الخطابة الشعرية وفن الشعر


الخطابة الشعرية
وفن الشعر



1 - الصعوبات والإجراءات

1.1 - الصعوبات:

واجهت قراءة فن الشعر لأرسطو في البيئة العربية صعوبات كبيرة كان من أهم أسبابها اختلاف المرجعيتين. ففي حين كان أرسطو ينظر للمحاكاة في التراجيديا بصورة أساسية(2) كان الشعر العربي شعرا غنائيا على وجه الإجمال. وشتان ما بين الجماليتين. ففي حين تعتمد المحاكاة في التراجيديا، كما هو معلوم، على حركة الممثلين على خشبة المسرح فإن الشعر الغنائي يعتمد على التمثيل باللغة نفسها. فإن عدا الشاعر ذلك استعان ببعض الأخبار والحكايات التي لا تسمو إلى مستوى البناء الدرامي للتراجيديا. وقد لاحظ الجيل الثاني من القراء (الشراح) هذا النقص في شمول النظرية فقال ابن سينا: "والشعر اليوناني إنما كان يقصد، فيه في أكثر الأمر، محاكاة الافعال والأحوال لا غير، وأما الذوات فلم يكونوا يشتغلون بمحاكاتها أصلا كاشتغال العرب(3)". ويضيف مبينا اختلاف الوظيفتين:

"كانت [ أي العرب ] تشبه كل شيء لتعجب بحسن التشبيه، وأما اليونانيون فكانوا يقصدون أن يحثوا بالقول على الفعل، وتارة كانوا يفعلون ذلك عن سبيل الخطابة، وتارة عن سبيل الشعر. فلذلك كانت المحاكاة الشعرية عندهم مقصورة على الأفاعيل والأحوال، والذوات من حيث لها تلك الأفاعيل والأحوال…"

ومن هنا خلصوا إلى أن الحكيم أرسطو لو اطلع على ما في شعر العرب من معان وأمثال وحكم لأضاف إلى كتابه فصلا جديدا(4).

كان سيهون من اختلاف المرجعيتين أن تكون للقارئ العربي معرفة جيدة بمرجعية المنقول عنه والمنقول له فيجتهد في الملاءمة أو ينحث مجرى جديدا للمنقول من خلال نصوصه نفسها. غير أن هذه المعرفة تبدو ضئيلة عند القارئ العربي مترجما وملخصا. وليس ذلك لكونه ينقل عن واسطة (السريانية) نصوصا تنظيرية مفصولة عن النصوص الإبداعية التي ولدتها فحسب، بل يرجع جانب من الأمر إلى عدم استيعاب القارئ العربي (الفيلسوف) في أول الأمر للثقافة العربية لغة وبلاغة. الشيء الذي تدورك فيما بعد مع الفارابي وابن سيناء وابن رشد على الخصوص.

لاشك أن قضية المعرفة قد خلقت متاعب للمترجمين ولمن يريد الاستفادة من ترجماتهم في وقت مبكر، أي منذ المحاولات الأولى. نجد أصداء ذلك في كتاب الحيوان للجاحظ المتوفى سنة 225 هـ يقول:

"ولا بد للترجمان أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة"(5).

ومن هنا يتساءل باستغراب كيف يمكن لتراجمة أرسطو أن يؤدوا معانيه ودقائق مراميه خاصة حين يتعلق الأمر بالقول الدائر حول الشعر.

"إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قاله الحكيم عن خصائص معانيه (أي الشعر). وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل ويجب على الجري.

وكيف يقدر على أدائها، وتسليم معانيها، والإخبار عنها على حقها وصدقها إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه.

فمتى كان -رحمه الله تعالى- ابن البطريق وابن ناعمة وابن قرة وابن فهريز وابن تيفيل وابن هيلي وابن المقفع مثل أرسطاطاليس، ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟!"(6).

وهذا الكلام صلة لحديثه عن تعذر ترجمة الشعر نفسه بسبب ما تؤدي إليه الترجمة من بطلان معجزته وهي الوزن.

ولقد تجلى هذا العيب المعرفي أحسن تجل في ترجمة متى بن يونس وغيره لكتاب فن الشعر بوجه خاص ومثير للأسئلة. وهكذا صارت الحاجة ماسة إلى ترجمة أخرى تقوم على الإقصاء والإضافة. أي الترجمة الحضارية كما يحلو لي أن أسميها: ترجمة المفاهيم الكبرى أو تكبيرها وتشميل المعاني القابلة المعاني القابلة للتعميم على أكثر من حضارة. وهذه مهمة لا يضطلع بإنجازها إلا من رشحهم الجاحظ للترجمة، أي أكابر العلماء الذين يسامقون المترجم عنهم أو يقاربونهم، هؤلاء الذين يعبرون عن الواقع وعن أنفسهم بما يشبه قول المعلم الثاني (أبي نصر الفارابي) في مقدمته:

"إن الحكيم لم يكمل القول في صناعة المغالطة فضلا عن القول في صناعة الشعر، وذلك أنه لم يجد لمن تقدمه أصولا ولا قوانين حتى كان يأخذها ويرتبها ويبني عليها ويعطيها حقها…"(7).

في هذا السياق يعود الجيل الثاني وما بعده من الفلاسفة إلى الترجمات الأولى والمقدمات العامة التي وضعها الفلاسفة الرواد، مثل الفارابي، اعتمادا على مادة متنوعة، يستنطقونها بمحضر طرفين فاعلين: أولهما ثقافة فلسفية متنوعة، خاصة في المنطق والمعرفة بالنفس البشرية في ضوء الفلسفة الأرسطية مع اعتبار كتاب فن الشعر جزءا من المنطق إلى جانب فن الخطابة الذي فهم جيدا لاتصاله بالخطابة والتخاطب والإقناع فترجم ولخص وشرح بيسر ودقة، وثانيهما الرصيد الثقافي العربي في مجال البلاغة والعروض بوجه خاص، مع اطلاع واسع على الشعر العربي كما نجد بوجه يثير الإعجاب عند ابن رشد، ثم عند ابن حزم.

في ضوء هذه الثقافة انطلقت عملية الترجمة الثانية، أو الترجمة الحضارية من خلال إجرائين: البحث عن القوانين الكلية، وتحويل المركز.

1.2 - البحث عن القوانين والكليات:

إذا نظرنا في عمل الفارابي (المعلم الثاني) -وقد لعب دور الموجه لمن جاء بعده، كما سلف- وعمل ابن رشد، وقد تجلى عنده ما كمن عند غيره، وكذا مقدمة ابن سينا والقسم الأول من تلخيصه، نجد أن هذه الأعمال صريحة فيما تهدف إليه، وهو:

1.3-تخليص عمل أرسطو من الخصوصيات المحلية العائدة إلى عادات اليونانيين في أدبهم (خاصة الحديث عن الأجناس الأدبية وبنياتها)، وتخليصه من الأمثلة اليونانية سواء عوضت بأمثلة عربية أو لم تعوض. (يقتصر ابن سينا أحيانا على القول: ّوذكر أمثلة"(8)). وهذا الصنيع هو ما يجعل هذه الأعمال تسمى تلخيصات.

2.3-بسط المفاهيم الكلية وإمدادها بالأمثلة العربية، وهذا مبرر نعت هذه الأعمال أحيانا بالشروح. وقد يسوغ أن ندعوها شروحا مقارنة. لقد وضعت هذه التلخيصات الشروح، رغم صعوبات الإنجاز أو استحالته ضمن السؤال البلاغي القديم الجديد، سؤال القواعد أو القوانين الكلية المشتركة. إنه سؤال صعب في حد ذاته، ويكاد يكون مستحيلا في إطار التقيد بنص آخر ومحاذاته. ولم يكن هذا السؤال مجرد إنتاج نزعة فلسفية مهيمنة على أذهان هؤلاء الفلاسفة الطامحين لضبط الكون من السماء (الله) إلى الأرض (الإنسان)، بل كان سؤالا منهاجيا عرفه عصر التأليف أيضا، يدخل ضمن نسق فكري يجعل دقة النحو والعروض والصرف قدوة.

ولذلك نجد الكتب الأولى في النقد والبلاغة تعتصر همها في عناوين مثل: "قواعد الشعر" و"معيار الشعر" و"الصناعتين" وصولا إلى البحث في "أسرار البلاغة" و"سر الفصاحة" على غرار "الخصائص" و"سر صناعة الإعراب".

إن هذا التوجه ليس مما نستخلصه من الملابسات فهو صريح في المقدمات والشروح الدائرة حول كتاب فن الشعر، يقول الفارابي في خاتمة مقدمته: (مقالة في قوانين صناعة الشعراء):

"فهذه قوانين كلية ينتفع بها في إحاطة العلم بصناعة الشعراء، ويمكن استقصاء القول في كثير منها، إلا أن استقصاء القول يذهب بالإنسان في نوع واحد من الصناعة، وفي وجهة واحدة"(9).

وهو إنما كان يهدف منذ البداية إلى "إثبات أقاويل وذكر معان تفضي بمن عرفها إلى الوقوف على ما أثبته الحكيم في صناعة الشعر وترتيبها.."(10).

والمرجع النظري الفلسفي للوقوف عند الكليات الشعرية -بقطع النظر عن الاعتبار العلمي المذكور- هو اعتبار الشعر نوعا من القياس المنطقي أو ما يشبه القياس المنطقي.

"وهو (أي الشعر) يرجع إلى نوع من أنواع السولوجسموس أو ما يتبع السولوجسموس-وأعني بقولي ما يتبعه: الاستقراء والمثال والفراسة وما أشبهها مما له قوة القياس"(11). لقد اطلع ابن رشد على عمل الفارابي وأشار إليه أكثر من مرة، وعمق هذا النهج نظرا وتطبيقا، قائلا:

"الغرض من هذا القول تلخيص ما في كتاب أرسطاطاليس في الشعر من القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر.."(12).

وهذا القدر المشترك يدخل بالنسبة لابن رشد أيضا ضمن هموم المنطق. فقد تحدث في بداية المقالة الثالثة من تلخيص الخطابة عن مكونات الخطاب الإقناعي ومنها الأسلوب أو تركيب الألفاظ ثم قال: "الذي يعبر عنه الجمهور باسم الفصاحة. فإن هذا الاسم يطلق عندهم على أحوال ثلاثة في الألفاظ: أحدها -وهو الأملك لهذا المعنى- أن تكون الألفاظ جيدة الإفهام والإبانة للمعاني. والثاني أن تكون لذيذة المسموع. والثالث أن تعطي في المعنى رفعة أو خسة.

فلهذا كان النظر ضروريا لصاحب المنطق في الألفاظ الخطبية، لكن ليس ينظر منها في الأحوال الخاصة بأمة، بل إنما ينظر من ذلك في الأحوال المشتركة لجميع الأمم. ولهذا كان النظر فيها جزءا من صناعة المنطق. وأما النظر من ذلك فيما يخص أمة أمة فمن شأن الخطيب المنصوب في أمة أمة".

ويعبر ابن سينا عن الهم نفسه في مقدمته الخاصة، التي بناها على غرار مقدمة الفارابي بقوله: "فصل في الشعر مطلقا، وأصناف الصيغ الشعرية، وأصناف الأشعار اليونانية"(13).

ثم يقول في بداية التلخيص: "فصل في أصناف الأغراض الكلية والمحاكيات الكلية التي للشعر"(14).

ويقول بعده:

"والآن (أي بعد المقدمة) فإننا نعبر عن القدر الذي أمكن فهمه من التعليم الأول، إذ أكثر ما فيه اقتصاص أشعار ورسوم كانت خاصة بهم، ومتعارفة بينهم"(15).

لقد كان واضحا في ذهن ابن رشد الطابع التوفيقي لعمله، وهو يقوم على عملية إرجاع تلك (أي ما شعر به العرب من قوانين) إلى هذه، أي ما ورد في كتاب الشعر والخطابة لأرسطو) يقول:

"وأنت تتبين، إذا وقعت على ما كتبناه هاهنا، أن ما شعر به أهل لساننا من القوانين الشعرية بالإضافة إلى ما في كتاب أرسطو، وفي كتاب الخطابة نزر يسير، كما يقول أبو نصر، وليس يخفى عليك أيضا كيف ترجع تلك القوانين إلى هذه"(16).

لهذا نجد ابن رشد يستحضر، على مدار شرحه، طرفين: غائب يحكي عنه، ومستحضر يخاطبه، الأول يحضر من خلال فعل: "قال" والثاني يحضر من خلال ضمير المخاطب "أنت". نورد هنا فقرة من كلامه يتحدث فيها عن المطابقة، وهي حالة الحياد بين المديح والهجاء، الحياد المرشح لأن يصبح: + أو -."قال (أي أرسطو): وهذه كانت طريقة أوميروش، أعني أنه كان يأتي في تشبيهاته بالمطابقة والزيادة المحسنة والمقبحة.

"ومن الشعراء من إجادته إنما هي في المطابقة فقط، ومنهم إجادته في التحسين والتقبيح، ومنهم من جمع الأمرين مثل أوميروش. وتمثل في كل صنف من هؤلاء بأصناف من الشعراء كانوا مشهورين في مدنهم وسياستهم باستعمال صنف من هذه التشبيهات الثلاثة (المحسنة والمقبحة والمطابقة). وأنت فليس يعسر عليك وجود مثالات ذلك في أشعار العرب، وإن كانت أكثر أشعار العرب إنما هي -كما يقول أبو نصر- في النهم والكريه… وأما الصنف من الأشعار الذي المقصود به المطابقة فقط فهو موجود كثيرا في أشعارهم. ولذلك يصفون الجمادات والحيوانات والنبات. وأما اليونانيون فلم يكونوا يقولون أكثر ذلك شعرا إلا وهو موجه نحو الفضيلة أو الكف عن الرذيلة، أو ما يفيد أدبا من الآداب أو معرفة من المعارف"(17).

2 - تطبيق: نموذجان:

1.2-ثنائية المدح والهجاء:

ضمن هموم البحث عن الكليات دخل مفهوما المديح والهجاء عمل المترجمين، وهم فلاسفة، ثم عمل الملخصين الشراح. ونظرا لأن هذا التوجه قد اعتبر عند كثير من الدارسين المحدثين مجرد سوء فهم حال دون التعامل السليم مع كتاب أرسطو فإننا نقدم هنا مفهوم ابن رشد للمديح والهجاء، باعتباره بلورة لما طمح إليه من قبله:

انطلق ابن رشد من ثنائية منطقية بسيطة: الإيجاب والسلب، أو النفي والإثبات في إطار تأويل وتحوير لحديث أرسطو عن أنواع المحاكاة، لينتهي إلى المديح باعتباره إثباتا، والهجاء باعتباره سلبا:

"فكل شعر، وكل قول شعري، فهو إما هجاء وإما مديح وذلك بين، باستقراء الأشعار، وبخاصة الأشعار التي تكون في الأمور الإرادية، أعني الحسنة والقبيحة"(18).

"والإرادية" هنا أقرب إلى "القصدية" منها إلى "الدالة". وهذا التصور ليس خاصا بالشعر، بل حاله فيه كـ "الحال في الصنائع المحاكية لصناعة الشعر التي هي الضرب على العيدان، والزمر والرقص…"(19) وتلافيا لكل لبس يوضح ذلك بقوله:

أعني "بصناعة المديح" مديح الأفعال الجملية، وأعني بـ "صناعة الهجاء" هجاء الأفعال القبيحة"(20).

وقد يوجد بين المفهومين (مفهوم الإيجاب ومفهوم السلب) مفهوم ثالث سماه، كما سماه ابن سينا، مطابقة، وجعله، كما جعله ابن سينا(21)، بعيدا عن النص الأرسطي، مهيأ للميل نحو التحسين أو التقبيح اعتمادا على إضافات وقرائن. وبذلك يبقي تصور الفلاسفة العرب على ثنائية التحسين والتقبيح، المدح والهجاء، صريحة أو عبر قرائن. وهذا ما جعل ابن رشد يعتقد، في الأخير، أن ما لم يصل من كتاب أرسطو يمكن أن يفهم من خلال ما وصل، إذ بضدها تتميز الأشياء:

"والذي نقص مما هو مشترك (بين الأمم) هو التكلم في صناعة الهجاء. لكن يشبه أن يكون الوقوف على ذلك بقرب من الأشياء التي قيلت في باب المديح، إذ كانت الأضداد يعرف بعضها من بعض"(22).

إن هذا التصور ليس طفرة في فراغ، ذلك أن من البلاغيين الذين عاشوا قبل ابن رشد بحوالي ثلاثة قرون، وتأثروا بأرسطو على نحو متفاوت، من نزع نحو محورة الأغراض حول محاور محدودة كان المديح والهجاء على رأسها. نجد ذلك عند قدامة بن جعفر (ت.337) الذي أعاد الرثاء إلى المديح، مع إشارة زمنية، وأحال في معرفة الهجاء على نقائض ما قيل في المديح. قال بخصوص الرثاء:

"إنه ليس بين المرثية والمدحية فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك"(23).

وقال بخصوص الهجاء:

"إنه قد سهل السبيل إلى معرفة وجه الهجاء وطريقته ما تقدم من قولنا في باب المديح وأسبابه، إذ الهجاء ضد المديح"(24).

وقد حرص قدامة على إبراز جانب المطابقة، دون تصريح أو تأطير نظرية، من خلال إبراز غرضين غريبين هنا الوصف والتشبيه. قال في نعت الوصف ذاكرا المحاكاة:

"الوصف إنما هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات، ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني كان أحسنهم وصفا من أتى في شعره بأكثر المعاني التي الموصوف مركب منها، ثم بأظهرها فيه وأولاها، حتى يحكيه بشعره، ويمثله للحس بنعته"(25).

فهذا مفهوم المطابقة عند الفلاسفة، أو مفهوم تصوير الناس كما هم، عند أرسطو(26).

إن الصعوبة -كما سبق أن ذكرنا- تكمن في تنمية هذا المفهوم العام في إطار مسايرة عمل بني في إطار بنيوي أولا. فسيكون حال المنظر في إطار الترجمة كحال من يرقص في الأغلال. لقد أحسسنا بهذا ونحن ننتقل من المقدمات والملاحظات العامة إلى تتبع تفاصيل كلام أرسطو عن التراجيديا.

فالحديث عن المدح والهجاء باعتبارهما تحسينا وتقبيحا هو حديث عن الوظيفة أو الغرض، في حين كان أرسطو يتحدث عن البناء السردي الدرامي للتراجيديا.

ويبدو أن صمود هذا المفهوم، رغم صعوبة تأويل كل التفاصيل في اتجاهه راجع إلى أمرين:

1 - تناول أرسطو للمدح والذم في فن الخطابة باعتبارهما قطبين تلتف حولهما قيم الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة في مفهوم عام: السعادة واللذة. ("نتكلم في الفضيلة والرذيلة.. وفي الحسن والقبيح لأنها غرض من يمدح ومن يوبخ"(27).) وقد فهم الملخصون قصده هناك وقدموه بدقة واستعانوا به في تجريد مفهوم المدح والذم في فن الشعر، يساعدهم في ذلك:

2 - حديث أرسطو عن نشأة الكوميديا والتراجيديا، عن محاكاة الفضل أو الرداءة من طرف نفوس أميل إلى الفضل أو الرداءة:

"لقد انقسم الشعر وفقا لطباع الشعراء فذوو النفوس النبيلة حاكوا الفعال النبيلة وأعمال الفضلاء، وذوو النفوس الخبيثة حاكوا فعال الأدنياء فأنشأوا الأهاجي"(28).

تبعا للعنصرين السابقين نجد حديث الفضيلة والرذيلة حاضرا في تلخيص فن الشعر أكثر مما هو عليه في النص الأرسطي، بل نجده بلفظه الصريح المستعمل في الخطابة. يمكن ملاحظة ذلك بمقارنة حديث أرسطو السابق بكلام ابن سينا الدائر حوله، يقول ابن سينا:

"وانبعثت الشعرية منهم بحسب غريزتهم كل واحد منهم وقريحته في خاصة خلقه وعاداته، فمن كان منهم أعف مال إلى المحاكاة بالأفعال الجميلة وبما شاكلها، ومن كان منهم أخس نفسا مال إلى الهجاء، وذلك حين هجوا الأشرار، ثم كانوا إذا هجوا الأشرار بانفرادهم يصيرون إلى ذكر المحاسن والممادح لتصير الرذائل بإزائها أقبح"(29).

بل انظر كيف يتردد لفظ الفضائل في قول ابن سينا:

"قال: إلا أنه ليس لنا أن نسلم ذكر الفضائل في الشعر لأحد قبل أوميرس، وقبل أن بسط هو الكلام في ذكر الفضائل. ولا ننكر أن يكون آخرون قد قرضوا الشعر بالفضائل ولكن أوميرس هو الأول"(30).

والذي في كلا أرسطو هو:

"ولسنا نعرف لأسلاف هوميروس قصيدة من هذا النوع، وإن كان من المظنون أن كثيرين أنشأوا القصائد"(31).

إن الإلحاح على الفضيلة يشير إلى إحلال المضمون والغرض المقام الأول الشيء الذي ساعد ابن رشد فيما بعد على حسم التردد في ترجمة التراجيديا والكوميديا بين المدح والهجاء والاحتفاظ بلفظ طراغوديا وقوميديا لصالح الاختيار الأول. الاختيار البنائي الفني في إطار المحاكاة.

2.2-التعرف والاستدلال

حين نتبع لحظات انطلاق ابن رشد في التأنيس والتبييئ، ولحظات الانحسار والوقوف عند الأصل وأمثلته، نجد أن لذلك علاقة بمدى وضوح الأساس المشترك بين المجالين؛ أو القانون الكلي، أو عدم وضوحه، وقد أثار انتباهنا في هذا الصدد تنميته للفصول، بل حتى للملاحظات العابرة، التي تتصل بالتعرف والتجسيد أو التصوير.

إن مفهوم التصوير الذي ينصرف عند أرسطو إلى رسم الشخصيات والأحداث هو نفس النعت الذي استعملته البلاغة العربية للدلالة على أثر الصناعة اللسانية في تشكيل المعنى عن طريق المعطيات التجسدية والموسيقية بل والتركيبية النظمية، حيث تصير صيغة الكلام التي دعيت لفظا حينا وصورة حينا آخر -وليس معناه المجرد- موضع النظر والاعتبار. فمنذ الجاحظ مرورا بقدامة وصولا إلى عبد القاهر الجرجاني ونحن نلتقي بالعبارة الصريحة في اعتبار الشعر تصويرا وصناعة، ناهيك عن التعابير المجازية الاستعارية في التعبير عن صور مختلفة صوتية ودلالية ونظمية مثل السبك والتطريز والترصيع… الخ أضف إلى ذلك حديث أرسطو في فن الخطابة عن التصوير والإخراج إلى المشاهدة. إن هذا الرصيد المحيط بقراءة كتاب أرسطو جعل كل حديث له عن تصوير الشخصيات وتمثل الأحداث وتمثيلها يجد مقابلا لسانيا في الشعر العربي.

ومثل التصوير التعرف أو الاستدلال كما ترجمه القدماء. فكل نشاط تعبيري إنساني هو عبارة عن دال يقتضي دلالة. ويبدو لي أن هذا المفهوم هو الذي حدا بهم إلى استعمال كلمة استدلال: أي الاستدلال بالدال على المدلول، والتعرف عليه من خلاله. ويقوى هذا المفهوم حين نعرف موقف الفلاسفة، وخاصة ابن رشد، من قضية الدلالة الشعرية. فهم لا يطلبون أن تكون للشعر دلالة أية دلالة، بل يقتضون دلالة إيجابية. وحين نتحدث عن الدلالة هنا لا نتحدث في المستوى اللغوي البسيط بل نتحدث في مستوى الدلالة الحكائية الإيحائية أو التخييلية: ما يخيله الشعر. ومع ذلك يمكن أيضا أخذ الدلالة المنطقية والمضمونية بعين الاعتبار، ما دامت مقاصد الشعر العربي في أغلبها واضحة. وهذا مجرد عنصر مساعد، لأنه خارجي بالنظر إلى ما يحدث في المستوى الحكائي والتخييلي.

إن انتماء الاستدلال والتصوير إلى النشاط التعبيري اللغوي كلا أو جزءا هو الذي سهل إيجاد مجال تطبيقي من الشعر العربي للمفاهيم الأرسطية التي بدت من خصوصيات البناء السردي الدرامي. وسنحاول فحص هذه القضية من خلال قراءة ابن رشد للفصلين 16 و 17 من فن الشعر. الفصل 16 مخصص لأنواع التعرف (وقد سبق تعريفه، في الفصل 11). والفصل 17 مخصص لتصور الشخصيات والأحداث وتصويرها. سنلاحظ كيف اعتبر ابن سناء التصوير جزءا من الاستدلال جاعلا الفصل 17 امتدادا للفصل 16.

عرف أرسطو، كما سبق، التعرف في الفصل 11 بقوله:

"التعرف كما يدل عليه اسمه، انتقال من الجهل إلى المعرفة، يؤدي إلى الانتقال إما من الكراهية إلى المحبة أو من المحبة إلى الكراهية.. وأجمل أنواع التعرف التعرف المصحوب بالتحول"(32). أي التعرف الذي يدخل في نسيج الحكاية ويرتبط بتكشف جوانب الحدث لأنه في هذه الحالة يبدو طبيعيا. وأدنى صور التعرف التعرف المصطنع مثل حمل الشخصيات علامات مميزة أو القيام بحركة أو قول دال على الهوية أو الفعل بشكل مصطنع يرتبه الشاعر. وعلى الأساس هذا ذكر أرسطو خمسة أنواع من التعرف:

1-"التعرف بالعلامات الخارجية" مثل حمل شارة "وهو أبعد أنواعه عن الفن"(33).

2-التعرفات التي يرتبها الشاعر، ولهذا تكون بعيدة عن الفن، حيث تقول الشخصية "مايريد الشاعر أن يقوله لا ما تقوله الحكاية"(34).

3-التعرف الذي يتم بالذاكرة "وذلك حينما نتعرف شيئا عندما نراه فنتذكره"(35)

4-"التعرف عن طريق القياس" :"أتى رجل يشبهني، ولا يشبهني غير أورسطس"، إذن: أورسطس هو القادم".

5-التعرف عن طريق "خطأ استدلال الجمهور"(36) نتيجة مبالغةمن الشاعر كأن نصدق ادعاءه أن البطل هو وحده الذي استطاع شد القوس.

"وأفضل أنواع التعرف (عند أرسطو) هو الذي يستنتج من الوقائع نفسها حينما تقع الدهشة عن طريق الحوادث المحتملة… وذلك لأن التعرفات التي من هذا النوع هي وحدها التي تستغني عن الحيل الصناعية والعلامات والعقود، وتتلوها في المرتبة التعرفات القائمة على القياس"(37). إن التعرف بالنسبة لأرسطو وسيلة من وسائل البناء الحدثي في التراجيديا يجري بين الشخصيات، وبينها وبين الجمهور.

انطلاقا من الجذر العام المشترك: العلاقة بين الدال والمدلول، قابل ابن رشد بين أنواع التعرف عند أرسطو وبين صور بلاغية عربية من التمثيل والتشبيه والاستعارة، وصور لم تدخل في سجلات الصور البلاغية الجزئية مثل تصوير الأحداث مما يدخل في أغراض الشعر: الوصف.

قابل النوع الأول والثاني بتشبيه محسوس بمحسوس وتشبيه معنى بمحسوس أو حسب عبارته "محاكاة أشياء محسوسة بأشياء محسوسة" و"محاكاة أمور معنوية بأمور محسوسة"(38).

ولعله هنا إلى الاستدلال على الشخص -في المثال الأول- بعلامة يحملها على لباسه أو جسده، فقاس عليها دلالة المحسوس باعتباره علامة تدل على محسوس أو غير محسوس. ثم عمم الحكم على الصنف الثاني الذي هو أكثر غموضا بالقياس إلى مقابله. يبدو أن مفهوم العلامة الحسية هو الذي جعل ابن رشد يغفل استعارة معنوي لمحسوس أو معنوي لمعنوي. كما يمكن أن يفسر بطبيعة الشعر العربي الذي يهيمن عليه التصوير الحسي. وهذا أمر صريح عند ابن رشد فقد علق على النوع الأول بقوله: "وجل تشبيهات العرب راجعة إلى هذا الموضع"، وعلق على الثاني بقوله: "وهذا كثير في أشعار العرب"(39).

ولم يجد صعوبة في تأويل النوع الثالث، بل وجد فيه فرصة لتنظيم مادة هامة كما ونوعا من الشعر العربي، تتعلق بالتذكر في الرثاء والغزل والنسيب والوقوف على الأطلال، فاعتبر ذلك محاكاة تقع بالتذكر: "وذلك أن يورد الشاعر شيئا ثم يتذكر به شيئا آخر، مثل أن يرى إنسان خط إنسان فيتذكره فيحزن عليه إن كان ميتا أو يتشوق إليه إن كان حيا"(40).

هذا المفهوم جدير بأن يستوعب علاقات التلازم والملابسة الكنائية والمجازية في مجال رمزي فسيح يستوعب الجملة ويمتد إلى النص.

قال ابن رشد: "وهذا موجود في أشعار العرب كثيرا"(41)، و"من هذا الموضع تذكر الأحبة بالديار والأطلال"(42). "ويقرب من هذا الموضع ما جرت به عادة العرب من تذكر الأحبة بالخيال وإقامته مقام المتخيل… وتصرف العرب والمحدثين في الخيال متفنن وأنحاء استعمالهم له كثير. ولذلك يشبه أن يكون من المواضع الشعرية الخاصة بالنسيب، وقد يدخل في الرثاء"(43).

من الأمثلة التي يستحضرها ابن رشد لتجسيد غرضه قول متمم بن نويرة:

وقالوا: أتبكي كل قـبـر لقيتـــــــه لقبر ثوى بين اللوى والدكـــادك؟

فقلت لهم: إن الأسى يبعث الأسى دعوني فهذا كله قبر مالـــــــك

وقول قيس المجنون:

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أحزان الفؤاد وما يــدري

دعا باسم ليلى غيرها، فكأنمــــــا أطار بليلى طائرا كان في صدري

إن ربط هذا النوع من الشعر بالغزل والأطلال والرثاء يدل على وعي ابن رشد بالطابع العاطفي الوجداني لرموز هذا النوع من الشعر، الذي يحكي في الغالب مأساة حقيقية انتقلت إلى عالم الحلم الشعري، ومن هنا لا يبعد هذا الشعر عن مجال الشعر التراجيدي.

وبقدر ما وسع ابن رشد العناصر الثلاثة الأولى وجد صعوبة في إيجاد مجال للنوع الرابع لكونه مبنيا على قياس خطابي قل ما يتسع الشعر لتفصيله، ولذلك حصره في (ذكر شخص ما "شبيه بشخص من ذلك النوع بعينه")، مثل قول امرئ القيس:

وتعرف فيه من أبيه شمائلا

وقد علق عليه بقوله: "والتصريح بالتشبيه خلاف التشبيه، فإن التشبيه إيقاع شك. والتصريح بالتشبيه بين شيئين هو تحقيق لوجود الشبه وهو الغاية في مطابقة التخييل"(44). وهو تعليق غامض بالنظر إلى مفهوم المطابقة عند الشراح.

وقد أسعف المثالان اللذان قدمهما أرسطو للنوع الخامس ابن رشد في صرفه مباشرة إلى الغلو، فقال: "هو الذي يستعمله السفسطائيون من الشعراء، وهو الغلو الكاذب"(45). "وهذا كثير في أشعار العرب والمحدثين". "وليس تجد في الكتاب العزيز منه شيئا، إذ كان يتنزل من هذا الجنس من القول، أعني الشعر، منزلة الكلام السفسطائي من البرهان. ولكن قد يوجد للمطبوع من الشعراء منه شيء محمود مثل المتنبي:

وأنى اهتدى هذا الرسول بأرضــه وما سكنت،مذ سرت فيها،القساطل!

ومن أي ماء كان يسقي جيـــاده ولم تصف من مزج الدماء المناهــــل!

وقوله:

لبسن الوشي لا متجمـــــــــلات ولكن كي يصن به الجمـــــــــــالا

وضفرن الغدائر لا لحســـــــــــن ولكن خفن في الشعر الضــــــــلالا"(46)

ومما هو "كذب" قول النابغة:

تقد السلوقي المضاعف نسجــــــه وتوجد بالصفاح نار الحباحــــــب

وقول الآخر:

فلولا الريح أسمع من بحجــــــــر صليل البيض تقرع بالذكـــــــــــور

فهذه الصور شبيهة بادعاء الشاعر أنه هو وحده "استطاع دون غيره أن يشد القوس" فهذا "أمر تخيله الشاعر وافتراض" افتراضه. فالأمر هنا يرجع للجمهور المتلقي خداعا عن طريق "خطأ في الاستدلال" أو انخداعا عن طريق قبول التوهيم الشعري: نفترض الحالة الأولى مع أرسطو والحالة الثانية مع ابن رشد.

وما دام أرسطو نفسه لم يسد باب الاجتهاد حين اقترح خمسة أنواع من التعرف مستعملا أداة التبعيض: "منها"، ومادام الموضوع قد أخذ بعدا كونيا يتجاوز الشعر اليوناني، فقد اقترح ابن رشد نوعا سادسا من أنواع التعرف:

"وهاهنا موضع سادس مشهور يستعمله العرب وهو إقامة الجمادات مقام الناطقين في مخاطبتهم ومراجعتهم، إذا كان فيها أحوال تدل على النطق" مثل قول مجنون بني عامر:

وأجهشت للتوباد لما رأيتــــــــــه وكبر للرحمان حين رآنـــــــــي

فقلت له: أين الذين عهدتهــــــم حواليك من أمن وخفض زمـــان؟!

فقال: مضوا، واستودعوني بلادهم، ومن ذا الذي يبقى على الحدثان؟!(47)

ويدخل هنا مخاطبة الديار والأطلال وما شاكل ذلك، مما يدخل في الاستدلال على الأحوال عن طريق الأمكنة والأشياء التي يتفاعل معها الإنسان. لقد كان من المتوقع أن يقف الحديث عن الاستدلالات عند هذه الإضافة نظرا لأن الفصل المخصص لها (الفصل16) قد انتهى. غير أن ابن رشد استغل حديث أرسطو -بعد أنواع التعرف مباشرة- عن ضرورة تمثل الشاعر للمواقف والشخصيات حتى يتسنى له تمثيلها تمثيلا حسنا فتحدث عن الأدب القصصي عند العرب ملاحظا أن استعمال الاستدلالات والتحويلات الدلالية استعمالا تربويا فاضلا إنما يوجد في الكتاب العزيز في مثل قوله تعالى: "ضرب الله مثلا كلمة طيبة.."(48)، إلى قوله "..مالها من قرار"، وقوله: "كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" الآية.

"وتكون أشعار العرب خالية من مدائح الأفعال الفاضلة وذم النقائض، ولذلك أنحى الكتاب العزيز عليهم، واستثنى منهم من ضرب قوله إلى هذا الجنس"(49).

وإذا لم يبرز الشعراء العرب في التمثيل القصصي المطول، ذي المغزى الخلقي، فقد برز فحولهم المفلقون في وصف الأشياء أو القضايا والوقائع وصفا ينقلها إلى الحس ويجعلها منظورة، غير أن هذا النحو من التخييل لا يوجد عند العرب، حسب رأي ابن رشد إلا في الأفعال غير "العفيفة"، أو "فيما القصد منه مطابقة التخييل فقط"(50). وهو يستحضر هنا قول امرئ القيس:

سموت إليها، بعدما نام أهلهـــا، سمو حباب الماء، حالا على حـال

فقالت: سباك الله إنك فاضحــي ألست ترى السمار والناس أحـوالي

فقلت: يمين الله أبرح قاعــــــدا، ولو قطعوا رأسي لديك وأوصــــالي

ومثال ما أريد به المطابقة، أي الوصف المحايد قول ذي الرمة:

وسقط(51)كعين الديك عاورت صحبتـي أباها، وهيأنا لموقعها وكــــــــــــرا

فقلت له: ارفعها إليك، وأحيهـــــــا بروحك، واقتته لها قيتة قـــــــدرا

وظاهر لها من يابس الشخت واستعن عليها الصبا، واجعل لديك لها سترا

قال: "وقد يوجد في ذلك أشعارهم في وصف الأحوال الواقعة مثل الحروب وغير ذلك مما يتمدحون به"(52). والسابق في هذا المجال هو المتنبي الذي يحكي عنه أنه كان يمتنع عن وصف الوقائع التي لم يشهدها مع سيف الدولة.

هكذا أدمج ابن رشد الفصل المتعلق بتشخيص الوقائع (الفصل 17) في الفصل المخصص للتعرف (الفصل 16). ولذلك نجده ينهي الفصل 17 بعبارة تبين أنه ما زال في الحديث عن أنواع التعرف والاستدلال:

"قال: وتعديد مواضع الاستدلالات مما يطول، وإنما أشار بذلك إلى كثرتها واختلاف الأمم فيها"(53).

إن هذا الكلام المنسوب إلى أرسطو هو كلام ابن رشد لفظا ومحتوى، وكل ما يمكن أن يرتبط به من كلام أرسطو هو استعماله أداة التبعيض ("من") في بداية حديثه عن أنواع التعرف: ("أما أنواعه فمنها") كما سبق. والمهم هنا هو تنصيص ابن رشد على اختلاف أوجه الاستدلال باختلاف الأمم، فهو يعرف أنه لا يطابق أرسطو بل يوازيه: يسيران في نفس الاتجاه بوسائل مختلفة وفوق أرض مختلفة.

وإذا نحن رجعنا إلى الوراء قليلا علمنا أن ابن رشد لم يؤول الفصل 17 وحده في اتجاه الفصل 16 بل أول أيضا الفقرتين الأخيرتين من الفصل 15 في اتجاه الفصل 16، ليجعل منهما مقدمة عامة للاستدلالات، خاصة الفقرة الأولى التي تحدث فيها أرسطو عن الرسم والتصوير، وهذا نص كلام أرسطو نتلوه بنص قراءة ابن رشد ونترك للقارئ فرصة التأمل:

"ولما كانت المأساة محاكاة لمن هم أفضل منا، فيجب أن يسلك طريق الرسامين المهرة الذين إذا أرادوا تصوير الأصل رسموا أشكالا أجمل وإن كانت تشابه الصور الأصلية. وكذلك الحال في الشاعر إذا حاكى أناسا شرسين أو جبناء أو فيهم نقيصة من هذا النوع في أخلاقهم فيجب عليه أن يجعل منهم أمجادا ممتازين"(54). قال ابن رشد ناقلا الجملة الأولى من ترجمة متى:

"قال: والتشبيه والمحاكاة هي مدائح الأشياء التي هي في غاية الفضيلة. فكما أن المصور الحاذق يصور الشيء بحسب ما هو عليه في الوجود، حتى إنهم قد يصورون الغضاب والكسالى بحسب ما هم عليه حتى يحاكي الأخلاق وأحوال النفس. وذكر مثال ذلك في شعر لأوميروش قاله في صفة قضية عرضت لرجل.

ومن هذا النحو من التخييل، أعني الذي يحاكي النفس، قول أبي الطيب يصف رسول الروم الواصل إلى سيف الدولة:

أتاك يكاد الرأس يجحد عنقــه وتنقد تحت الذعر منه المفاصل

يقوم تقديم السماطين مشيــــــه إليك، إذا ما عوجته الأفاكــل"(55)

فاصلة:

هذه فاصلة حقا، لأنها توقف الكلام وتشعر في الوقت نفسه بأنه لم ينته. لقد كان على القارئ العربي لكتاب فن الشعر، أن يقوم بعدة إجراءات تحويلية في إطار الكليات والقواعد العامة لتأميل مفهوم المحاكاة في اتجاه البنية اللسانية (وهذا ما سميناه تحويل المركز). كما كان عليه أن يستفيد من ثقافته العامة في مجال النفس والأخلاق ليؤطر تصوره العام ويحدد موقفه من بعض الشعر العربي الذي لا يلبي المطلب التربوي الذي اترضوه للشعر. وهذا حديث طويل لا يتسع له المقام. ويكفي أن نشير في الأخير إلى أن هذه القراءة التي لم ترض الفيلولوجيين قد ساهمت في إنتاج أقوى الاقتراحات النظرية في البلاغة العربية. في أسرار الجرجاني ومنهاج حازم وفي بناء مفهوم التغيير عند ابن رشد، وغير ذلك



الهوامش

1 - مستخلص من بحث أوسع يعيد النظر في تقويم القراءة العربية لفن الشعر لأرسطو.

2 - من المعلوم أنه وعد في أول الكتاب بالحديث عن التراجيديا والكوميديا غير أن الكتاب وقف عند الحديث عن التراجيدا مع تعريج على الملحمة. وبقي سؤال إهماله للشعر الغنائي معلقا.

3 - تلخيص فن الشعر 170.

4 - انظر منهاج البلغاء لحازم

5 - الحيوان 1/76.

6 - نفسه 1/75-76

7 - مقالة في قوانين الشعر 149، يقول بعده: "ولو رمنا إتمام الصناعة التي لم يرم الحكيم إتمامها، مع فضله وبراعته، لكان ذلك مما لا يليق بنا". فإلى هذا النوع من الاعتداد أشير.

8 - فن الشعر 189

9 - نفسه 158

10 - نفسه 149

11 - نفسه 151

12 - تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر 201. ويقول في نهاية الفصل الأول: "فهذا ما في هذا الفصل من الأمور المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر" (ص 207)، ويقول في آخر التلخيص: "فهذا هو جملة ما تأدى إلى فهمنا مما ذكره أرسطو في كتابه هذا من الأقاويل المشتركة لجميع أصناف الشعر والخاصة بالمديح، أعني المشتركة منها أيضا للأكثر أو للجميع" (ص 250).

13 - فن الشعر من كتاب الشفا 161

14 - نفسه 167

15 - نفسه

16 - تلخيص أرسطوطاليس 250

17 - نفسه 205-206 ذكر ابن سينا أمثلة لإمكانية الإمالة نحو الحسن أو القبح ثم ختم كلامه في ذلك بقوله: "ثم ذكر (أي أرسطو) عادات كانت لهم في ذلك" (ص 171).

18 - نفسه 201

19 - نفسه 201

20 - نفسه 207

21 - ابن رشد تلخيص 171

22 - نفسه 250

23 - نقد الشعر 100

24 - نفسه 92

25 - نفسه 118-119

26 - كتاب أرسطو طاليس، ترجمة شكري عياد 32

27 - فن الخطابة لأرسطو ترجمة بدوي ص 63

28 - فن الشعر لأرسطو ترجمة بدوي ص13

29 - تلخيص فن الشعر. ضمن فن الشعر (ص 173)

30 - نفسه

31 - فن الشعر.ت. بدوي ص13. والترجمة القديمة (متى) ص 92

32 - فن الشعر. ت. بدوي ص 32

33 - نفسه 44

34 - نفسه

35 - نفسه 46

36 - نفسه 47

37 - نفسه 48.

38 - تلخيص ابن رشد لفن الشعر ضمن فن الشعر ترجمة بدوي ص 222-223

39 - نفسه. قارن بكلام حازم في المنهاج ص 347. وانظر الفصل الرابع من الباب الثاني.

40 - نفسه 225

41 - نفسه

42 - نفسه 226

43 - نفسه

44 - نفسه 237

45 - نفسه

46 - فن الشعر (بدوي) 47. وهذا الموقف مطابق لموقف الجرجاني في أزمته العابرة مع التخييل الكاذب في كتاب الأسرار.

47 - تلخيص الخطابة 228

48 - نفسه 229 تمام الآية

49 - نفسه

50 - نفسه 230

51 - "السقط، مثلثة: الولد لغير تمام، وقد أسقطته أمه… وما سقط بين الزندينقبل استحكام الوردي، ويؤنث". (القاموس المحيط: سقط). شبه الشرارة غير المكتملة الساقطة من الزند المولودة قبل الأوان.

52 - تلخيص فن الشعر 230.

53 - نفسه

54 - فن الشعر. ترجمة بدوي 43-44

55 - تلخيص فن الشعر 222.

المصادر:

أرسطو = أرسطوطاليس:

أ - الخطابة: ترجمة عبد الرحمن بدوي. وزارة الثقافة. بغداد 1986

ب - في الشعر: نقل متى بن يونس. مع ترجمة لشكري عياد، وتقديم ودراسة. القاهرة 1968.

ج - فن الشعر. ترجمة متى بن يونس، مع ترجمة لعبد الرحمن بدوي وتقديم، دار الثقافة، بيروت.

الجاحظ، أبو عثمان (ت 255خـ)

الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1948

أبو الحسن حازم القرطاجني:

منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1981/1986، تونس 1966.

ابن رشد:

أ - تلخيص كتاب الشعر (لأرسطو) تحقيق نشالس بترورت وأحمد عبد المجيد هريدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986

ب - تلخيص فن الشعر (لأرسطو) ت. عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت.

ج - تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، تحقيق محمد سليم سالم، القاهرة 1971. تلخيص الخطابة، ت. عبد الرحمن بدوي، دار العلم بيروت 1959.

ابن سينا:

أ - فن الشعر، ضمن فن الشعر لأرسطو، تحقيق عبد الرحمن بدوي. ط. دار الثقافة بيروت.

ب - كتاب المجموع، أو الحكمة العروضية، في كتاب معاني الشعر، تحقيق محمد سليم سالم، دار الكتب 1969.

ج - الشعر، من كتاب الشفاء، تحقيق عبد الرحمن بدوي القاهرة 1966.

د - تلخيص فن الخطابة = الخطابة من كتاب الشفاء، تحقيق محمد سليم سالم.

الفارابي أبو نصر:

أ - مقالة في قوانين صناعة الشعراء، ضمن فن الشعر لأرسطو، ت. عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت.

ب - جوامع الشعر للفارابي، تحقيق محمد سليم سالم، القاهرة 1971.

إرسال تعليق

0 تعليقات