتب تعريفات متعددة للعولمة ، ثم وصل إلى أنه ليس هناك تعريف جامع مانع لها ، فهو مصطلح غامض في أذهان كثير من الناس ،ويرجع سبب ذلك إلى أن العولمة ليست مصطلحاً لغوياً قاموسياً جامداً يسهل تفسيرها بشرح المدلولات اللغوية المتصلة بها ، بل هي مفهوم شمولي يذهب عميقاً في جميع الاتجاهات لتوصيف حركة التغيير المتواصلة . ولكن مما يلاحظ من التعريفات التي أوردها الباحثون والمفكرون التركيز الواضح على البعد الاقتصادي لها ، لأن مفهوم العولمة بداية له علاقة وطيدة بالاقتصاد والرأسمالية وهذا ما جعل عدداً من الكتاب يذهبون إلى أن العولمة تعني : تعميم نموذج الحضارة الغربية – خاصة الأمريكية – وأنماطها الفكرية و السياسية والاقتصادية والثقافية على العالم كله .


نشأة العولمة :
شاع هذا المصطلح في التسعينات بعد إنهيار المعسكر الشيوعي ، واستفراد أمريكا بالعالم  ، ولا سيما عندما طالبت أمريكا دول العالم بتوقيع اتفاقية التجارة العالمية بقصد سيطرة الشركات العابرة للقارات على الأسواق العالمية . مما يؤكد أن العولمة بثوبها الجديد أمريكية المولد والنشأة .
ويرى الباحثون الذين تحدثوا عن نشأة العولمة أن العولمة عملية تراكمية ، أي أن هناك عولمات صغيره سبقت ومهدت للعولمة التي نشهدها اليوم ، والجديد فيها هو تزايد وتيرة تسارعها في الفترة الأخيرة بفضل تقدم وسائل الإعلام والاتصال ، ووسائل النقل والمواصلات والتقدم العلمي بشكل عام ، ومع ذلك فهي لم تكتمل بعد .
الإسلام والعولمة :
هناك فرق بين عالمية الإسلام ، وعولمة الغرب ، فعولمة الغرب اقتصادية الأساس تسعى إلى الهيمنة على العالم برفع القيود عن الأسواق والبضائع ورؤوس الأموال ،وهذا يفضي إلى تعميق النزاعات والصراعات . أما عالمية الإسلام فتقوم على أساس التعارف والانفتاح على الثقافات الأخرى بلا نفي أو إقصاء أو إكراه " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .
مظاهر وأسباب العولمة :
العولمة هي اقتصادية في مظهرها العام ، وعلى رغم التطورات والتغيرات المتسارعة التي حدثت في النصف الأخير من القرن العشرين والتي كان لها الأثر الكبير على مجريات اقتصاديات العالم فإن معظم الكتاب يجمعون على أن هناك أربعة عناصر أساسية يعتقدون أنها أدت إلى بروز تيار العولمة وهي :
-    تحرير التجارة الدولية .
-    تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة .
-    الثورة المعرفية .
-    تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات .
ويمكن إجمال الحديث عن هذه العناصر على النحو التالي :
1- تحرير التجارة الدولية : ويقصدون به تكامل الاقتصاديات المتقدمة والنامية في سوق عالمية واحدة مفتوحة لكافة القوى الاقتصادية في العالم وخاضعة لمبدأ التنافس الحر ، وبعد الحرب العالمية الثانية رأت الدول المنتصرة ضرورة  قيام نظام اقتصادي عالمي يخدم بالأساس مصالحها ، ومصالح البلدان الصناعية بصفة عامة ، وقد مهد مؤتمر ( بريتون ودز ) عام 1944م الطريق لتأسيس النظام الاقتصادي العالمي الحديث حيث تم بموجبه إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ،والاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة ( الجات ) .
ومع الانتقال من ( الجات ) إلى منظمة التجارة العالمية التي تسعى إلى إلغاء كل الحدود التجارية في العالم انتقل الاقتصاد العالمي إلى مرحلة اشتراكية السوق ، أو دكتاتورية السوق ، وأن الفوائد المرتقبة للعولمة ستكون موزعة توزيعاً غير عادل وغير متكامل في داخل الدول النامية . وفيما بينها وبين المتقدمة ، بل وبين المتقدمة نفسها .
2- تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة : حدثت تطورات هامة خلال السنوات الأخيرة تمثلت في ظهور أدوات ومنتجات مالية مستحدثة ومتعددة ، إضافة إلى أنظمة الحاسب الآلي ووسائل الاتصال والتي كفلت سرعة انتشار هذه المنتجات ، وتحولت أنشطة البنوك التقليدية إلى بنوك شاملة تعتمد إلى حد كبير على إيراداتها من العمولات المكتسبة من الصفقات الاستثمارية من خارج موازنتها العمومية ، ويرجع ذلك إلى سببين رئيسيين هما :
أ/ تحرير أسواق النقد العالمية من القيود .
ب/ الثورة العالمية في الاتصالات الناجمة عن الأشكال التكنولوجية الجديدة .
3- التقدم العلمي والتكنولوجي : وهو ميزة بارزة للعصر الراهن ، وهذا التقدم العلمي جعل العالم أكثر اندماجاً ، كما سهل حركة الأموال والسلع والخدمات ، ( وإلى حد ما حركة الأفراد ) ، ومن ثم برزت ظاهرة العولمة ، والجدير بالذكر أن صناعة تقنية المعلومات تتركز في عدد محدود ، ومن الدول المتقدمة أو الصناعية دون غيرها .
4- الشركات متعددة الجنسيات: إذا صح وصف هذا العصر بأنه عصر العولمة ، فمن الأصح وصفه بأنه عصر الشركات متعددة الجنسيات باعتبارها العامل الأهم لهذه العولمة .
ويرجع تأثير هذه الشركات كقوة كبرى مؤثرة وراء التحولات في النشاط الاقتصادي العالمي إلى الأسباب التالية :
       أ/ تحكم هذه الشركات في نشاط اقتصادي في أكثر من قطر ، وإشاعتها ثقافة استهلاكية موحدة .
       ب/قدرتها على استغلال الفوارق بين الدول في هبات الموارد .
       ج/ مرونتها الجغرافية .
ويأخذ بعضهم على هذه الشركات ما يلي :
1-  تناقضها بين وجهها التوحيدي للعالم ، ووجهها الأخر وهو كونها رمزاً للسيطرة الاقتصادية ومن ثم السياسة .
2-  عدم وجود قواعد وضوابط قانونية أو اتفاقات دولية ملزمة لها مما شجعها على انتهاك قوانين العمل وحقوق الإنسان .
3-  إن قادة هذه الشركات من كبار الراشين على مستوى العالم .
وأما المدافعون عن هذه الشركات فيشيرون إلى مساهمتها في العملية التنموية حيث توفر فرص التدريب والعمل وتدفع الضرائب التي يمكن استخدامها في البرامج الاجتماعية ،كما أنها تنقل التكنولوجيا المتطورة ، وتعود بالقطع الأجنبي ، وتساعد في بناء قاعدة صناعية في البلدان الفقيرة .. الخ .
ويرى المؤلف أن هذه المزاعم مبالغ فيها ، وأن أهدافها الأساسية هو تعظيم وتراكم أرباحها ، وهذه لا يتحقق عادة إلا على حساب شعوب الدول الفقيرة .
مفهوم وواقع العالم الإسلامي :
لم يتفق الباحثون على تعريف معين للعالم الإسلامي ويرجع ذلك إلى اختلافهم في تحديد المعيار الذي يستخدم في التعريف : هل هو عدد السكان ، أم الدستور الذي ينص على أن دين الدولة هو الإسلام ، أم هو تنظيمي أي الدول التي تنتسب إلى منظمة المؤتمر الإسلامي ؟ .
وعلى رغم هذا الاختلاف الذي يجعل تحديد المفهوم صعباً فإن الإسلام في توسع ديناميكي ، وهو دين المستقبل ، ويرجع ذلك لبساطة عقيدته ، ويسر فرائضه .
ويمتد العالم الإسلامي على مساحة واسعة تضم أجناساً وقوميات ، وثقافات ، ولغات ، وعادات ، وهذا الاختلاف لا يشكل عقبة تذكر أمام الهوية الإسلامية التي تجعل من المسلمين وحدة متماسكة .
أما الأمة الإسلامية :
 فهي كيان يجمع كل مسلم يقر بالشهادتين ، وبناء على هذا فإن مفهوم الأمة الإسلامية أشمل من مفهوم العالم الإسلامي ، فالعالم الإسلامي مفهوم جغرافي  وهو كيان يضم الأرض والناس ، وأما الأمة الإسلامية فهو كيان يحتوي الناس فقط .
الواقع الاقتصادي للأقطار الإسلامية :
 من خصائص الوضع الاقتصادي للعالم الإسلامي أنه متخلف ، وإنجازاته التنموية متواضعة مع التشابه النوعي في مشاكله .
وهذه بعض خصائص ومظاهر الاقتصاد في العالم الإسلامي .
1-  الفقر وانخفاض الدخول :يشكل الفقر وانخفاض نصيب الفرد من الناتج القومي سمة بارزة في معظم الأقطار الإسلامية – عدا بعض الدول المصدرة للنفط – وهي مشكلة متزايدة ومضطردة . والأقطار الإسلامية ليست فقيرة ، ولكنها غير عادلة ، ففي معظم أقطاره ينقسم المجتمع إلى شريحتين أغنياء متخمين وفقراء محرومين ، وما يترتب على هذا الفقر من ذل وضعف ، وفقدان للحرية وتدن للسوية التربوية والأخلاقية ، والتقنية .. الخ ، أما شريحة الأغنياء والمترفين ، فتتميز بالمظهرية الزائفة ، والإنفاق التفاخري في الحاجيات والكماليات .
2-  هيكل التجارة الخارجية واتجاهاتها : للتجارة الخارجية دور مهم في حياة الأمم من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ، والثقافية ، وذلك من خلال تنظيم الموارد الاقتصادية .
وتسيطر السلع الأولية مثل : الوقود ، والمعادن ، والمنتوجات الزراعية على الجزء الأكبر من صادرات الدول الإسلامية .
وقد أورد المؤلف أرقاماً لحجم صادرات الدول الإسلامية إلى دول العالم ، وحجم الصادرات بين الدول الإسلامية ، والتي يستخلص منها قلة صادرات العالم الإسلامي عموماً قياساً إلى إجمالي الصادرات العالمية من جهة ، وضعف التبادل التجاري بين الدول الإسلامية نفسها من جهة أخرى ،  ويرجع ذلك إلى عوامل عدة أهمها : اختلاف السياسات الاقتصادية العامة ، وتشابه الإنتاج ، وضعف التنوع في الاقتصاد ، وتخلف البنية التحتية ، في مجال النقل والمواصلات وغيرها من العوامل .
3-  انخفاض نسبة مساهمة الصناعة في الناتج  المحلي : إن التنمية الصناعية تعتبر الطريق والأساس الوحيد للإفلات من التبعية الاقتصادية ، وهي وسيلة لزيادة فرص العمل المنتج وتوليد دخل أعلى .
ورغم ذلك فلاتزال جميع الدول الإسلامية متخلفة صناعياً ، إذ تتميز اقتصادياتها بصفة عامة بانخفاض نسبة مساهمة قطاع الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي .
4-  ارتفاع حجم المديونية الأجنبية ، وازدياد أعباء خدمتها  : دخلت كل الدول الإسلامية نادي المديونية ، واستمرار ذلك يشكل مصدر تهديد للأمن الاقتصادي والاجتماعي لسرعة تراكمها على مر الأعوام .
   وقد أورد المؤلف أرقاماً تبين حجم المديونيات للأقطار الإسلامية ، وتصاعدها ، ونسبة ذلك إلى الإنتاج المحلي ، وبنظره شاملة للمشكلة يمكن ملاحظة الحقائق التالية :
-    إن مدفوعات الدين تلتهم جزءاً أساسياً من حصيلة الصادرات بل زادت على الصادرات أحياناً .
-    أدت الديون الأجنبية إلى امتصاص الاحتياطات الدولية لهذه الأقطار مما أربك حركة التنمية .
-    معظم الدول الإسلامية استدانت بقصد تغطية نفقاتها العسكرية المتزايدة ، وليس بقصد تنمية زراعتها وصناعتها ، وتحسين مستوى معيشة مواطنيها .
-    أدت المديونية إلى توقف عملية التنمية . وزيادة تدهور مستوى المعيشة المنخفض أصلاً لشريحة واسعة من مواطنيها .
5-  أزمة الغذاء : بالرغم من أهمية القطاع الزراعي في اقتصاديات البلدان الإسلامية – عدا الخليجية – إلا أن العجز عن تلبية الطلب المحلي المتزايد على السلع الغذائية جعل معظم الدول الإسلامية تصبح منطقة عجز غذائي كبير ومتزايد ، ولا سيما في السلع الأساسية ، والاستراتيجية التي لا غنى عنها مثل القمح . وهي تنفق مبالغ كبيرة لاستيراد تلك الموارد ، الأمر الذي يشكل استنزافاً لاقتصاد الدول الإسلامية ، إضافة إلى التبعية الغذائية للدول المتقدمة المصدرة للغذاء .
6-  أزمة المياه : يعتبر مورد المياه من المقومات الأساسية للتنمية ، وتتركز مشكلة المياه في الأقطار الإسلامية بسبب توزيعها غير المتكافئ ، فهو بين توفره بشكل كاف في بعض الأقطار إلى ندرة شديدة في بعضها الآخر ، وما يترتب على ذلك من جفاف وتصحر  ، إضافة إلى أن تكلفة وأسعار المياه سوف تشهد ارتفاعاً كبيراً بالمقارنة بمستواها الحالي .
7-  الإنفاق العسكري : إن التسلح والإنفاق العسكري والخسائر الباهظة التي تسببها الصراعات العسكرية ( الإسلامية ) قوضت استجابة الحكومات للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة ، ففي عالمنا الإسلامي غلب مفهوم ( الأمن ) في إطاره الضيق على مفهوم التنمية الشاملة .
8-  التعليم : واقع التعليم في الأقطار الإسلامية المعاصر واقع مؤلم ومأساوي ، وتتجلى أزمة التعليم هذه في الجوانب التالية : غياب فلسفة تربوية واضحة المعالم ، وانتشار الأمية ، والوضع التعليمي للمرأة المسلمة ، والاهتمام بالتعليم النظري دون التعليم الفني ، وهجرة العقول المسلمة ، وقد دعّم المؤلف كلامه بالأرقام والجداول الإحصائية  التي تعبر عن حقيقة الأزمة وحجمها .
9-  وسائل الاتصال : إن معظم الدول الإسلامية تعاني من قصور فاضح في الاتصالات والمواصلات ، وذلك إذا قورنت بالدول الصناعية ، وقد أكد المؤلف هذه الحقيقة بالأرقام والجداول المفصلة .
موقفنا من العولمة :
ليس من الحكمة أن تقف أقطار العالم الإسلامي مكتوفة الأيدي إزاء ظاهرة العولمة ، بل يجب أن تأخذ بالأسباب لمواجهة سلبياتها بالموضوعية قبل فوات الأوان ، ويرى الكاتب أن هناك حاجة لإعطاء أولوية عليا للجوانب الآتية :
1-  نحو مشروع حضاري إسلامي : في ضوء التحديات والمستجدات التي يشهدها العالم فإنه لا خيار للدول الإسلامية في المرحلة المقبلة سوى الاعتماد على الذات وصياغة مشروع مستقبلي قادر على تعبئة الجهود ، وإعادة الديناميكية إلى الأمة ومؤسساتها ، وتعزيز لحمة التكامل الاقتصادي والتنموي بين أقطارها ، هذا المشروع يهدف إلى تكوين الشخص المسلم الذي يفقه الدين ويفهم العصر ، ولا يكون ذلك إلا بتعميق الإيمان وصدق العطاء .
2-  التكامل الاقتصادي : لقد بات التكامل الاقتصادي بين مختلف الأقطار الإسلامية من الأهمية بمكان ، حيث لا تستطيع هذه الأقطار مواجهة متطلبات العولمة اعتماداً على الإمكانات القطرية ، فالترابط والتكامل الاقتصادي الإسلامي أصبح قضية مصيرية . ولكن من المحزن حقاً أن نرى حماس الدول الإسلامية للتكتل والاندماج يضعف ويخبو في الوقت الذي أصبح فيه الاندماج والتكتل سمة العصر .
إن التكتل المنشود يحتاج إلى إرادة قوية ، وشعور جماعي بالأخطار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تواجه المسلمين ، والتي تتعاظم في ظل تدنى مستوى التعاون بين الدول الإسلامية ، وفرض سياسات العولمة على أمتنا الإسلامية ، ولا يتم ذلك إلا بوضع استراتيجية جديدة للتبادل التجاري بين الدول الإسلامية ، وإقامة منطقة تجارة حرة بين الأقطار الإسلامية .
3- ضرورة التنمية البشرية : إن العنصر البشري هو ركيزة كل تقدم علمي وتكنولوجي قديماً  وحديثاً ، وللتنمية البشرية جانبان :
الأول : تشكيل القدرات البشرية مثل تحسين الصحة والمعرفة والمهارات .
الثاني : انتفاع الناس بقدراتهم المكتسبة في المجالات الشخصية .
والحديث عن العنصر البشري كمقوم أساسي من مقومات التنمية ، ومن ثم التصدي لسلبيات العولمة ، يتطرق لمجالات متعددة ، تحدد بالكفاية الإنتاجية لهذا العنصر في مجال التعليم والصحة والتغذية والتربية الروحية ، , والقيم العقدية والإنتاجية .
وفي حقيقة الأمر فإن جوهر أزمة التخلف في المجتمعات الإسلامية يرجع في النهاية إلى الخلل في عالم الأشخاص ولذا فإن خطط مواجهة العولمة يجب أن تظهر اعتماداً أكبر على الكائنات البشرية ومن هنا يجب أن نجعل شعارنا  : الإنسان أولاً .
4- الشفافية ومحاربة الفساد : لقد أخذ الفساد يستشري في كثير من الأقطار الإسلامية ، وبات أمراً عادياً وليس وضعاً شاذاً أقرب إلى الاستثناء .
ويمكن القول بأنه لم يمكن حتى الآن وضع تعريف جامع مانع للفساد ، والتعريفات التي تناولت مفهوم الفساد تبدو ناقصة وقاصرة ، ورغم حقيقة أن الفساد السياسي هو الفساد الأكبر الذي يحتاج إلى جهاد أكبر ، حيث إنه الأصل في الفساد الأصغر ، والمهم التركيز على الفساد الاقتصادي ، وبصفة خاصة أجهزة القطاع العام الذي يعرفه البنك الدولي بأنه :إساءة استعمال السلطة العامة لتحقيق مكسب خاص .
وللفساد آليتان رئيسيتان هما :
1-  العمولة لتسهيل عقد الصفقات .
2-  وضع اليد على المال العام ، والمحسوبية ، أي تحويل الموارد الحقيقية من المصلحة العامة إلى أصدقاء الحاكم السياسيين .
وبعد :
فقد استعان المؤلف في معرض حديثه عن العولمة والعالم الإسلامي بإحصاءات ومقارنات في جوانب متعددة من الموضوع ، وقد ركز بوجه خاص على الجداول التي تعطي صورة واضحة مقارنة للحقائق التي يراد معرفتها ، حيث عرض خمسة وعشرين جدولاً تناولت القضايا الآتية :
 1-  تطور التجارة الدولية .
2-  تكاليف النقل الجوي والمكالمات الهاتفية .
3-  أكثر من ( 20 ) دولة منتجة ونصيبها من علوم العالم .
4-  الفائزون بجائزة نوبل .
5-  شركات العالم الأكثر انفاقاً على البحث والتطوير .
6-  البراءات الأمريكية .
7-  بيان الشركات الخمسمائة .
8-  احتكار المنتجات العالمية .
9-  أكبر مائتي شركة في الاقتصاد العالمي .
10-قوة الدول والشركات .
11-مؤشر دافعي الرشوة والمصدرين لها .
12-الناتج القومي في بعض الدول الإسلامية وغيرها .
13-مؤشرات الفقر .
14-الفقر في مجموعة مختارة لدول إسلامية بالنسبة لنصيب الفرد من الناتج المحلي .
15-نسبة نصيب الأسر من الدخل الإجمالي .
16-مداخيل الأسر .
17-حجم التجارة البينية للدول والأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية .
18-النمو التعليمي والتنمية البشرية .
19-التغيرات في عدد الأطباء الأجانب بالولايات المتحدة حسب الدول التي تخرجوا منها .
20-حصة المقالات المنشورة في كبريات المجلة العلمية .
21-البراءات الممنوحة في بعض الدول الإسلامية والمتقدمة .
22-نسبة الإنفاق على البحث العلمي .
23-الاتصالات في العالم الإسلامي .
24-مؤشر الفساد في عام 1999م .
25-الاقتصاد الخفي ونسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي .

تم الملخص بحمد الله .

نقد العولمة

     مع نهاية الحرب العالمية الثانية اخذ دور العملاق الامريكي بالبروز في مجال السياسة الدولية، ولتصبح الولايات المتحدة الامريكية احد قطبي القوة العسكرية في العالم، بعد ان بدأت مسيرتها بالاعتماد على الاقتصاد الحربي منذ عام 1941. وهذا ما تطلب منها لاحقاً استمرار خلق الازمات والتوترات الدولية واستخدام العنف لضمان استمرار نمو اقتصادها الحربي. وبعد انهيار المعسكر السوفيتي (نهاية ك1/ ديسمبر 1990) اصبحت الولايات المتحدة قطباً اوحداً، واخذت تزين ممارساتها ضد الدول الاخرى الرافضة او المعارضة لسياستها بدعوات تبشيرية مثل حق تقرير المصير والديمقراطية وحقوق الانسان. هذا رغم ان التجارب السابقة اظهرت بصورة متكررة ازدواجية تفسيراتها لتلك الدعوات عندما قدمت، ولا زالت، الدعم لأِنظمة بعيدة عن الديمقراطية او احترام حقوق الانسان، طالما رضخت وترضخ تلك لأِوامر واشنطن في تحقيق المصالح الامريكية على حساب شعوبها.. (سمير امين، المسقبل العربي، العدد 170، بيروت، نيسان/ ابريل، 1993،ص4-6)..
     ترتبط القوة العسكرية لأِية دولة وتعتمد عادة على قدراتها الاقتصادية ومدى التناسب بينهما لصالح الاخيرة. فما هي القوة الاقتصادية التي تستند اليها القوة العسكرية الاميركية؟ يمكن تلخيص ابرز المقومات الاقتصادية التي تمتلكها الولايات المتحدة، وتمكنها من ممارسة دور الشرطي على الساحة الدولية، في الآتي: (ادريس لكريني، المستقبل العربي، العدد 291، بيروت، مايس/ ايار،2003،ص12-22)..
* تحقيق ناتج قومي ضخم (6 تريلون:الف بليون دولار عام 1995) يماثل 25% من الناتج القومي في العالم.
* اكبر مصدر زراعي في العالم. بلغت قيمة صادراتها 50 بليون دولار سنويا، رغم ان الزراعة تشكل بحدود 5ر2% من الناتج القومي، وتستخدم حوالي 7ر2% من لايدي العاملة، مما تعكس انتاجية عالية.
* سيطرة شركاتها العملاقة على حركة رؤوس الاموال والاستثمار والتبادل التجاري.
* صدارة مواقعها في مجال صادراتها من الآليات التكنولوجية العالية الدقة (150 بليون دولار سنوياً).
* تحكمها بحوالي 73% من الصادرات الصناعية المعلوماتية العالمية، وحوالي 75% من مبيعات الصناعات الفضائية والطيران المدني والعسكري.
* التحكم بالنظام الاقتصادي العالمي" بريتون وودز" مع نهاية الحرب العالمية الثانية والسيطرة على مؤسساته الاقتصادية (30% من التمويل الخاص للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، بما في ذلك السيطرة على الحقوق التصويتية في هاتين المؤسستين وقدرتها على اختيار رؤسائها. ويرتبط بذلك حضورها الدائم والمؤثر في الساحة الدبلوماسية والسياسية الدولية.
* التحكم بحوالي 80% من الصور المبثوثة في العالم. وتمثل الافلام الامريكية حوالي 75% مما يُقدم في دور العرض الاوربية، بينما تُهيمن على حوالي 53% من المواد المقدمة في قنوات التلفزيونية الاوربية. كما تمتد هيمنتها على الاخبار والمعلومات المتداولة، فالمؤسسة الصحفية الاولى في العالم وهي "الاسوشيتد برس" الامريكية تُزود بالانباء والصور ما يناهز 1600 صحيفة يومية و5900 محطة للراديو والتلفزيون في مختلف انحاء العالم، بالاضافة الى هيمنتها على 90% من مواقع الانترنت.
     وتصاحب هذه القوة الاقتصادية والهيمنة السياسية والاعلامية والثقافية، اكبر قوة  عسكرية في العالم، مدعمة بِأضخم ميزانية عسكرية بلغت 270 بليون دولار (30% من اجمالي الانفاق العسكري في العالم)، بل ووصل الانفاق العسكري الامريكي مؤخراً  الى ما لا يقل عن نصف الانفاق العسكري العالمي وعشرة اضعاف الميزانية العسكرية الروسية والى ما يوازي الانفاق العسكري للدول الخمس عشرة الاولى في العالم مجتمعة. وهي الاولى من حيث عدد الرؤوس النووية (حوالي 15 الف رأس نووي). وتمتلك اكبر عدد من الغواصات النووية في العالم (700 غواصة نووية)، وكذلك بالنسبة الى امتلاكها القاذفات الستراتيجية البعيدة المدى (اكثر من 500 قاذفة ستراتيجية)، كما انها الدولة الوحيدة التي تمتلك برنامج حرب النجوم الذي يوفر للولايات المتحدة، دون غيرها من دول العالم، حماية ضد اي هجوم نووي من الخارج.
     لكن هذه الهيمنة والزعامة الامريكية تواجه تحديات عديدة، تتقدمها ظاهرة نمو الفجوة بين قدراتها الاقتصادية والعسكرية لصالح الاخيرة من جهة، ومن جهة اخرى استمرار اتساع عدم استقرار "النظام الدولي" وما يرتبه من اعباء عسكرية واقتصادية متزايدة على الولايات المتحدة. وهذا ما يؤيد الاستنتاج القائل ان بؤر الصراعات وتزايد التدخلات الامريكية ربما تدفع هذه الدولة الى حالة من التفكك مشابهة لما حصل للاتحاد السوفيتي.
     تتمثل التحديات الاقتصادية التي تواجه الهيمنة العالمية الامريكية في العديد من الصعوبات، تتقدمها: مشكلة الركود.. تصاعد عجز الميزانية ليصل الى 350 بليون دولار في العقد الاخير من القرن الماضي.. تزايد الديون الخارجية الى 5ر3 ترليون دولار.. من جهة اخرى يعاني الاقتصاد الامريكي من تزايد مديونية الافراد، تباطؤ سرعة نمو دخل الفرد، وارتفاع البطالة.. انخفاض سرعة الانتاجية خلال تسعينات القرن الماضي بمقدار ثلاث مثيلاتها في اليابان ومرتين في اوربا الغربية.. تردي مستويات الخدمات الصحية والتعليمية.. .. تراجع ملحوظ امام دول اخرى في مجال التعليم والبحث العلمي، حيث انحصر نسبة العلميين والفنيين فيها بـ 55 لكل الف من السكان الامريكيين مقابل 129 في السويد وهولندا و 257 في كندا و 317 في اليابان (1992).. تراجع الطلاب الامريكيين امام الطلاب الاجانب خاصة في مجال الرياضيات والكيمياء وعلوم الحاسب الآلي.. تراجع ما قدمته الولايات المتحدة من معارف وتكنولوجيا جديدة في العالم من 75% عام 1945 الى 36% عام 1996.. تزايد الاقصاء والتهميش في اوساط الفئات الفقيرة، والتي برزت في تزايد الاصوات المنددة بالعولمة.. غياب النظرة الصحيحة للمجتمع الامريكي تجاه قضايا وشعوب العالم بسبب التعتيم او التوجيه الاعلامي المسيطر في هذا المجتمع بالعلاقة مع تقديم وتفسير الاحداث والمعلومات بما يخدم مصالح الرأسمالية الامريكية على حساب الشعوب الاخرى. كما رافقت هذه التطورات تراجع اوضاع المجتمع المدني في هذا البلد.. للباحث، التحول الديمقراطي والمجتمع المدني، تحت الطبع، دار المدى، دمشق، 2003..
Connell, Brian O,p.xviii,55.., Zijderveld, Anton C. Civil
Society,p.157
     ويرتبط بكل هذه المشكلات والتحديات عوامل التراجع الآخذة في النمو متجسدة في احداث العنف والجريمة المتصاعدة وتزايد الحركات والجماعات المتبنية للعنف ضد النظام الفيدرالي او ضد المجتمع برمته.. كما ان احداث انتخابات الرئاسة الامريكية التي بلغت اوجها في الانتخابات الرئاسية للعام 2000 ودور المال التأثير في السياسة والسياسيين عكست ان النموذج الديمقراطي في هذا البلد ليس ذاك النمط الرائد المزعوم الذي يمكن اعتباره نموذجاً عالمياً ناجحاً.
     وعلى الصعيد الخارجي وفي ظروف التراجع الامريكي وتنامي البعد الاقتصادي في العلاقات الدولية (تزايد الفجوة بين القدرة الاقتصادية الامريكية المتراجعة وبين القوة العسكرية المتصاعدة) فهي ستقود بالنتيجة الى تراجع الدور الامريكي على المستوى الدولي، وتفرض التعددية القطبية نفسها بحدة على العالم. ذلك ان التدخلات العسكرية المستمرة التي تقدم عليها الولايات المتحدة في مختلف مناطق العالم وما يرافقها من صرف مبالغ هائلة لاحتواء ما تعتبره مخاطر تهدد مصالحها لن تصمد كثيراً امام تنامي بؤر التوتر المتعاظمة في العالم والتي تشكل في ذاتها عوامل استنزاف مستمرة ومتصاعدة للقدرات الاقتصادية الامريكية. كما ان سياسة الترغيب والترهيب التي تطبقها في اطار ممارساتها وتفسيراتها الازدواجية للمبادئ الانسانية المعلنة بالعلاقة مع الديمقراطية وحقوق الانسان والامن العالمي.. بما في ذلك استعراض العضلات العسكرية وفرض العقوبات والتدخلات العسكرية المباشرة لإخضاع او إزالة الانظمة المعارضة وحماية تلك الموالية التي تحتكر السلطة والثروة، عوامل لزيادة جبهة الرفض الشعبية العالمية للسياسة والزعامة الامريكية.
     بينما المؤرخ والانثروبولوجي ايمانويل تود- الذي تنبأ عام 1976 في كتابه: السقوط النهائي، بانهيار المنظومة السوفيتية- يطرح في كتابه الجديد: ما بعد الامبراطورية- دراسة في تفكك النظام الامريكي- عاملين اساسيين يرى انهما سيغيران وجه العالم في للسنوات المقبلة: الانخفاض النسبي الكبير في الولادات حتى في الدول النامية، بعامة، وانتشار التعليم، لكون الواقع الجديد- حسب رأيه- سيبني اجيالاً اكثر وعياً بحقوقها وحاجتها الى سماع صوتها من خلال انظمة ديمقراطية، وبما يؤدي الى رفض هذه الاجيال بصورة متصاعدة الهيمنة والاستبداد على الصعيد المحلي وعلى الصعيد العالمي..  مقابل هذا التطور المرتقب، يؤكد تود ان انهيار الولايات المتحدة الامريكية بات مسألة وقت بعد ان فقدت كل مقومات قوتها الفعلية. إذ "يرصد تراجعاً بالغ الخطورة في انتاجية الاقتصاد الامريكي، ففي القرن التاسع عشر امتلكت امريكا انتاجاً ضخماَ من المواد الاولية جعلها الاولى في العالم من حيث الاكتفاء الذاتي، وفي عام 1945 كانت بضائعها تشكل نصف المنتوج العالمي. وما بين خمسينات القرن الماضي وتسعيناته عاشت الولايات المتحدة عصرها الذهبي، الا ان عجزها التجاري ازداد من 100 بليون دولار مطلع التسعينات الى 450 بليون مع مطلع الالفية الثالثة، واصبحت بحاجة ماسة للتدفقات المالية التي تأتيها من اوربا و اليابان للتعويض عن النقص الحاد في قدرتها الانتاجية الذاتية...".. سوسن الابطح،"لماذا يهدد انخفاض النسل وانتشار التعليم في العالم الامبراطورية الامريكية"، الشرق الاوسط،، لندن، 27/7/2003.. وهناك من يتوقع عجز الموازنة عام 2004 الى نصف ترياون دولار وبزيادة قدرها 100 بليون دولار عن العام السابق.. محمد المحمصاني، جاوز الوقت الى السقوط: هل حان وقت الانسحاب الامريكي من العراق؟ www.alkader.com-19,Sept.,2003
     في مقالة لها بعنوان "قوة مبددة" 27,
July,2003-www.elaph.com , تقول مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الامريكية في عهد كلنتون "لن تكون القيادة (الامريكية) ممكنة، بدون موارد، تأمين الحدود، هزيمة الارهابيين، الاجراءات الوقائية لمنع انتشار المواد النووية، بناء المؤسسات الديمقراطية، انشاء نظم تعليم تقدر فيه التسامح، ومساعدة الشعوب على التخلص من النزاعات، كل ذلك يحتاج الى الموارد. ولذا عندما ارى العجز الموحد في الميزانية الفيدرالية هذا العام والذي قد يصل العام القادم الى نحو تريلون دولار كان لا بد ان اندهش. الرئيس قدم وعوداً كثيرة بتجفيف المستنقع الذي يترعرع فيه الارهابيون، ومحاربة الايدز، وتشجيع التنمية والوفاء بالالتزامات نحو دول مثل افغانستان، العراق، ليبريا. فهل يتمكن البيت الابيض والكونغرس من الوفاء بهذه الالتزامات في ظل تسريح رجال شرطة واطفاء واساتذة مدارس عن اعمالهم داخل الولايات المتحدة بسبب عجز الميزانية؟..."
     خلاصة القول في هذا السياق، تشير هذه التحديات حالياً، وربما اكثر في المستقبل, الى ان الولايات المتحدة الامريكية لن تكون حرة في او قادرة على ممارسة دور الشرطي في الساحة الدولية لفرض نموذجها الاوحد – الاقتصادي والسياسي والثقافي- على الدول الاخرى وتحقيق هيمنتها ومصالحها. وهذه الحصيلة المتوقعة يمكن ان توفر مساحات واسعة نسبياً للدول الاقل تطورا، بخاصة، في المناورة للحصول على اقصى منافع العولمة لصالح بناء هياكلها الاقتصادية وانماطها الديمقراطية والثقافية الملائمة لبيئتها الاجتماعية، مقابل تخفيف سلبياتها، باتجاه بناء نظام اقتصادي- سياسي- اجتماعي عالمي اكثر عدلاً. وهذا يعتمد اولاً على قوة الفعل داخل هذه البلدان بإقامة انظمة سياسية اكثر اعتمادا وارتباطاً في وجودها ومسيرتها على قوة الداخل وليس على قوى الخارج، كما هو حاصل في الوقت الحاضر، بخاصة في المنطقة العربية.
     تشكل العولمة المطروحة عملية كبرى لفرض وحدانية النموذج الاقتصادي- السياسي- الثقافي الغربي، وبخاصة الامريكي لإعادة نظام الهيمنة القديم. وتعتمد في وسيلتها الرئيسة على تحقيق حرية السوق والمنافسة بإلغاء برامج الحماية الوطنية، وذلك من خلال ادواتها: المؤسسية، متمثلة في المؤسسات الدولية بما فيها منظمة التجارة العالمية.. وشركاتها العملاقة المتعددة الجنسية العاملة على توظيف وتدجين الكفاءات المحلية، والقادرة على اختراق الاسواق الوطنية وجعل العالم سوقاً مفتوحاً لعملياتها.. وكذلك اجهزتها الاعلامية والاتصالية الضخمة التي تلغي الحدود الوطنية لتخترق عقول وافكار ومذاق العائلة- الفرد، مدعومة ايضاً بسياسة الترغيب والترهيب التي تمارسها الولايات المتحدة تجاه الدول. بكلمات اخرى، ان العولمة وهي في طريقها نحو ازالة العوارض الوطنية التي تواجهها في سياق اختراقها للمفردات الوطنية، تعمل على تشييد رؤية خاصة للإنسان والمجتمع بديلاً عن الصراع الطبقي والوعي السياسي والتخفيف من حضور الدولة عن طريق نزع ملكيتها ونقلها للخاص المحلي والاجنبي والحد من مفهوم الاستقلال والسيادة باتجاه الاحلال التدريجي للشركات العملاقة المتعددة الجنسية محل الدولة لتتحول الى جهاز امني لحماية مصالح تلك الشركات.
     تعني العولمة في معناها اللغوي عملية مقصودة لنشر الشيء وتوسيعه لتغطي العالم بِأجمعه. وفيما يخص العولمة القائمة فهي تعني تعميم نمط الحضارة الغربية وعلى رأسها تلك الامريكية على العالم. اي ان العولمة ليست مجرد آلية من آليات التطور "التلقائي" للنظام الرأسمالي، بل هي بالدرجة الاولى دعوة الى تبني نموذج حضاري- اقتصادي- سياسي- ثقافي معين. وهي عملية موجهة من طرف واحد وتعبر عن إرادة الهيمنة الامريكية على العالم.
     بكلمات اخرى، ان الاتجاه السائد والمقصود من العولمة عند مفكريها ومنفذيها في الولايات المتحدة هي "الأمركة"، بمعنى الهيمنة الامريكية على العالم اقتصادياً واعلامياً وسياسياً في سياق برنامج عمل يتضمن استخدام السوق العالمية للاخلال بنظم التوازن وبرامج الحماية الاجتماعية الوطنية من جهة، واعادة بناء الاسواق الوطنية لتصبح مجالاً لاصطفاء الانواع" وفق النظرية الدارونية "البقاء للاصلح" في مجال الاقتصاد. واولوية السيطرة الاعلامية لإحداث القناعة الفكرية المطلوبة على الصعيد المحلي والعالمي. محمد عابد الجابري، العولمة بوصفها أمركة... ووراء الأكمة ما وراءها!، www.alkader.net-10,Sept.2003
     وحيث ان العولمة تضم مجموعة قنوات رئيسة: المنافسة، الابتكار التكنولوجي، العملية الانتاجية، والتبادل والتحديث.. بمعنى انها تحتضن قضايا واسعة من اقتصادية- سياسية واجتماعية- ثقافية.. من هنا يصعب ايجاد تعريف جامع شامل يحظى بالاتفاق العام، نظراً لتباين الموقف الفكري والطبقي للباحثين واتجاهاتهم ازاء العولمة والتعامل مع مكوناتها الكثيرة: اعادة تنظيم العملية الإنتاجية بما في ذلك اولويات التمويل والاستثمار والسلع والخدمات المنتجة، تعدد الايديولوجيات والانظمة السياسية وتعدد الانماط الديمقراطية، الصراع بين الاجنبي والمحلي.. لكل ذلك تبقى مهمة تحديد تعريف لهذا المفهوم يحظى بالقبول العام مسألة في غاية الصعوبة.
     تختلف العولمة
Globalization عن العالمية Internationalization في ان الاولى عملية احادية موجهة تقودها الغرب الصناعي بزعامة الولايات المتحدة باتجاه اختراق الفرد- المجتمع- الدولة وفرض هيمنة ثقافية وحدانية على الآخر بما في ذلك نمط اقتصادي وسياسي وحضاري وحيد لتقود في محصلتها الى تعميق التبعية الحضارية للدول الاقل تطوراً في ظروف ضآلة قدراتها على المنافسة. بينما العالمية تأكيد لتعايش الايديولوجيات المختلفة في سياق "التثاقف"، وتجسيد لقضية الانسان- المجتمع في استمرار الصراع والتحدي والتعامل السلمي المتكافئ نحو عالم افضل يعمل على تقريب مستويات الانتاجية الحضارية واعادة بناء نظام دولي اقرب الى التكافؤ والعدل.
     ليست العولمة ظاهرة حديثة، بل هي قديمة ظهرت وترعرعت مع نشوء ونمو الحضارة الرأسمالية في الغرب الصناعي. بدأت بظهور الدولة الوطنية الموحدة، وأخذت تتجاوز اسواقها الوطنية مع تكامل الثورة الصناعية (سياسة حرية التجارة)، وتطورت منذ منتصف القرن الماضي الى الدعوة للاعتماد المتبادل، واخيراً ظهرت اللفظة الجديدة (العولمة) منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. وفي اطار هذه المراحل بقيت وظيفة الدولة ثابتة رغم تغير ادوراها وآلياتها وادواتها، حيث جسدت- حسب ماركس- اداة بيد الطبقة المسيطرة لتحقيق اهدافها بما في ذلك استخدام آليات عديدة بقيت اداة العنف المنظم من ثوابتها. وكان القاسم المشترك للتطورات السياسية- الاقتصادية، بدءاً من حلول الملك محل الاقطاعي في مرحلة الدولة الوطنية الموحدة ولغاية بروز الشركات الضخمة المتعددة الجنسية الوريثة المرتقبة للدولة الوطنية منذ ستينات القرن الماضي، هو التقدم التكنولوجي وزيادة الانتاجية والانتاج ومن ثم الحاجة الى مزيد من الاسواق.
     ففي مرحلة ظهور الدولة الوطنية الموحدة منذ خمسة قرون مضت (الرأسمالية التجارية) تميزت الدولة بالمركزية والتدخل الفعال للمساعدة على بناء القدرة الاقتصادية الوطنية، فأكدت على: سياسة الحماية، تشجيع استيراد المواد الخام والذهب والفضة، تشجيع صادرات السلع المصنعة.. وفي عصر الثورة الصناعية تراجعت الدولة عن التدخل بعد استكمال قدراتها الاقتصادية- الصناعية والانتاج الواسع بطاقات اكبر من قدرة اسواقها المحلية على امتصاصها، فأطلقت سياسة حرية التجارة والمنافسة في اطار مبدأ "دعه يعمل، دعه يمر"، خاصة من قبل بريطانيا وفرنسا بعد ان انجزتا الثورة الصناعية، على خلاف المانيا التي اصرت على سياسة الحماية والتدخل من اجل بناء قدراتها الاقتصادية- الصناعية لتتمكن من الدخول في منافسة اقرب الى التكافؤ. وجاءت الحربين العالميتين امتداداً لحروب مرحلة الرأسمالية التجارية والاستكشافات الجغرافية في اصرار الرأسمالية العالمية الحصول على مزيد من المستعمرات والاسواق الخارجية لضمان تشغيل وتطوير ماكنتها الانتاجية. ومنذ مطلع الستينات من القرن الماضي قادت المنافسة بين الدول الصناعية وتراخي معدلات النمو في العالم الى بروز الشركات المتعددة الجنسية لمواجهة ضيق السوق المحلية بالانطلاق نحو الاسواق الخارجية واعتبار العالم كله سوقا لها. واصبح على الدول المركزية في العالم الثالث ارخاء قبضتها تدريجياً على الاقتصاد والمجتمع تحقيقاً لمصالح تلك الشركات بعد ان اخذت الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة تروج لمفاهيم انسانية مثل حقوق الانسان والديمقراطية.. (جلال امين، المستقبل العربي، العدد 228، بيروت، شباط/ايار،1998،ص23-36).
     تغطي العولمة كافة مناحي الحياة الاجتماعية. لذلك فهي تفرز آثاراً واسعة في مجالات الاقتصاد والسياسة والمعلومات والاتصالات والثقافة والفكر. فهي تفرض نمطاً اقتصادياً يقوم على المنافسة الحرة وعدم تدخل الدولة باتجاه الانتقال الحر للعمل ورأس المال في اطار سوق عالمية موحدة. وهي مرحلة متقدمة تتطلب، على الاقل، استكمال المرحلة الاولى من الثورة الصناعية لتكون البلاد قادرة على المنافسة الاقل اجحافاً بحقوقها في مجال المبادلات التجارية الحرة. وفي حالة دول العالم الثالث فهي تواجه معضلة صعبة، نظراً لضعف قدراتها الانتاجية، وذلك في ظروف تخلف قطاعاتها الانتاجية واعتمادها الاساس على انتاج وتصدير المواد الخام. فتكون حصيلة الانفتاح مزيداً من التراجع بما في ذلك اتساع فجوة الدخل والثروة وعدم الاستقرار. كما ان مرحلة تطور هذه البلدان لا تسمح بالقفز نحو تطبيق النمط الاستهلاكي للدول المتقدمة، والا واجهت مزيدا من المديونية واهدار وارتهان موارد ثروتها الوطنية.. يضاف الى ذلك ان القبول بالعولمة المطروحة، على اطلاقها، تعني بالنسبة لتلك الدول اهمال المبادئ الاقتصادية الاولية المتمثلة في الاسئلة الثلاثة المعروفة: ماذا ننتج؟.. لمن ننتج؟.. كيف ننتج؟.. ويرتبط بذلك اهمال الاولويات الاستثمارية وتجاوز ضمان الاحتياجات الاساسية للاغلبية والتخلي عن مبدأ التنمية من القاعدة الى القمة واقصاء وتهميش المزيد من عامة الناس وتوسيع جيوب الفقر في البلاد. يضاف الى ذلك ان اهمال هذه المبادئ تخلق قناة اخرى لالغاء الايديولوجيا- الوعي لصالح بناء المواطن المستهلك الفاقد لقضيته الانسانية- المجتمعية- الوطنية.
     ترافق العولمة محصلات سياسية تتقدمها سقوط الانظمة المركزية الشمولية السلطوية والنزوع نحو التعددية وحقوق الانسان والديمقراطية. ولكن بالاضافة الى الازدواجية التي صاحبت تفسيرات وتطبيقات هذه المبادئ الانسانية من قبل الغرب الصناعي بزعامة الولايات المتحدة وما قادت اليه من تشوهات، تشكل انظمة عديدة قائمة "موالية" بعيدة عن الديمقراطية.. شواهد قائمة.. فإن تطبيقاً مناسباً لتلك المبادئ تتطلب في الوقت ذاته استكمال مقومات تكوين بنية الدولة من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في حين ان دول العالم الثالث لا زالت تمر بمرحلة التكوين هذه وسط الولاءات الاثنية والمذهبية والطائفية التي تحيطها. من هنا فإن التغيير المفاجئ في دور الدولة، بخاصة مسؤوليتها في المساهمة والمساعدة ببناء مقوماتها الاقتصادية، قد تخلق مشكلات تهدد وجودها. كما ان الديمقراطية عملية بنائية تاريخية ممتدة، اي مهمة اهل البلد وهي عملية تدريجية. علاوة على ان الديمقراطية ليست محصورة في النموذج الغربي الرأسمالي القائم على الجانب السياسي "الحرية والمساوة السياسية"، بل تتعدد نماذجها بتعدد الايديولوجيات والانظمة الاجتماعية. يضاف الى ذلك ان المرحلة التي تمر بها دول العالم الثالث تتطلب الربط المحكم بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، اي الحرية السياسية وتقليص فجوة الدخل- الثروة"، بما في ذلك ضمان الاحتياجات الاساسية لاغلبية الناس الاقل دخلاً.
     تحتضن العولمة كذلك ايديولوجية ثقافية وحدانية تتكامل مع وحدانية العولمة الاقتصادية والسياسية وتشكل جانبها المحوري في بنا فكر جديد ونظرة جديدة بديلة لكافة الايديولوجيات والخطابات الانسانية القائمة وبما يقود الى اعادة النظر في كل المفاهيم والخطابات المتعلقة بالوطنية والدولة والاستقلال والسيادة والاستعمار والامبريالية باتجاه بناء فكر جديد يقوم على الغاء او تخفيف النزعة الوطنية وقضية الوعي- الايديولوجيا باسم مكافحة التعصب والارهاب من جهة، وبناء نظرة جديدة تقوم على تغير طبيعة الدول الرأسمالية وشركاتها الاحتكارية من اطراف استغلالية مصّاصة لدماء الشعوب، بخاصة الاقل تطوراً، الى انظمة انسانية تعمل على اعادة بناء هذه الشعوب نحو الحرية والتقدم والحداثة. وتشكل قضية العراق مثالاً بارزا هنا عندما قادت امريكا حربها بدعوى ازالة اسلحة التدمير الشامل والغاء النظام السابق وحرية الشعب العراقي، وانتهت بإزالة الدولة العراقية بكل ما بنتها على مدى ثمانين عاماً.. هذا في حين اقتصر الوعي السياسي- الطبقي لجماعات عراقية عديدة على احتدام النقاش بين مَنْ نَعَتَ الغزو الامريكي للبلاد بـ "الاحتلال" وبين من هلّل لهذا الغزو باسم "التحرير"!.
     والعولمة، باعتبارها ظاهرة عالمية ومرحلة متقدمة من مراحل تطور الرأسمالية واتساعها على مستوى الكون، تقترن بالكثير من الايجابيات والسلبيات بالعلاقة مع مرحلة التطور الحضاري للدول التي تدخل في نطاقها. ويمكن القول بصفة عامة ان هذه الإيجابيات تزداد مع مرحلة التقدم الحضاري وتقل لتتحول الى سلبيات في تلك الدول الاقل تطوراً، وذلك لتدني قدراتها على المنافسة والاستفادة من ايجابياتها لصالح تطوير العملية الإنتاجية. اي ان المعادلة في عالم العولمة هي: كلما كانت للدولة قدرات انتاجية اكبر حققت وفورات اكثر، وكلما كانت قدراتها الانتاجية اكثر ضعفا تحملت خسارة اكبر. والتفسير هنا بسيط وواضح هو ان الدول الاقل قدرة انتاجية التي تعتمد تصدير المواد الخام مصدرا اساسياً في علاقاتها التبادلية الخارجية تتحمل بدءاً خسارة تصدير جزء من ناتجها المحلي الاجمالي (القيمة المضافة)، لأِن المادة الخام تتحمل مراحل انتاجية- تصنيعية لاحقة تخلق دخلاً اعلى للدول الصناعية المستوردة لها، بالمقارنة مع تصديرها سلعاً صناعية جاهزة للاستهلاك. والاكثر من ذلك ان فرض الشروط الانفتاحية للعولمة على الدول الاقل قدرة انتاجية والاضعف امكانية لمواجهة الشركات المتعددة الجنسية تعني حرمانها من بناء قواعدها الانتاجية ووقوعها تحت مطحنة الاستهلاك والعجز والمديونية.. وهذه الظاهرة قائمة منذ مرحلة الرأسمالية التجارية وقادت الى اتساع الفجوة بين الدول الصناعية ودول العالم الثالث. وهي ستبقى مستمرة في ظل العولمة سوى انها تكون مغلّفة بدعوات انسانية سياسية ثقافية تعمل على ترسيخ التفاوت وتصاعد فجوة التخلف والقناعة بها في ظروف نشر قيم الاستهلاك للسلع والمعلومات وافراغ العقول من محتواها الايديولوجي والوعي الطبقي.
     لكن العولمة باعتبارها ظاهرة عالمية شاملة تتطلب التعامل الواعي معها بديلاً عن موقف الرفض الكلي لها او القبول الكلي بها. ويرتبط بذلك وجود مساحة واسعة للمناورة والتحرك للاستفادة من ايجابياتها وتحاشي او تخفيف سلبياتها. ذلك ان موقف الرفض الكلي من ظاهرة العولمة يقود الى الانغلاق والتقوقع في اطار مفاهيم وافكار وقيم تكلست عبر فترات تاريخية طويلة من الجمود والوحدانية والتعصب والعنف والتي لا تقل مخاطرها عن مخاطر وحدانية العولمة في انماطها الاقتصادية والسياسية والثقافية.. التي تحاول الولايات المتحدة فرضها على العالم دون اعتبارات الظروف المحلية.. فالانغلاق موقف سلبي غير فعال في مواجهة الاختراق الثقافي للعولمة، التي تدخل البيوت وتفعل فعلها بطرق مغرية مدعمة باجهزة اعلامية واعلانية ضخمة. فتكون النتيجة التقوقع على الذات والاخفاق والموت البطيء.
يتماثل الانغلاق مع الاغتراب بقبول ايديولوجية الاختراق والارتماء في احضان العولمة والاندماج فيها دون تحفظ، لأِن هذا التوجه ينطلق من الفراغ: اللاوعي- غياب القضية والفكر والايديولوجيا- وهذا الفراغ يكون عادة غير قادر على بناء كيان او هوية ولا يُقدر معنى الذات وقيمته واستقلاله سواء على مستوى الفرد ذاته او نظرته للمجتمع- الدولة- الوطن. اذن، الموقف المطلوب- كما يذكر العابدي- ليس الهروب الى الوراء او الهروب الى الامام، بل المواجهة العقلانية: العمل الذاتي- الداخلي بتأكيد مهمة انجاز مرحلة البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهذا يدعو الى عدم الارتماء في احضان العولمة دفعة واحدة وفي غياب بنية اقتصادية قادرة على المنافسة، اي رفع الحواجز الحمائية وتحرير السوق (عدم تدخل الدولة) تدريجيا بالارتباط مع تصاعد البنية الاقتصادية: الصناعية- الزراعية، وضبط الظاهرة الاستهلاكية بالعلاقة مع مرحلة قدرة الاقتصاد الوطني ومراقبة التوازنات الاقتصادية، وبخاصة بين القدرة الانتاجية والقدرة الاستهلاكية لصالح الاولى ( الادخار والاستثمار)، واعطاء الاولوية للحصول على مقومات التنمية من تكنولوجيا ومعرفة فنية لازمة لدفع مسيرة البناء الحضاري. وهذه الخطوات اقرتها نظريات الحماية التي انطلقت من قلب العالم الرأسمالي (المانيا) قبل استكمال مستلزمات نهضتها الصناعية. ولكن قبل ان تستطيع دول العالم الثالث، وبخاصة العربية منها، تحقيق هذا التدرج، عليها اولاًً خلع انظمتها الفاسدة خلعاً جذرياً، بعد ان اصبحت في واقعها تعمل وكلاء لقوى الخارج لا ممثلة لأِغلبية الداخل.. اي بناء انظمة سياسية دستورية تمثيلية تحرم الاحتكار وتوريث السلطة، وذلك وفق آلية تقوم على انتخابات تمثيلية نزيهة.
     بالاضافة الى قبول العولمة بطريقة تدريجية تتفق مع مسيرة البناء الداخلي الاقتصادي والسياسي والثقافي, تتواجد آلية اخرى يمكن ان تكون متكاملة مع الآلية الاولى، متمثلة في آلية بناء المجتمع المدني.. وهنا يمكن للمجتمع المدني بالتعاون مع الاجهزة الحكومية تبني التعامل المشترك مع قضايا العولمة وتخفيف سلبياتها لمصلحة التعجيل بالبناء السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي، وبالذات ما يتعلق ببناء منظمات المجتمع المدني على اساس الوطنية السياسية، ودعم جهودها في مجال التعاونيات الانتاجية والاستهلاكية ونشر ثقافة تشجيع المنتجات الوطنية وحماية المستهلك والحد من الظاهرة الاستهلاكية الترفيهية التي تتعدى حدود القدرات الاقتصادية المتاحة. كما ان منظمات المجتمع المدني تشكل آليات مناسبة لتخفيف آثار الشركات الاجنبية العملاقة واجهزتها الاعلامية والاعلانية، لقدرة هذه المنظمات الاحتكاك المباشر بكافة القطاعات الاجتماعية ودورها المركزي في بناء الإرادة الوطنية وتحصين الفرد وجماهير الناس لصالح التنمية والتحديث في اطار العملية الانتاجية المتكاملة.
     وختاماً، تُعبر المناقشة الساخرة التالية، عن شيء قليل او كثير من القيم المزدوجة للعولمة- الديمقراطية الامريكية: (جهاد الخازن، "عيون وآذان"،الحياة، 3/5/2003)
* ماذا تُسمّي رجلا يُفجر قنبلة ويقتل ناساً ابرياء؟ إرهابي..
وماذا تُسمّي رجلاً يلقي قنبلة من طائرة ويقتل ناساً ابرياء؟ طيار امريكي شجاع..
* ماذا تقول عندما يستخدم فلسطيني العنف ضد يهود يحتلون ارضه من دون اي مبرر شرعي؟ إرهابي..
وكيف تصف طائرة هليوكوبتر اسرائيلية تطلق صواريخ (امريكية) على فلسطينيين وتقتل شباناً يحملون حجارة؟ دفاع عن النفس..
* بماذا تصف إعطاء شخص موظف حكومي مالاً في مقابل تقديم خدمات له؟ رشوة..
وبماذا تصف تقديم شركات كبرى المال لموظفين حكوميين في مقابل خدمات خاصة لها؟ تبرع للحملة الانتخابية..
* كيف تصف ناساً يأخذون القانون بِأيديهم ويقتلون ناساً آخرين من دون محاكمة؟ مجرمون..
وكيف تصف اخذ الولايات المتحدة القانون بيديها وقتلها الناس من دون غطاء شرعي؟ عملية الحرية للعراق..
* من هو الشخص الذي يسرق من الاغنياء ويعطي الفقراء؟ روبن هود..
ومن يسرق من الفقراء ويعطي الاغنياء؟ الحكومة الامريكية..
* ما هو اسم سلاح يستطيع قتل الوف الناس؟ سلاح دمار شامل..
وما هو اسم سلاح قتل 5ر1 مليون عراقي، بينهم نصف مليون طفل؟ العقوبات..
* ما هو اسم جيش يُقاتل لمصلحة من يدفع له اكثر؟ مرتزقة..
وما هو اسم جيش في افغانستان يُقاتل لمن يدفع له اكثر؟ تحالف الشمال..
* كيف تصف هجوماً على البنتاغون، او مركز القيادة والسيطرة الامريكية؟ هجوم جبان على الديمقراطية الاميركية..
وكيف تصف هجوماً امريكياً يدمر قرية افغانية؟ هجوم على مركز قيادة وسيطرة لطالبان..
* كيف تصف قتل ثلاثة آلاف شخص في هجوم 11/9/2000 في الولايات المتحدة؟ إرهاب..
وكيف تصف قتل خمسة ملايين شخص في حرب فيتنام؟ خطأ..
* كيف تصف استغلال الاغنياء الفقراء؟ طمع وانانية..
وكيف تصف استغلال الدول الثرية الدول الفقيرة؟ عولمة..
* كيف تصف قتل شعب كامل؟ إبادة جنس..
وكيف تصف إبادة الامريكيين الاصليين (الهنود الحمر) في الولايات المتحدة؟ حقبة مجيدة في التاريخ الامريكي
--
مفهوم العولمة
عمرو عبد الكريم
باحث علوم سياسية

 انتشر استخدام مصطلح العولمة في كتابات سياسية واقتصادية عديدة (بعيدة عن الإنتاج الفكري العلمي الأكاديمي في البداية) في العقد الأخير، وذلك قبل أن يكتسب المصطلح دلالات استراتيجية وثقافية مهمة من خلال تطورات واقعية عديدة في العالم منذ أوائل التسعينات.
يُستخدم مفهوم العولمة لوصف كل العمليات التي بها تكتسب العلاقات الاجتماعية نوعًا من عدم الفصل (سقوط الحدود) وتلاشي المسافة؛ حيث تجري الحياة في العالم كمكان واحد -قرية واحدة صغيرة- ومن ثم فالعلاقات الاجتماعية التي لا تحصى عددًا أصبحت أكثر اتصالاً وأكثر تنظيمًا على أساس تزايد سرعة ومعدل تفاعل البشر وتأثرهم ببعضهم البعض. وفي الواقع يعبر مصطلح العولمة عن تطورين هامين هما: التحديث
Modernity، والاعتماد المتبادلInter-dependence ، ويرتكز مفهوم العولمة على التقدم الهائل في التكنولوجيا والمعلوماتية، بالإضافة إلى الروابط المتزايدة على كافة الأصعدة على الساحة الدولية المعاصرة. وبناء على ذلك، فالمفهوم يحتوي على مساحة من التناقض بين وجهة النظر الليبرالية الداعية للاحتفال بالاعتماد المتبادل بين الدول، مقابل وجهة النظر الراديكالية التي لا ترى في ذلك إلا مزيدًا من السيطرة العالمية للرأسمالية والنظام الاقتصادي المرتكز على حرية السوق.
وتاريخيًا، فإن مفهوم العولمة لا يتجزأ عن التطور العام للنظام الرأسمالي، حيث تعد العولمة حلقة من حلقات تطوره التي بدأت مع ظهور الدولة القومية في القرن الثامن عشر، وهيمنة القوى الأوروبية على أنحاء كثيرة من العالم مع المد الاستعماري.
    بين رأس المال والتكنولوجيا والثقافة:
    ومؤخرًا، ساهمت ثلاثة عوامل في الاهتمام بمفهوم العولمة في الفكر والنظرية، وفي الخطاب السياسي الدولي:
1-    عولمة رأس المال أي تزايد الترابط والاتصال بين الأسواق المختلفة حتى وصلت إلى حالة أقرب إلى السوق العالمي الكبير، خاصة مع نمو البورصات العالمية.
2-    التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصال والانتقال والذي قلل -إلى حد كبير- من أثر المسافة، وانتشار أدوات جديدة للتواصل بين أعداد أكبر من الناس كما في شبكة الإنترنت.
3-    عولمة الثقافة وتزايد الصلات غير الحكومية والتنسيق بين المصالح المختلفة للأفراد والجماعات، فيما يسمى الشبكات الدولية Networking حيث برز التعاون استنادًا للمصالح المشتركة بين الجماعات عبر القومية، مما أفرز تحالفات بين القوى الاجتماعية على المستوى الدولي، خاصة في المجالات النافعة مثل: الحفاظ على البيئة، أو في المجالات غير القانونية كتنظيف الأموال والمافيا الدولية للسلاح.
وفي الواقع، فإنه على الرغم من ترحيب دعاة العولمة بزوال الحدود القومية ودعوتهم لإنهاء الدولة القومية، والحد من الإغراق في الخصوصية الثقافية والمحلية، لكن الواقع الحالي يثبت وجود قوتين متعارضتين: التوحد والتجزؤ.
    التوحد والتجزؤ:
    فبينما يتجه الاقتصاد لمزيد من الوحدة على الصعيد الدولي، تخطو السياسة نحو المزيد من التفتت مع نمو الوعي العرقي والنزاعات الإثنية، في حين تتراوح الثقافة بين انتشار الثقافات الغربية في الحياة اليومية وبين إحياء الثقافات والتراث في أنحاء المعمورة.
وعلى الرغم من عولمة رأس المال فإن الهوية تتجه نحو المحلية. على سبيل المثال: فإن اختفاء الحدود بين شطري ألمانيا ونشأة كيانات موحدة والسير نحو الوحدة الأوروبية الغربية واكبه تفتت يوجوسلافيا وإحياء الروح الانفصالية في أفريقيا وآسيا.
وعلى صعيد عمليات الاتصال بين أرجاء المعمورة، فإن تكنولوجيا الاتصال قد قللت إلى حد كبير من تأثير المسافات بين الدول، وازدياد التفاعل بين الأشخاص والثقافات - بعبارة أخرى: حوار الحضارات، مما قاد إلى تكوين ثقافة عالمية جديدة يستغربها الذين اعتادوا على ثنائية "الذات والآخر"، فهناك دعوة للاندماج تبرز في مدارس الفن والفلسفة، وحوارات على كافة الأصعدة الحضارية والدينية. ويركز المتوجسون من العولمة على الروح الاستهلاكية العالية التي تواكب هذه المرحلة، والتي تتضح فيما يُسمى ثورة التطلعات، وانتشار النمط الاستهلاكي الترفي بين الأغنياء، أو الحلم به وتمنيه بين الفقراء.
وتنطوي العولمة على درجة عالية من العلمنة -أي تغليب المادية والحياة العاجلة على أية قيم مطلقة، واختزال الإنسان في بعده المادي الاستهلاكي، وأحيانًا الشهواني، فعلى سبيل المثال: تتعامل ثقافة الإعلام في ظل العولمة مع المرأة طبقًا لرؤية نفعية، يكون فيها جسد المرأة أداة لتعظيم المنفعة المادية، فمن ناحية تعتبر المرأة سلعة يمكن تسويقها - من خلال العروض التلفزيونية والإعلانات - عالميًا، ومن ناحية أخرى تعتبر هدفًا لتسويق سلع استهلاكية كمستحضرات التجميل والأزياء - وتتجلى هذه الرؤية في أشكال شتى منها مسابقات ملكات الجمال.
وعلى الرغم من انتشار مفهوم العولمة، فإن العالم يفتقر إلى وجود وعي عالمي أي إدراك الأفراد لهويتهم الكونية أكثر من الهويات المحلية. فواقعيًا، لا زالت الهويات المحلية تتصارع مع تلك الهوية العالمية التي تهيمن عليها القوى الكبرى اقتصاديًّا ونموذجًا حياتيًّا (الأمركة)، فعلى سبيل المثال بينما تتحد الدول في وحدات إقليمية كبيرة فإن التواصل بينها مفتقد، وبينما تتسارع العولمة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية سعيًا وراء تقليل فوارق المسافة، تخلق السياسة العديد من الفجوات بين الدول. وتعبر هذه السلوكيات عن جدلية إدراك الإنسان لدوره ككائن اجتماعي من ناحية، وكفرد يتصارع عالميًا سعيًا وراء مكانة خاصة.
ويرى بعض الباحثين أن الإشكالية في العلاقة بين العالمي والمحلي تتفاقم حين تحاول القوى العالمية الكبرى مثل: الولايات المتحدة أن تُعطي الطابع العالمي لما هو محلي لديها من أجل تحقيق مصالحها الخاصة. ويرجع انتشار هذا النموذج الأمريكي إلى امتلاك الولايات المتحدة لمنافذ إعلامية عديدة وعالمية.
ويطلق الباحثون على تلك العملية، "عولمة المصالح المحلية"، ومن المهم إدراك أن مفهوم "العولمة" يرتكز على عملية ثنائية الأبعاد: كونية الارتباط - ومحلية التركيز، وهذا التضاد هو طبيعة كل واقع جديد، لذلك يصح أن نطلق عليها لفظ "العولمة المحلية"
Globalization and localization .
    الإسلام والعولمة:
    ويلاحظ أن الإسلام وإن كانت دعوته عالمية الهدف والغاية والوسيلة، ويرتكز الخطاب القرآني على توجيه رسالة عالمية للناس جميعًا، ووصف الخالق - عز وجل- نفسه بأنه "رب العالمين" ، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مقترنًا بالناس والبشر جميعًا. فإن حضارة الإسلام قامت على القاسم المشترك بين حضارات العالم، فقبلت الآخر وتفاعلت معه أخذًا وعطاءً، بل إن حضارة الإسلام تعاملت مع الاختلاف بين البشر باعتباره من حقائق الكون. لذلك دعا الخطاب القرآني إلى اعتبار فوارق الجنس والدين واللغة من عوامل التعارف بين البشر. اتساقًا مع نفس المبادئ، يوحد الإسلام بين البشر جميعًا رجالاً ونساءً، في جزئيات محددة: أصل الخلق والنشأة، والكرامة الإنسانية والحقوق الإنسانية العامة، ووحدة الألوهية، وحرية الاختيار وعدم الإكراه، ووحدة القيم والمثل الإنسانية العليا.
وتبدو الاختلافات جلية بين عالمية الإسلام ومفهوم "العولمة" المعاصر، فبينما تقوم الأولى على رد العالمية لعالمية الجنس البشري والقيم المطلقة، وتحترم خصوصيته وتفرد الشعوب والثقافات المحلية، ترتكز الثانية: على عملية "نفي" و "استبعاد" لثقافات الأمم والشعوب ومحاولة فرض ثقافة واحدة لدول تمتلك القوة المادية وتهدف عبر العولمة لتحقيق مكاسب السوق لا منافع البشر.
ورغم هذه السيطرة الغربية على العولمة ومسارها إلا أن القوى المختلفة الداعية إلى حق الاختلاف والخصوصية الدينية والثقافية يمكنها توظيف أدوات العولمة ذاتها لمواجهتها، ففي قمة "سياتل" التي انعقدت في الولايات المتحدة الأمريكية ديسمبر 1999 نظم ونسق المعارضون لاتفاقية الجات جهودهم عبر شبكة الإنترنت، مما يدل على أن الإنسان يستطيع توظيف كل جديد في الدفاع عن هويته وذاته... وإنسانيته


إعادة النظر في العولمة
خدمة كامبردج بوك ريفيوز:
على رغم كثرة الكتب والدراسات التي تصدر بشكل مكثف عن العولمة وجوانبها المختلفة, الاقتصادية, والسياسية, والإعلامية, والثقافية, فإن المثير في الموضوع هو الثراء الذي يتميز به، بحيث إن العديد من الأفكار الجديدة ما تزال ترى النور في بعض الكتب التي تصدر هذه الأيام. وهذا الكتاب يحتوي على مجموعة من المعالجات التي تتناول العولمة من زوايا جديدة أو تتعمق في جوانب يتم التطرق إليها في معظم الدراسات.
غلاف الكتاب
 - اسم الكتاب: إعادة التفكير في العولمة (العولمات)
 -
المؤلف: بريت أولاخ ومايكل شيشتر
-
عدد الصفحات: 285
-
الطبعة: الأولى 2000
 -
الناشر: مايكلمان- لندن- بريطانيا
 
أهم ما في هذا الكتاب أنه يقرر من البداية أن العولمة لا يمكن فهمها بشكل أحادي, سواء أكان ذلك من زاوية اقتصادية صرفة, أم سياسية محددة, أم اجتماعية مبتسرة, أم ثقافية حصرية. ومن هنا يجيء العنوان الضمني للكتاب عبر استخدام لفظة "العولمات" بدل العولمة, وهو استخدام يطرح لأول مرة كعنوان لكتاب يعالج هذه الظاهرة. فـ"العولمات" المقصودة هنا هي الجوانب التي تنسب للعولمة في العادة, لكن أراد المؤلفان هنا التركيز على أن عمق التغير الذي شهده ويشهده عالم اليوم يتمثل في حدوث عولمات في كل مجالات الحياة الإنسانية, وهي المجالات التي سنتعرض لها تالياً. وهذا البعد العولمي المتعدد للتغير العميق يأخذه المؤلفان إلى مدياته القصوى في المقدمة الموسعة والتمهيدية للفصول التي عالج كل منها عولمة من تلك العولمات. والتداخل العضوي الذي يربط بين مجالات التغيير هو المميز الأول للعولمة والعولمات بحيث يبدو أي فصل تعسفي بينها لا علاقة له بالتحليل السوسيولوجي الموضوعي والمتمكن.

لا يوجد أي ضمانة بأن العولمة الراهنة إذا نجحت في نشر مبدأ التجارة الحرة على أوسع نطاق ستكون كفيلة بأن تقود العالم إلى وجهة أكثر سلاماً من ذي قبل، وخاصة إذا سيطرت قوى السوق على آليات السلطة والقوة في المجتمعات
بين إيجابيات العولمة وسلبياتها
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام, كل منها يتفرع إلى عدة فصول. القسم الأول يتناول اختبار "حقيقة" تواجد واشتغال العولمات وعلائقها بالبنية التحتية المكونة للتجمع البشري فوق المعمورة. فيناقش يان آرت شولت فيما إن كان التعولم الجاري يقود بالضرورة إلى مجمتع أفضل. ويرى أن جردة حساب للوضع العولمي الراهن يشير إلى أن نواقص وسلبيات العولمة تكاد تتعادل مع إيجابياتها. ففي الوقت الذي تتيح فيه آليات العولمة فرصاً للتقدم الإنساني التقني ونشره في أرجاء المعمورة, وتدفع نحو الديمقراطية والحرية السياسية, وتفتح آفاق غير مسبوقة في حرية المعلومات والإعلام بما يهز البنى الدكتاتورية, فإن العولمة ذاتها تكرس اللاعدالة في التوزيع الموجودة أصلاً بين الشعوب وفيما بينها, كما تفاقم مشكلات "العجز الديمقراطي" إلى درجة غير مسبوقة وخاصة في العالم المتقدم بسبب القوة السياسية المتصاعدة للشركات متعدية الحدود، والتي بإمكانها التأثير في شكل ومسيرة المجتمعات عبر مجالس إدارتها, وهي مجالس لا تعبر عن مصالح عامة الناس بل عن مصالح ملاك الشركات, وهكذا...
وقضية "النفوذ السياسي" أو "السلطة" والعولمة هي ما يتوسع فيها هوارد لينتر الذي يشكك في أن تسليم "السلطة السياسية" للسوق سوف يقود تلقائياً إلى نشر القيم الليبرالية وخدمة صالح الشعوب. ويقارن لينتر العولمة الراهنة والدعوات المتفائلة التي ترى فيها قوة إيجابية صرفة تدفع العالم باتجاه دحر النزعات الفاشية والدكتاتورية والقوميات المتعصبة, يقارنها بحقبة التوسع الليبرالي التجاري وانتصار عقيدة السوق في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فآنذاك شاع تفاؤل كبير في أوساط منظري الفكر السياسي العالمي بأن التجارة الحرة كفيلة بلجم نزعات الحرب والعداء بين الشعوب وتشجيع التعاون وتغليب منطق المصلحة الاقتصادية على منطق الاستعداء ومحاولة النهب المتبادل. لكن ذلك التفاؤل سرعان ما تحطم على صخرة واقع الحرب العالمية الأولى التي اندلعت رغم انتشار التجارة الحرة بشكل غير مسبوق بين الدول التي خاضت الحرب ضد بعضها البعض. ومن هنا فإن لينتر يقول بحق بأنه لا ضمانة بأن العولمة الراهنة -وبفرض نجاحها في نشر مبدأ التجارة الحرة على أوسع نطاق- كفيلة بأن تقود العالم إلى وجهة أكثر سلاماً من ذي قبل، خاصة إذا سيطرت قوى السوق على آليات السلطة والقوة في المجتمعات (ص 69-70).

العولمة تمنـح الفرص التي تتيحها للشريحة الغنية الضيقة المتنفذة في دول العالم الثالث, بينما تظل الشرائح الفقيرة بعيدة كل البعد عن الاستفادة من العولمة, بل تبقى تعاني من ويلاتها، وبهذا تسهم العولمة في تكريس الظلم واللامساوة الاجتماعية
العولمة ودول العالم الثالث
القسم الثاني من الكتاب يعالج آثار العولمة والعولمات بشكل مباشر عبر قراءة حالات دراسة محددة, ووفق منظور نظري رصين يربطها بالتطور العام للظاهرة. ولعل هذا القسم هو أكثر ما يهم قراء العالم الثالث, ففيه فصول تتناول أثر العولمة على العالم الثالث, من ناحية تقوية أو إضعاف الدولة, أو إحداث تمزق اجتماعي وتشطير للمجتمعات التي ما زالت تكافح لبناء درجة معقولة من التضامن الاجتماعي الوسطي, كما تشير جينا لامبرايت ونيكولاس فان دي والت (ص 123 وما بعدها). وهذا يرتبط بقوة في أثر العولمة على الأسواق الناشئة, في العالم الثالث, وفيما إن كانت العولمة تساعد هذه الأسواق في تخطي عتبة التنمية المستديمة بحيث تصل إلى درجة الأمان وعدم التقهقر إلى الوراء جراء أية خضات مفاجئة, اقتصادية أم سياسية, أم أن تلك العولمة تساعد على إعاقة نمو الأسواق الجديدة إذ تفتح عليها المنافسة مع الأسواق المتقدمة عنها في القوة والمتانة الاقتصادية, فيبدو التنافس غير متكافىء، ونتيجته لصالح الطرف الأقوى في كل الظروف.
فإذا كانت النتيجة الأخيرة هي الأكثر احتمالاً فإننا ننتهي إلى خلاصة متشائمة مفادها أن العولمة في واقع الأمر لا تعمل سوى على تكريس الهوة الواسعة بين أغنياء العالم وفقرائه, مجتمعات ودولا. وأن حقبة الحماية وعدم الانفتاح الكلي, التي ميزت بعض أنماط الاقتصاد الآسيوي الذي نهض في النصف الثاني من القرن العشرين كانت في النتيجة أفضل من بريق الانخراط في العولمة ومواجهة مخاطرها من دون التسلح بأسلحة كافية.

أتاحت العولمة للمسلمين بشكل ما نشر وتداول "الرموز" الموحدة الخاصة بهم -كاللون الأخضر والقبة والمسجد والحرف العربي- في أرجاء العالم
عولمة الإسلام
ومن الفصول المثيرة في القسم الثاني أيضاً مساهمة هيلدي تيغان ومارتا تيغان حول أثر العولمة على "تسويق" الإسلام وتمييزه. ففي هذا الفصل تناقش الكاتبتان ما تعتبرانه جوانب عولمة الإسلام التي جاءت بها العولمة الراهنة, من خلال دراسة تأثيرات التواصل المكثف, الإعلامي والثقافي والديني, التي أتاحتها العولمة للمسلمين والجاليات المسلمة في أكثر من مكان في العالم, مع تركيز خاص على الجالية المسلمة في الولايات المتحدة. وعبر التعمق في ملاحظة انتشار عالم "الرموز" الموحدة, مثل اللون الأخضر, وصورة المسجد ذي القبة, والحرف العربي, فإن ثمة نتيجة تشير إلى أن العولمة أتاحت للمسلمين بشكل ما نشر تلك "الرموز" في أرجاء العالم وتداولها.
ويركز الفصل على قدرة المسلمين على الاستفادة من العولمة لنشر وتعميق مفاهيم الدين الإسلامي ليس فقط بين الجيل الأول من المهاجرين المسلمين في دول العالم الغربي بل وأيضاً في إيجاد تواصل مع الجيل الثاني والثالث الذين ولدوا في الغرب وصار بالإمكان ربطهم بأوطانهم الأصلية من خلال مظاهر تعولم العالم الحديث. وتربط الكاتبتان كل ذلك بالنشاط التجاري الإسلامي وكيف أن ذلك النشاط مليء بالرموز الإسلامية التي صارت متداولة عالميا, وعولمياً, فمثلاً اللون الأخصر ورمز القبة كثيرا ًما تستخدمه الشركات الإسلامية التي توزع منتجاتها في أكثر من سوق. وأفضل مثال على ذلك, كما تورد الكاتبتان هو شركات "اللحم الحلال" حيث أصبحت لفظة "حلال ميت" بالإنجليزية معروفة المضمون ورمز معترف به ومفهوم في أغلب بلدان العالم (ص 233).

الاختبار الحقيقي للدعوى الليبرالية -التي تطرحها العولمة وتدعي تبنيها- هو في نجاحها في تقليل الفجوة بين الشمال والجنوب, ليس فقط على مستوى العالم, بل وأيضاً على المستوى الداخلي للبلدان نفسها
مستقبل العولمة
أما القسم الثالث من الكتاب فقد خصص لقراءة مستقبل العولمة والعولمات. وهنا نقرأ التساؤلات التقليدية التي تطرحها معظم معالجات العولمة وخاصة تلك المهمومة بمنظومات القيم والمعايير التي تحوم حول عدالة توزيع الثروات في المعمورة والقضاء على الفقر والوصول إلى عالم أكثر إنسانية. فالاختبار الحقيقي للدعوى الليبرالية -التي تطرحها العولمة وتدعي تبنيها- هو في مواجهتها السؤال المركزي حول كيفية تقليل الفجوة بين الشمال والجنوب, ليس فقط على مستوى العالم, بل وأيضاً على مستوى داخل البلدان نفسها. فالخطر الكبير الذي يحدق بكثير من مجتمعات العالم, وفي مقدمتها مجتمعات الدول النامية, هو أن العولمة تمنح الفرص التي تتيحها للشريحة الغنية الضيقة المتنفذة في هذه البلدان, بينما تظل الشرائح الساحقة بعيدة كل البعد عن الاستفادة من العولمة, بل إنها تعاني من ويلاتها. وبهذا فإن العولمة قد تنتهي ليس إلى تكريس الظلم واللامساوة الاجتماعية, بل ومفاقمتها, وهذا هو عكس الدعوة الليبرالية بأبسط مضامينها.


هي العولمة ؟
لقد أعطيت للعولمة تعريفات كثيرة ، لكنّ أقربها إلى فهمنا وادراكنا لطبيعتها ومراميها هو أنّها سياسة استعمارية استكبارية جديدة للسيطرة على العالمين العربي والاسلامي ، بل هناك تخوّف غربي منها أيضاً ((2)) ، فهي محاولة لاحتواء العالم والهيمنة عليه من خلال النموذج الأميركي .
والعولمة بما هي بسط النفوذ الأميركي على العالم ، لها وجوه كثيرة ، سياسية وعسكرية وثقافية واقتصادية وأمنيّة .
أمّا أهدافها :
ـ فإسقاط الحواجز والهويات والثقافات والشخصيات((3)) ، وصهر الجميع في البوتقة الأميركية ، وتصنيعها وفق النموذج الأميركي .
ـ خلق سوق عالمية مفتوحة الأبواب على مصاريعها .
ـ الحصول على المواد الأوّلية من دول الجنوب بأرخص الأسعار .
ـ توظيف الأيدي العاملة الرخيصة في تأمين حاجة المصانع الكبرى منها .
ـ إتاحة المجال للاستثمارات الأميركية في تحقيق الحد الأعلى من العائدات .
ـ التدخل العسكري في أي بلد من بلدان العالم دفاعاً عن المصالح الأميركية ، وبسطاً للهيمنة عليه .
وواضح من ذلك ، أنّ الهدف الأوّل والأكبر من العولمة هو اقتصادي ، ذلك أنّ الاقتصاد هو عصب الحياة ، وأنّ الكثير من الحروب التي تنشب هنا وهناك إنّما المال والأعمال هما اللذان يشعلان فتيلها .
وأمّا مظاهرها :
ـ فسلخ الجيل الجديد عن معتقداته ومبادئه وقيمه ، وسلب إيمان الشباب بثوابتهم وأصالتهم .
ـ استبدال الثقافة المحلية والاسلامية الأصيلة والعريقة ، بالثقافة الأجنبية .
ـ إشاعة المفاهيم الخاطئة القائمة على قيم المادة والاستهلاك والمظاهر والتفاخر والتكاثر والربح والخسارة والعنف والابتذال .
وأمّا آثارها :
في عصر الاتصالات والمعلومات .. تمكّنا من الوصول إلى أقصى نقطة في العالم ونحن قعود في أماكننا لا نبرحها ، فالعملية لا تتطلب أكثر من الضغط على أزرار معدودات ، أو نقرات بسيطة .
واستطعنا أن نحصل على المعلومات والتقارير والأبحاث ونتائج الدراسات والرؤى والآراء بيسر وسهولة .
واستطعنا أن نجري حوارات كثيرة عبر القنوات المفتوحة والمتاحة ، فذابت بعض الفواصل والعقد والخلافات والرواسب .
لكننا ـ في قبال ذلك ـ رحنا نفتقد الكثير من القيم الاجتماعية والأخلاقية التي يفترض أنّها لا تتبدل بتبدل العصر ، لكن طبيعة الحياة التي تضغط عليها المادة من كل اتجاه أفرزت هذا التبدل في طبيعة العلاقات الاجتماعية .
فاللقاءات والزيارات المباشرة التي كانت لها نكهة خاصة وأجواء حميمة تستشعر فيها دفء المشاعر وحرارة الموقف وعذوبة المواجهة ، تحولت إلى لقاءات تسمع فيها نبرة الصوت وربّما ترى ملامح الصورة دون أن تسقط بعد المسافة وطبيعة الحواجز من الحساب ، فالدفء الحاضر الحي النابض المباشر تتشرب الأسلاك والأجهزة الكثير من دفئه وحيويته .
إنّك اليوم كمن يرى نهراً يجري في فيلم .. تراه بعينيك وتسمع خريره بأذنك وتصدّق ما ترى وتسمع ، لكنه لا يروي ظمأك .
وحتى في الأعياد والمناسبات ، أضحى الاتصال الهاتفي أو الرسالة الالكترونية ، أو ورقة الفاكس ـ في ظنّ المنساقين مع أجواء الزهد بالعلاقات الحميمة ـ كافية ومعبّرة وسادّة مسدّ اللقاء الحيويّ .
وامتدّ الأمر إلى التجمعات الأسرية في غرف الجلوس وحول
المائدة ، حيث رحنا نفتقد فرص الوعظ والارشاد أو مطارحة الهموم والمشاكل ، فلقد تقلصت الأحاديث التي تجتذب الاسماع وتستقطب الاهتمام ، بل انحسرت ـ إلاّ نادراً ـ جلسات السمر والمناقشة والنزهات المشتركة ، فهذا اجتذبه جهاز الكومبيوتر فعاقره .. وهذه اجتذبها الصحن الفضائي فجالسته طويلاً .. والطعام ـ أثناء هذا وذاك ـ ساندويج سريع وجاهز تقضمه الأسنان كما تقضم الماكينة مادة توضع بين أسنانها ، فلم نعد نشعر بلذة الطعام فضلاً عن تذكر نعمته وشكرها .
والمكتبة انزوت وتقلّص ظلّها حتى باتت مهجورة ، لأنّ المنافسة بينها وبين مزاحماتها كثيرة ، والصبر على المطالعة بات شحيحاً . ثمّ إنّ مفهوم الثقافة قد تغيّر ، فقد اتسع ليشمل كل شيء ، أي أصبح لكل شيء ثقافته ، لكنه تقلص أيضاً لينحصر في اجادة استخدام الانترنيت والتجول عبر مواقعه وصفحاته ، ونسيان ما دونه .
كما أنّ الحاجة إلى المعلم الحيّ الذي تنشدُّ إليه الأسماع والقلوب انحسرت موجتها أيضاً ، فالمعلم اليوم موجود داخل الصناديق ، ما أن تفتح صندوقاً حتى يطلّ برأسه ليعلّمك ، وليس في ذلك بأس ، بل هو يتيح التعلم حتى في البيوت مما يوسّع نطاق التعلم ويطرحه بأساليب عصرية متنوعة ، لكنك أصبحت لا تعيش ـ مع معلمك ـ حميمية التواصل ، ولا تتلقى منه التعليمات والآداب والتربية المصاحبة لعملية التعليم ، فكمّ التعليم اليوم كبير لكنّ كمّ التربية قليل .
وبكلمة مختصرة ، فإنّ التقنيات الحديثة أعطتنا الشيء الكثير والنافع ـ ما في ذلك شكّ ـ لكنها أخذت منا أيضاً الشيء الكثير .. والنافع أيضاً !
إنّ رياح العولمة الهابّة من فجاج الأرض تحديداً لا تهددنا فحسب ، بل تهدد الدول الغربية أيضاً ، ولقد ذكرنا كيف أن الانتاج التلفزيوني والسينمائي الأميركي راح يغزو ساعات البث وشاشات العرض في كل من فرنسا وألمانيا بما يزيد على نسبة الـ 70 % هذا مع العلم أن هذه الدول لها انتاجها الخاص أيضاً ، فما بالك بنا ونحن نستورد أكثر مما ننتج ؟! حتى أنّ بعض البلدان راحت تعرض المستورد في مساحة واسعة من بثّها وتقلّده في المساحة المتبقية !
ونسوق على تأثير رياح العولمة بعض الأمثلة ، وهي أيضاً نتاج (التغريب) سابقاً ، وقد جاءت العولمة فعمّقت الهوّة :
فلقد أجريت على مجموعة من الطالبات الجامعيات في مصر دراسة حديثة ، طرح عليهنّ فيها السؤال التالي : هل تغيّرت لديك صورة المرأة من خلال الفضائيات أم لا ؟
فأكّدت 22 % منهنّ على أنّ حالة تكرار الشعور بالرغبة الجنسية ، وضعف الالتزام الديني قد ازدادت لديهنّ .
وكشفت دراسة أخرى أنّ جرعة الجريمة التي راحت تزداد في عروض الفضائيات زادت في ارتفاع الجرأة على ارتكابها .
وكشفت دراسة ثالثة أنّ الطفل من أكبر ضحايا الفضائيات ، لأ نّه يتلقّى الأفكار والمفاهيم بمشاعره لا عقله ، وهو يقلد ويحاكي ولا موازين لديه .
لكنّ رياح العولمة لواقحُ أيضاً حتى قال بعضهم : «نشكر الفضائيات العربية والأجنبية التي كشفت الكثير من أوراق الماضي والحاضر .. فقط استمع وحلّل»(4) .
ولقد ازدادت الخيارات بين أيدينا ، وحينما تزداد خياراتك تتسع أمامك حريّة الاختيار ، المهم أن لا تدخل إلى عوالم العولمة بذهنية طفلية فارغة ، ولا بذهنية الآراء المسبقة التي تمنع وتحرّم وتكفّر من دون أن تدرس وتبحث وتحلل وتسبر أغوار الأشياء لتعرف إيجابياتها وسلبياتها ، ولقد أعطى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهجاً في التعامل مع الأشياء في قوله لشاب طلب نصيحته : «إذا أقدمت على أمر فتدبّر عاقبته فإن كان رشداً فامضِ ، وإن كان غياً فانتهِ» !
فالرشد والغيّ هما مقياس الأخذ والترك ، أي المصلحة والمفسدة ، والخير والشرّ ، والحقّ والباطل ، والنافع والضارّ

العولمة ظاهرة قديمة

مشروعك الفكري، منذ أكثر من أربعين سنة، يحاول أن يحلل قضايا العولمة بشكل نقدي. كيف تقَََيّمون المرحلة التاريخية الحالية، وهل تبدو لكم بهذا القدر من التشاؤم الذي يصفها البعض؟

سمير أمين: يمر العالم حاليا بمرحلة صعبة، مرحلة ما يسمى بالعولمة، والتي بدأت قبل سقوط الاتحاد السوفياتي وبالضبط منذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، عندما أعلن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشرعن إلغاء كل ما كانت تتسم به الرأسمالية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي مرحلة كانت تتسم بالنسبة للغرب عموما، بما يمكن وصفه بحل وسط تاريخي بين العمل ورأس المال أقيمت على أساسه دولة الرفاهية وذلك بتقنين الرأسمالية وقوانين السوق بشكل مكّن الطبقات العاملة بشكل عام من الاستفادة من التقدم في انتاجية العمل. مرحلة العولمة بدأت بإعلان ضرورة إلغاء هذا التقنين والدخول في نظام ليبرالية جديدة قائمة على أساس تحكم رأس المال تحكما مطلقا.

ومن الظروف التي سمحت بذلك نذكر، سقوط الاتحاد السوفياتي والنظم الاشتراكية، ولكن أيضا التطور الذي حصل في الصين إضافة إلى نهاية مرحلة امتداد الوطنية الشعبوية. والنظام "النيولبيرالي" أو العولمة الجديدة قائم أولا على تجاهل الجانب الاجتماعي في عملية التنمية الاقتصادية سواء تعلق الأمر بالدول الرأسمالية أو بالدول النامية، وبالتالي إخضاع جميع جوانب الحياة الإجتماعية والسياسية لمعيار مطلق وحيد، ألا وهو ربحية الرأسمال بالإضافة إلى إلغاء تقنين عدد من المجالات كتنظيم العمل والتجارة العالمية وما إلى ذلك.


أنت تقول بأن العولمة ليست ظاهرة جديدة؟

أمين: العولمة ظاهرة قديمة قدم الإنسانية، نجدها قبل العصور الحديثة أيضا، عندما ننظر مثلا إلى انتشار الديانات الكبرى كالمسيحية والإسلام، فهذه عولمة في حد ذاتها في أشكال أخرى وعصور أخرى. العولمة الرأسمالية الحديثة تؤدي إلى استقطاب على الصعيد العالمي، فالعالم مقسم إلى مراكز مسيطرة وأطراف تابعة لها.

العولمة الرأسمالية المعاصرة مرت بمراحل متعددة، فهناك المرحلة الممكن وصفها بالكلاسكية التي بدأت أوائل منتصف القرن التاسع عشر مع الثورة الصناعية في أوربا وأمريكا الشمالية واليابان والذي يشكل الاستعمار "الكولنيالي" أحد أهم تجلياته. نمط العولمة الاستعمارية هذا بدأ يتغير بعد الحرب العالمية الثانية بانتشار حركات التحرر الوطنية وبالتالي دخول مناطق من العالم الثالث في مرحلة التصنيع. ويذكر هنا أن تصنيع هذه الدول لم يكن نتيجة آليات السوق من تلقاء نفسها، ولكن نتيجة انتصار حركة التحرر الوطني التي فرضت تحديث مناطق الأطراف، إلا أن الحدود التاريخية لهذه المرحلة لم تتعد الثلاثين سنة. انهيار الاتحاد السوفياتي أتاح للرأسمال هجوما عاما على جميع الجبهات على مستوى العلاقات الدولية وعلى مستوى العلاقات مع الأطراف الوطنية الشعبوية ومع الدول الاشتراكية سابقا.

تأسيس منظمة التجارة العالمية
WTO تعتبر من أهم تجليات سيطرة الرأسمال على المستوى العالمي، وأهمية هذه المنظمة أكبر بكثير من صندوق النقد الدولي ومن البنك الدولي، فهي نوع من النادي للشركات العملاقة المتعددة الجنسيات التي تفرض شروطها على الجميع سواء على الدول الإشتراكية سابقا أو على الدول النامية.


ولكن ما هو البديل، ألا ترى أن هناك أزمة من حيث الإنتاج النظري لإيجاد بدائل حقيقية؟

أمين: قطعا هناك أزمة في البدائل، ولكن بالرغم من ذلك فأنا متفائل لأن مبادئ البديل أو البدائل واضحة تماما، فالشعوب في حاجة إلى تقدم في ثلاثة مجالات تكمل بعضها البعض:
أولا، مزيد من الدمقرطة، وأنا أقول دمقرطة المجتمع، ولا يعني ذلك دمقرطة الإدارة السياسية من خلال الإعتراف بالتعددية السياسية والإيديولوجية فحسب، ولكن أيضا الإعتراف بالحقوق الاجتماعية للناس.
ثانيا، العمل على التقدم الاجتماعي بمعنى رفض إخضاع الجانب الاجتماعي لربحية رأس المال فقط، وأن يكون هناك تلازم بين التقدم الإقتصادي والتقدم الإجتماعي.
ثالثا، الإعتراف بحقوق القوميات، أوالأوطان أوالدول فلنسميها ما نشاء، والإعتراف بأن التبعية المتبادلة الحالية هي في واقع الأمر تبعية بين عناصر غير متكافئة، وبالتالي لايمكن أن تقوم على مبدأ عدم التقنين وانفتاح الأسواق للأقوى فقط.


ما هي العلاقة بين الديموقراطية والعولمة؟ هل هي علاقة تكامل أم تناقض؟

أمين: العلاقة بين العولمة الرأسمالية والديموقراطية علاقة تناقض وليس علاقة تكامل، في مرحلة ما كانت هذه العملية شكلية أكثر مما هي جوهرية، وبالفعل حصلت هناك تعددية سياسية وتم الإعتراف بها هنا وهناك، وأصبحت الانتخابات في بعض الأحيان أقل تزويراً مما كانت عليه في الماضي. هذا التقدم الديموقراطي المحدود لم يصاحبه تقدماً اجتماعياً، بل تفاقمت المشاكل الاجتماعية وتراجعت الديموقراطية وبدأت تفقد شرعيتها مما أدى مثلا إلى ظهور الإسلام السياسي وهو مناقض للديموقراطية.

اللبيرالية الجديدة رفعت التقنين وادعت أنها ستؤدي إلى الرفاهية ورفع معدلات النمو وتخفيف المشاكل الاجتماعية ولكن العكس هو الذي حصل، وبالتالي دخلنا في مرحلة "عسكرة العولمة" لأن الرأسمال لا يمكن أن يفرض هذا التحكم المطلق إلا من خلال الاعتماد على المزيد من الوسائل العسكرية ومن هنا دخلت الهيمنة الأمريكية.

الجانب الأقوى عند أمريكا في نظري هو الجانب العسكري وليس الجانب الاقتصادي، إذا نظرنا إلى ميزان التجارة الخارجية للولايات المتحدة بالنسبة لكل قطاعات الإنتاج، باستثناء القطاع المالي، كقطاع الصناعة التقليدية الثقيلة أوالصناعات التي نمت في المرحلة الفوردية كالسيارة وما إلى ذلك أوحتى الصناعات الحديثة القائمة على المعلوماتية والهندسة الوراثية، نجد أن ميزان التجارة الأمريكية يتجه لمزيد من العجز خلال العشرين سنة الأخيرة وليس فقط خلال حكم الرئيس جورج بوش الإبن.

وهذا معناه أن الولايات المتحدة لا تتمتع بميزة في المجال الاقتصادي مقارنة بأوربا الغربية واليابان وبعض بلدان أمريكا اللاتنية الكبرى فيما يخص الصناعات الخفيفة والصناعات التقليدية القديمة، وبالتالي فالولايات المتحدة تسعى إلى تعويض نقصها في المجال الاقتصادي بتوظيف قدراتها العسكرية. ولتنفيذ هذه الخطة اختارت منطقة الضربة الأولى وتمتد من البلقان إلى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى التي هي أيضا منطقة إسلامية.


وهذا ما يصل بنا إلى الحرب المحتملة على العراق؟

أمين: اختارت الولايات المتحدة هذه المنطقة، وأنا أقول لضربتها الأولى، لكي تمنع أوروبا وروسيا والصين والهند أي التجمعات الكبرى من أن تتكون وتنافسها في المستقبل عسكريا واقتصاديا. تهدف أمريكا إلى منع هذه القوى من التبلور كقوى مستقلة ، ولقد اختارت ضرب هذه المنطقة ليس لأنها تمثل العدو الرئيسي لأسباب ثقافية اوبسبب صراع الحضارات أو لكون الإسلام ينتج من تلقاء ذاته الإرهاب إلخ من هذا الكلام الفارغ، ولكن لأن هذه المنطقة هي الحلقة الضعيفة في المنظومة العالمية، بمعنى أنها هي المنطقة التي يمكن أن تُضرب دون أن يحدث رد فعل قوي.
الهدف من الهجوم الأمريكي على هذه المنطقة مزدوج، أولا لأنها منطقة بترول، والولايات المتحدة تريد السيطرة على الموارد النفطية على الصعيد العالمي وهذا ما سيعطي لها وسيلة ضغط على الأوروبيين وهؤلاء على علم تماما بأن ليس لهم مصلحة في الحرب على العراق، وحينما أتحدث عن الأوروبيين هنا أقصد بالتحديد فرنسا وألمانيا.

الهدف الثاني هو إنشاء قواعد عسكرية دائمة تعطي للولايات المتحدة وسيلة ضغط على أوروبا والهند والصين، إلا أننا دخلنا في بداية مرحلة رفض هذا المشروع، فهناك تقارب بين أوروبا وروسيا، لأن هذه الأخيرة دولة نفطية هامة وبالتالي يمكن لأوروبا أن تلجأ إلى البترول الروسي، ثم إن معظم التجارة الخارجية الروسية والاستثمارات الأجنبية فيها تأتي من أوروبا وليس من الولايات المتحدة.

أجرى الحوار حسن زنيند

يعتبر سمير أمين المصري الأصل من أبرز المفكرين على الصعيد الدولي المتخصصين في قضايا العالم الثالث والتنمية. درس الاقتصاد والعلوم السياسية في باريس. كتب أكثر من ثلاثين مؤلفا، ترجمت غالبيتها إلى لغات عديدة. اشتغل أمين في نهاية الخمسينات في وزارة الإقتصاد المصرية، ثم عمل مستشارا لحكومة مالي. وفي سنة 1970 أصبح مدير
Forum du Tiers Monde (ملتقى العالم الثالث) في داكار، كما يترأس منذ منتصف التسعينات Forum Mondial des Alternatives(الملتقى العالمي للبدائل)، الذي يقدم نفسه كبديل للملتقى الإقتصادي العالمي بدافوس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأرشيف مفهومه تاريخه أصنافه و إدارته

الاحتلال البريطاني للسودان

Art nouveau الفن الحديث