لـــغــة الريــاضيــات
يعتقد البعض أن هناك تباعدا بين الرياضيات واللغة مبنى على أن الرياضيات تتعامل مع الرموز والمجردات واللغة كما يقولون :" كل لفظ وضع لمعنى " . وأغلب الظن أن هذا التباعد مرده إلى وجود التباعد بين العاملين في مجال الرياضيات كمادة علمية وبين أهل اللغة أنفسهم ، حيث يعمل كل فريق بمعزل عن الآخر .
ونرى أن هناك علاقة وثيقة بين الرياضيات واللغة ، فكلاهما يعبر عن آليات الفرد الفكرية والوجدانية والإرادية ، فمن المستحيل تحليل أى صورة أو فكرة ذهنية إلى أجزائها أو خصائصها دون استخدام الألفاظ – وهى أداة اللغويين – أو دون استخدام الرموز - وهى أداة الرياضيين – فاللغة وعاء العلم وهى بهذا تمثل المادة الأساسية لعمليات التفكير لشتى صنوف المعرفة .
الرياضيات في اللغة :
مما لاشك فيه أن الرياضيات تستخدم في علوم اللغويات فهى تستخدم في بحوث تاريخ الأدب وفي تحقيق النصوص وما يترتب على ذلك من إحصائيات ، ويمكننا أن نورد مثالا على العلاقة بين الرياضيات واللغة وليكن " القوانين الصوتية " في اللغة والتي تعرف بأنها : المعيار الذى ينظم العلاقة بين الرموز الصوتية والتجاور بينها وارتباط بعضها ببعض أثناء تكون الوحدات اللغوية ،وما ينشأ عن هذه العلاقة من تماثل صوتى أو تغير أو تبادل أو حذف أو إضافة …….وإحدى هذه القوانين يعبر عنه بما يلى :
ص ح3 + ص ل3 + تاء الافتعال
= ت
ص : الصامت ، ح3 : الحركة القصيرة بالضمة ، ص ل3 : الواو
ولكن ماذا يعنى القانون السابق ؟ إنه يعنى : " إذا وقع صوت الواو الصامت بين صامت ملبوس بحركة قصيرة بالضمة وتاء الافتعال فإن الواو تنقلب إلى تاء صامتة . وهذا ليس القانون الوحيد فهناك قوانين أخرى لا مجال لذكرها وهذه القوانين ليست مفروضة بل هى قوانين مفسرة كما في الفيزياء والكيمياء وتخضع لأسس رياضية .
مثال آخر على هذه العلاقة فكرة ( الفائض ) والتي تعنى أنه في كل جملة ينطقها الإنسان فائضا من الكلمات لو حذفت أو حذف بعضها لا تعطل المعنى ولا قدرة السامع على فهم الرسالة التي تحملها الجملة وهذه الفكرة تعتمد على الاحتمالات عند تطبيقها على الجملة ، وبوجه خاص على احتمال وقوع كلمة في سياق لغوى معين فإذا عرفت الكلمات القليلة الأولى من جملة معينة يصبح بالإمكان معرفة الكلمة التالية - مع وجود احتمال يختلف مقداره من حالة إلى أخرى – بأن يكون التخمين صحيحا وهذه النظرية نظرية رياضية طبقها العلماء على اللغة وأوجدوا لها الحسابات الدقيقة التي أوضحت أن هناك علاقة وثيقة بين الفائض والفهم فكلما زادت نسبة الفائض سهل الفهم وزاد مقداره .
كما أن من الأشياء الطريفة ذات الصبغة التاريخية هى استعمال الأدباء الفرس حروف الهجاء الأبجدية لبيان العدد بالطريقة المستعملة نفسها في اللغة كما يلى :
وهذه الحروف هى : أبجد . هوز . حطى . كلمن . سعفن . ثخذ . ضظلغ .
والقيمة العددية بهذه الحروف هى كما يلى :
أ= 1 ، ب = 2 ، ج = 3 ، د = 4، هـ = 5 ، و = 6 ، ز = 7 ، ح = 8 ، ط = 9 ، ى = 10 ك = 20 ، ل = 30 ، م = 40 ، ن = 50 ، س = 60 ، ع = 70 ، ف = 80 ، ص 90 ق = 100 ،ر = 200 ، ش = 300 ، ت = 400 ، ث = 500 ، خ =600 ، ذ = 700 ، ض = 800 ، ظ = 900 ، غ = 1000
ويغلب استعمال هذه الحروف في تاريخ الأحداث المهمة ومن ذلك وضعوا عبارة " عدل مظفر " .
اللغة في الرياضيات :
تتميز الرياضيات بالمستوى العالى في التجريد ومن ثم فهى تستخدم الرموز بدلا من الألفاظ العادية فهى لغة قائمة على الرموز والقدرة على استخدام الرمز من الهبات التي ينفرد بها الإنسان ، ودراسة لغة الرياضيات التي تقوم على الرموز ،يمكن أن تسهم إسهاما فعالا في تحقيق أهدافها .
وتشترك اللغة والرياضيات في السعى إلى تحقيق ما وراء المعرفة ، كما يتجلى الوجود الحقيقى للغة في الرياضيات في المعنى الحقيقى للروابط بين اللغة والفكر ، حيث إن العلاقة أكبر من أن تكون مجرد احتكاك خارجي ، فالفكر والكلمة جسم واحد فلا يحدث فكر دون لغة ولا تحدث لغة ليس لذاتها فكرا .
واللغة للفكر كالأرقام للحساب ، فلا يمكننا تصور عملية حسابية دون أرقام -مع أن الحساب من حيث هو عملية عقلية – شىء والأرقام شىء آخر ، فإن جزءا كبيرا من تفكيرنا يجرى في ألفاظ فالكلام والكتابة يبلوران الألفاظ وينظمانها ، كما أن الألفاظ قد تعرقل التفكير إذا استخدمت بشكل ضبابى وبغير رصيد من الأفكار الصحيحة .
ومن الأشياء الطريفة التي تثبت التداخل بين اللغة والرياضيات وجود علاقة بين الرياضيات والشعر وهى ليست مجرد ارتباطات عديدة عقلية وفنية ، فسمو الشعر يرتكز على رمزية الشعر وعلى التكيف المتطرف في اقتصاد المدروس للكلمات وهذا بالضبط هو السبب في سمو الرياضيات عن بقية العلوم الأخرى ، فمثلا نقول : نعبر عن العدد سبعة بالرمز( 7 ) كما نقول : أن ( أ ) عدد …. وبهذا نكون قد كثفنا كل الرموز لكل الأعداد في رمز واحد وهذا هو الاقتصاد في الكلمات ، كما تقترب الرياضيات من الشعر في طريقة التنفيذ فإذا كان الشاعر يبذل جهدا كبيرا ويعانى عند بنائه القصيدة وكذلك الرياضي يعانى إذ لا يتوانى ولا يدخر جهدا في البحث عن طرق تؤدى إلى اختصار الحلول وتبسيطها ، كما لا ننسى الهندسة فالمهندس مثل الشاعر لا يحتاج إلا إلى الورقة والقلم ليساعداه في إخراج تخيلاته وإذا كان التخيل هو العنصر الأكثر أساسا في الفنون بصورة عامة وفي الشعر بخاصة فإن الرياضيات ابتكار التخيل .
خلاصة القول : إن الدارسين للغة يحتاجون إلى عقلية رياضية ليتمكنوا من دقائقها، كما أن دراسة الرياضيات لا يمكن أن تتم بمعزل عن دراسة اللغة إذ بدونها لا يمكن فهم المشكلات الرياضية ولذا ينبغي النظر بعين الاعتبار إلى صعوبة الفصل بين الرياضيات واللغة وهذا بدوره يدعونا إلى التنسيق بين رجالات اللغة ورجالات الرياضيات عند تصميم المناهج.
ويمكن تلخيص الصلة بين الرياضيات وفنون اللغة من زاوية الاقتراب بين التطبيقات التربوية فيما يلي:
*الاستخدام المباشر لبعض المهارات الرياضية في بعض فنون اللغة كما يحتمل أن تلجأ الرياضيات إلى بعض أساليب فنون اللغة في التماثل والدقة وطريقة التنفيذ .
*إن كلا منهما يساعد على تكوين معايير يبنى على أساسها الفرد أحكامه وتشكل ما يسمى بالذوق العام.
*إن كلا منهما يؤدى إلى الاستمتاع الحسي والعقلي والاجتماعي.
*إن كلا منهما يتصل بالخيال والقدرة على الخلق والابتكار.
وهكذا فيؤمل من معلمينا و معلماتنا أن يتفاعلوا مع هذه العلاقة المتداخلة والوطيدة بين الرياضيات واللغة العربية والسعى حثيثا إلى الاهتمام بالطريقة التكاملية عند التدريس وتنسيق الجهود بين معلمى المواد المختلفة حتىتكتمل المعرفة عند طلابنا .
ما هي حقيقة الرياضيات؟ وهل تجسّد الرياضيات الحقيقة الأبدية كما يقول الفيلسوف اليوناني أفلاطون؟ أم هي لغة الطبيعة كما يقول جاليلي، الذي اعتقد أن الطبيعة هي سِفر مكتوب بلغة الرياضيات؟ أم هي لعبة من صنع الإنسان، كما اعتقد آخرون؟
وإنك تجد الرياضيين الذين اهتموا بالإجابة عن هذه المسألة ينقسمون أيضاً حولها إلى ثلاثة أقسام، فمن قائل ان الرياضيات هي حقيقة مطلقة علوية، كونية، وتحمل صفة الصدق الأبدي. ومِن قائل إنها ما يوجد في الطبيعة من قوانين، وإن الإنسان لا يفعل سوى أن يكتشف هذه القوانين. ومِن قائل إنها من صنع الإنسان.
وينضم ديكارت إلى وجهة النظر الأولى، حيث رأى أن للرياضيات وجود موضوعي مستقل عن الطبيعة وعن الإنسان، وإن كانت تستمد شرعيتها من وصف الطبيعة واكتشاف قوانينها. ويؤيد جيمس جينس هذه النظرة ويقول إن المعماري العظيم الذي صنع الكون، قد بدأ يظهر الآن، وهو عالم رياضيات.
أما عالم الرياضيات الألماني كرونيكر، فيتحزب لأصحاب وجهة النظر الثالثة، فيقول في ثمانينيات القرن الماضي: إن الله قد صنع الأعداد الصحيحة، وما عدا ذلك فهو من صنع الإنسان. ويؤيده في ذلك برتراند راسل، نافيا أن تكون الرياضيات مستمدة من الطبيعة، بل بالعكس: إن قوانين الطبيعة هي رياضية، لأنها تعكس أفكارنا الذاتية على الطبيعة - يقول راسل.
وكما يختلف الكبار في مصدر الرياضيات أو طبيعتها، فإنهم يختلفون في ماهيتها أيضا. فإذا كنت تسأل ما هي الرياضيات؟ فإنك لن تجد الكثيرين ممن يسرعون في اعطاء الجواب.
ويصر أحد الكتّاب المعاصرين الذين قرأتهم مؤخرا:ً أن الرياضيات لا تعريف لها. ويقول هيلبرت مثلاً: إن الرياضيات لوحة مطرزة من الصيغ، التي يمكن خلقها من مجموعة من البديهيات الأولية، طبقاً لقوانين محددة (نظر مجلة الثقافة العالمية ـ الصادرة في الكويت، العدد 58، ص155). ولكن هذا التعريف من الشمول بحيث أنه يصلح تعريفاً للموسيقى أيضا.
أما البروفيسور مجيدور رئيس الجامعة العبرية، فيقول: الرياضيات هي نشاط فكري يقوم على استنتاج النتائج في الافتراضات. وهو تعريف واسع أيضاً، يكاد ينطبق على معظم العلوم.
وتذكر إحدى الموسوعات الرياضية الإنكليزية: أن الرياضيات هي دراسة الأشكال، التنظيمات، الكميات، والكثير من المفاهيم المتعلقة بها.
وللخروج من مأزق التعريف هذا، ترى جماعة بورباكي الفرنسية، أن الرياضيات هي نشاط إنساني مثله مثل غيره، ولو سئلنا ما هي الرياضيات، فلا ينبغي أن تقول أكثر من أنها نتاج العمل الذي يقوم به علماء الرياضيات.
ويكتب هوجين مؤلف كتاب الرياضيات للمليون: أن الرياضيات هي لغة الكميات، وأن قوانين الرياضيات لا تختلف كثيراً عن قواعد اللغة. ومثل قواعد اللغة، ينبغي للمرء الذي ينتمي لثقافة متقدمة كثقافتنا أن يتعلمها. ولا تملك هذه القواعد، سواء أكانت قواعد الرياضيات أم قواعد اللغة، الصدق أو الحقيقة الأبدية التي توصف بها عادة، بل هي قواعد متفق عليها فحسب. فبدون قوانين تنظيم السير ما كان السائقون يستطيعون السير في الشارع. وإذا كانت لغة الرياضيات صعبة، فلأن قوانينها ينبغي أن تدرَّس. فكذلك قوانين السير صعبة على مَن لم يتعلمها، وليس بسبب أن الرياضيات غريبة على الإنسان. وكما في اللغة، إذ يكون عليك أن تتعلم الكثير قبل أن تصبح قادراً على قراءة جريدة، كذلك في الرياضيات، وكما أن التلفظ ببعض العبارات الأجنبية ليست دليلاً على ثقافة اجتماعية واسعة، كذلك فإن معرفة سطحية لقوانين الرياضيات لا تخوّلنا الانضمام إلى هذا النادي الكبير الذي هو نادي الرياضيات. فالثقافة الرياضية هي القدرة على استعمال لغة الرياضيات، في الأنظمة الحياتية .
هذا ملخص رأي هوجين. وإذ سُمح لي أن أدلي برأيي بهذا الصدد أقول: إن الرياضيات هي نتاج بشري صحيح، ولكنها رهن بالشرط البشري. أي أنها ليست نزوة أو رفاهية فردية أو جماعية، يقوم بها علماء الرياضيات، فالتفكير الرياضي يجاري حقيقة الطبيعة، ويرصدها ويحاول تفسيرها ووضعها في نظم وقوانين، وهي ليست مجرد قانون قواعدي، كما يقول مؤلف كتاب الرياضيات للمليون، بل هي تجربة حِسيَّة نتلقاها من الطبيعة و 2= 1 +1 ليس لأننا اتفقنا هكذا، كما اتفقنا أن جمع كلمة كتاب هي كُتب، بل لأننا نعيش في عالم فيه يتحقق 2=1 +1 .
وربما كان غيرنا في عالم غير عالمنا، يعيش في عالم فيه لا يتحقق فيه 2= 1+1 ، لأنه كلما التقى شخص مع شخص آخر ، اختفى الإثنان، أما في عالمنا فهما لا يختفيان، بل يبقيان كتجربة حسية ماثلة للعيان.
ثم إن توافق الرياضيات مع ظواهر الطبيعة ليس صدفياً، فنحن نتاج الطبيعة، وتنمو أجسامنا وعقولنا كما تنمو الشجرة في الغابة. يقول تسفي يناي في كتابه "البحث عن اللانهاية": إن العلاقة الوثيقة بين الطبيعة والرياضيات عجيبة بحد ذاتها. ففي نهاية الأمر، صُنعت الرياضيات في رؤوسنا، وهي مشغولة أساساً في منطقها الداخلي، فمن أين هذا التوافق البديع بينها وبين ظواهر الطبيعة؟
ويضرب يناي لذلك مثالاً على هذا التوافق بين الرياضيات والطبيعة من عالم الأحياء. فذكر الذباب يستطيع تلقيح عدد كبير من الإناث، في موسم التلقيح، ولكنه إذا فعل ذلك مع كثير من الإناث، فإن الأبناء المولودين قد لا يكونون أولاده، ولكنه إذا اكتفى بأنثى واحدة فقط، فإنه سيضمن أن يكون أبناؤها أبناءه أيضاً، ولكنه سيفوِّت على نفسه الفرصة أن يكون أباً لأبناء آخرين. وهذا تناقض مرير يقع فيه الذكر. ما هو أقصر وقت مطلوب لأن يبقى الذكر الواحد فوق الأنثى الواحدة، لكي يضمن لنفسه أبناءها؟ ومن ثم يطير إلى أنثى أخرى؟ لا يعرف ذكور الذباب الحساب، ولم يتعلموه في المدرسة، ولكن العلماء حسبوا ووجدوا أن هذا ينبغي أن يكون41 دقيقة على الأقل، ويا للمفاجأة، فقد كان الوقت الذي يقضيه ذكور الذباب هو 36 دقيقة!
وأخيراً فإن لدي كلمة أقولها بالنسبة لمصدر الرياضيات، ويُخيَّل إلي أن الرياضيات هي تزاوج بين نوعين مختلفين من الكائنات: الأعداد من ناحية، والأشكال الهندسية من ناحية أخرى، وقد نفذت الأشكال الهندسية إلى التجربة الإنسانية من خلال اهتمامين رئيسيين، هما الزراعة والبناء. أما الأعداد فقد خلقها الله كما يقول كرونيكر.
والتزاوج العجيب هذا هو مركب الرياضيات البديع. فالأعداد والمجموعات والدوال والقوائم اتخذت صوراً هندسية وأشكالاً، وهذه الأخيرة لبست لبوس الأعداد والكميات.
0 تعليقات