الزكاة لغة وشرعًا
الزكاة لغة: مصدر "زكا الشيء" إذا نمى وزاد، وزكا فلان إذا صلح، فالزكاة هي: البركة والنماء والطهارة والصلاح (المعجم الوسيط: 1/398). قال في لسان العرب: وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح، وكله قد استعمل في القرآن والحديث. والأظهر - كما قال الواحدي وغيره -: أن أصل مادة "زكا " الزيادة والنماء. يقال زكا الزرع يزكو زكاء. وكل شيء ازداد فقد زكا. ولما كان الزرع لا ينمو إذا خلص من الدغل كانت لفظة " الزكاة " تدل على الطهارة أيضًا. وإذا وصف الأشخاص بالزكاة - بمعنى الصلاح - فذلك يرجع إلى زيادة الخير فيهم، يقال: رجل زكى، أي زائد الحد من قوم أزكياء، و "زكى القاضي الشهود" إذا بين زيادتهم في الخبر. والزكاة في الشرع: تطلق على الحصة المُقدرة من المال التي فرضها الله للمستحقين. كما تطلق على نفس إخراج هذه الحصة (قال الزمخشرى في الفائق: 1/536 ط. أولى: " الزكاة فعلة كالصدقة، وهي من الأسماء المشتركة، تطلق على عين: وهي الطائفة من المال المزكى بها، وعلى معنى: وهو الفعل الذي هو التزكية ز ومن الجهل بهذا أتى من ظلم نفسه بالطعن على قوله - عز وجل -: (والذين هم للزكاة فاعلون) ذاهبًا إلى العين، وإنما المراد: المعنى الذي هو الفعل، أعنى التزكية" ). وسُميت هذه الحصة المخرجة من المال زكاة لأنها تزيد في المال الذي أخرجت منه، وتوفره في المعنى، وتقيه الآفات. كما نقله النووي عن الواحدي (المجموع: 5/324). وقال ابن تميمة: نفس المتصدق تزكو، وماله يزكو: يَطْهُر ويزيد في المعنى (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تميمة: 25/8). والنماء والطهارة ليسا مقصورين على المال، بل يتجاوزانه إلى نفس معطى الزكاة كما قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103 ). وقال الأزهري: إنها تُنَمِى الفقير، وهي لفتة جميلة إلى أن الزكاة تُحقق نموًا ماديًا ونفسيًا للفقير أيضًا، بجانب تحقيقها لنماء الغنى: نفسه وماله. ونقل النووي عن صاحب الخاوي قال: " اعلم أن الزكاة لفظة عربية معروف قبل ورود الشرع، مستعملة في أشعارهم، وذلك أكثر من أن يستدل له. " وقال داود الظاهري: لا أصل لهذا الاسم في اللغة، وإنما عرف بالشرع. قال صاحب الحاوي: وهذا القول وإن كان فاسدًا، فليس الخلاف فيه مؤثرًا في أحكام الزكاة " (المجموع: 5/324).
إذا عرفنا ما تقدم لم نجد مجالاً لدعوى المستشرق اليهودي المعروف " شاخت " كاتب مادة "زكاة" في دائرة المعارف الإسلامية المترجمة، حيث زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل كلمة " زكاة " بمعنًى أوسع من استعمالها اللغوي بكثير، آخذًا من استعمالها عند اليهود (في اليهودية - الآرامية " زاكوت ")،. قال: وكان النبي - عليه السلام - وهو ما يزال في مكة يستعمل كلمة " زكاة " ومشتقات مختلفة من مادة "زكا" بمعنى "طهر" ترتبط بالزكاة، بحسب الإحساس اللغوي عند العرب، وهذه المشتقات نفسها لا يكاد يكون لها في القرآن سوى ذلك المعنى الذي ليس عربيًا أصيلاً. بل هو مأخوذ عن اليهودية: وهو "التقوى" (دائرة المعارف الإسلامية: 10/355، 356). وهؤلاء المستشرقون من شاخت وأمثاله لهم غرام جنوني بنسبة كل ما يستطيعونه من مفاهيم الإسلام، وألفاظه، وأحكامه، وأفكاره، وأخلاقه إلى مصادر يهودية أو نصرانية، أو ما شاءوا من مصادر شرقية أو غربية، لا يتبعون في ذلك إلا الظن وما تهوى الأنفس. وحسبنا في الرد على هذا الكلام أمران:
الأول: أن القرآن استعمل الزكاة في معناها المعروف لدى المسلمين منذ أوائل العهد المكي، كما ترى ذلك في سورة الأعراف (آية 156)، وسورة مريم (آية 31، 55)، وسورة الأنبياء (آية 72)، وسورة المؤمنون (آية 4)، وسورة النمل (آية 3)، وسورة الروم (آية 39)، وسورة لقمان (آية 3)، وسورة فصلت (آية 7). ومعروف بيقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعرف العبرية، ولا أي لغة غير العربية كما أنه لم يتصل باليهود إلا بعد هجرته إلى المدينة، فمتى وكيف أخذ عن اليهود واليهودية كما زعم " شاخت "؟.
الثاني: أن من المُجازفة المنافية لخلق العلماء ومناهج التحقيق أن يزعم زاعم نقل لغة عن أُخرى إذا وجد كلمة مشتركة في معناها بين اللغتين، فإن الاشتراك لا يقتضي ضرورة نقل إحدى اللغتين عن الأخرى. ثم إن تعين إحداهما بأنها الناقلة والأخرى منقولة عنها - تحكم بلا دليل، وترجيح بلا مرجح، فمن اتخذ هذا النهج له ديدنًا، فقد برئ من أمانة العلم، وأخلاق العلماء.
معنى الصدقة:
والزكاة الشرعية قد تسمى في لغة القرآن والسنة " صدقة "، حتى قال الماوردي:" الصدقة زكاة والزكاة صدقة، يفترق الاسم ويتفق المسمى (ذكره في أول الباب الحادي عشر في ولاية الصدقات من "الأحكام السلطانية"). قال تعالى: (خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103).
وقال: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أُعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا منها إذا هم يسخطون) (التوبة:58). وقال: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين).. الآية (التوبة: 60)، إلى غيرها من الآيات (ذكر أستاذنا المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى في تعليقه على " شاخت " في دائرة المعارف أن القرآن أشار أولاً إلى الزكاة باسم الصدقة ثم استعمل لفظة الزكاة ولكن الذي يتأمل القرآن المكى يجد أن الكلمة التي استعملها القرآن أولاً هي الزكاة ولم يكد يستخدم كلمة الصدقة والصدقات إلا في المدينة). وفي الحديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة" (رواه الشيخان وغيرهما. وسيأتي). وفي حديث إرسال معاذ إلى اليمن: "أعلمهم أن الله افترض عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم". وهذه النصوص كلها قد جاءت في شأن الزكاة عبرت عنها بالصدقة، ومنه سمى العامل على الزكاة مصدقًا لأنه يجمع الصدقات ويفرقها. بيد أن العرف قد ظلم كلمة الصدقة، وأصبحت عنوانًا على التطوع وما تجود به النفس على مثل المتسولين والشحاذين. ولكن المدلولات العرفية يجب أن لا تخدعنا عن حقائق الكلمات في لغة العرب في عهد نزول القرآن، ومادة الصدقة مأخوذة من الصدق. وللقاضي أبى بكر بن العربي كلام قيم في معنى تسمية الزكاة صدقة، قال: " وذلك مأخوذ من الصدق في مساواة الفعل للقول والاعتقاد ".
وبناء " ص د ق " يرجع إلى تحقيق شيء بشيء وعضده به، ومنه صداق المرأة، أي تحقيق الحل وتصديقه بإيجاب المال والنكاح على وجه مشروع. ويختلف كله بتصريف الفعل، يقال، صدق في القول صداقًا وتصديقًا وتصدقتُ بالمال تصدقًا، وأصدقت المرأة إصداقًا، وأرادوا باختلاف الفعل الدلالة على المعنى المختص به في الكل، ومشابهة الصدق ههنا للصدقة: أن من أيقن من دينه أن البعث حق، وأن الدار الآخرة هي المصير، وأن هذه الدار قنطرة إلى الآخرة، وباب إلى السوء أو الحسنى - عمل لها، وقدم ما يجده فيها، فإن شك فيها أو تكاسل عنها، وآثر عليها - بخل بماله واستعد لآماله،، وغفل عن مآله " (أحكام القرآن - القسم الثاني ص 946. بتحقيق البجاوي) أقول: ولهذا جمع الله بين الإعطاء والتصديق كما جمع بين البخل والتكذيب في قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) (الليل:5-10).
فالصدقة إذن دليل الصدق "في الإيمان" والتصديق بيوم الدين. ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصدقة برهان" (رواه مسلم في صحيحه).
الزكاة في القرآن الكريم:
وقد تكررت كلمة الزكاة معرفة (إنما قلنا "معرفة". لأنها وردت منكرة في آيتين بمعنى آخر: (خيرًا منه زكاة) (الكهف 81)، (وحنانًا من لدنَّا وزكاة) (مريم: 13) في القرآن الكريم (30) ثلاثين مرة، ذكرت في (27) سبع وعشرين منها مقترنة بالصلاة في آية واحدة، وفي موضع منها ذكرت في سياق واحد مع الصلاة وإن لم تكن في آيتها. وذلك قوله تعالى: (والذين هم للزكاة فاعلون) (المؤمنون: 4) .. بعد آية واحدة من قوله تعالى: (الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون 2).
والمتتبع للمواضع الثلاثين التي ذكرت فيها الزكاة يجد أن (8) ثمانية منها في السور المكية وسائرها في السور المدنية (راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: كلمة" الزكاة" للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي). وقد ذكر بعض المؤلفين أن الزكاة قرنت بالصلاة في (82) اثنين وثمانين موضعًا من القرآن (كذا في"الدر المختار" و "البحر" و "النهر" وغيرها من كتب الفقه الحنفي، ونقل ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار" تصوبيه باثنين وثلاثين، والواقع أن اقترانها بالصلاة في (28) موضعًا فقط... ولعل المصوب أراد عدد مرات ورودها كلها معرفة ومنكرة.) وهو عدد مبالغ فيه ويرده الإحصاء الذي ذكرناه، حتى لو قالوا: المراد بالزكاة كل ما يدل عليها مثل "الإنفاق" و"الماعون" و"طعام المسكين" ونحو ذلك، لم يجتمع لنا هذا العدد، والظاهر أن العدد محرف من اثنين وثلاثين إلى اثنين وثمانين.
أما كلمة " الصدقة " و" الصدقات " فقد وردت في القرآن اثنتي عشرة مرة، كلها في القرآن المدني.
0 تعليقات