الأزمة المالية العالمية أسبابها ونتائجها
كيف نشأت الأزمة المالية الراهنة؟
تعود جذور الأزمة الحالية في القطاع المالي العالمي إلى ما قبل نحو ثلاثة عقود، مع تطور قطاع الخدمات على حساب قطاعات الاقتصاد التقليدية من تجارة وصناعة وزراعة.
وفي القلب من قطاع الخدمات، الخدمات المالية (بنوك، بورصات شركات تامين واستثمار ومؤسسات مالية وغيرها) التي توسعت مع العولمة وتحول معظم اقتصاد العالم إلى اقتصاد السوق الحر.
لكن قبل النبش في الماضي، على أهميته لفهم ما يجري وتوقع الأتي، لننظر ببساطة للعرض الرئيسي ألان وكيف تطور مرضا عضالا.
في سنوات الوفرة مطلع القرن، ومع الغليان الهائل في قيمة الأصول في العالم ـ وفي مقدمتها العقارات ـ كانت السيولة مشكلة لدى البنوك والمؤسسات المالية.
بمعنى إن لديها فوائض هائلة من السيولة لا تجد منافذ استثمارية لها، ولان العقار يبدو ملاذا أمنا للاستثمار اتجه قدر كبير من تلك السيولة إلى قطاع العقارات.
وقبل عامين أو ثلاثة لم تخل وسيلة إعلام من إعلانات عن سماسرة قروض عقارية يقدمون لك أفضل أسعار الفائدة دون الحاجة إلى أية ضمانات. بل كانت هناك إعلانات محددة لمن لهم تاريخ ائتماني سيئ (إي مشكوك في تسديدهم ديونهم) وكيف يمكنهم الحصول على قروض.
ولا يهم هؤلاء السماسرة سوى الحصول على العمولة، فيرتبون لك القرض دون إي أوراق سوى عنوان بيتك ـ فالبنك هو الذي سيقرض في النهاية.
ازداد حجم تلك الديون العقارية (الرديئة) بشكل بدأت البنوك تشعر معه انه لا بد من حل بدلا من إبقائها على دفاترها.
وهنا يأتي دور بنوك الاستثمار (التي كانت أول المنهارين في الأزمة) التي تقوم بتجميع تلك الديون وتورقيها Securitization عبر سندات دين بضمان القروض العقارية تلك. وبمهارة كبار مسئولي الاستثمار في تلك البنوك يتم إصدار سندات تصنف على هيئة فئات.
مثلا فئة أولى، تمثل القروض التي هناك أمل اكبر في تحصيلها، وفئة ثانية متوسطة الوضع وفئة ثالثة مقابل الديون المعدومة. وتعطى تلك السندات أسماء جديدة ) مثل كثير من مصطلحات الأوراق المالية) كي يتم تسويقها.. (حيل محاسبية(.
ولضمان بيع تلك السندات للمستثمرين الراغبين في عائد مريح وكبير يقوم البنك الاستثماري بشراء سندات خزانة مقابل سندات الفئة الأولى والثانية أو التامين عليها.
وبعد تهيئة سندات الفئة الأولى والثانية على أنها جيدة، تقوم وكالات التصنيف الائتماني بإعطائها تصنيفا جيدا فيسهل بيعها.
وتقدر فائدة صغيرة على السندات الممتازة وفائدة اكبر قليلا على السندات العادية وفائدة عالية جدا على السندات مقابل الديون المعدومة ( وان كانت كل الديون في الواقع في حكم المعدومة، لكنها الحيل المحاسبية الاستثمارية التي تسعى الحكومات ألان لضبطها بتشديد الرقابة ) .
في الأغلب تباع سندات الفئة الأولى لصندوق استثمار تعاوني في أسيا أو الخليج، أو لمجلس محلي مدينة صغيرة في ألمانيا يريد استثمار ميزانيته وما شابه. وتبقى سندات الفئة الرديئة فيشتريها مثلا كبار موظفي بنك الاستثمار أو معارفهم ويحصلون فوائد هائلة عليها.
ثم جاء انهيار أسعار العقار في أمريكا، وبعدها اسبانيا وايرلندا وبريطانيا وغيرها. وانكشفت كل الحيل الاستثمارية لإخفاء القروض العقارية الرديئة وأصبحت هناك بنوك كثيرة في العالم في ورطة، إما نتيجة تمويلها تلك القروض أو شرائها لسندات الدين المرهونة بها، ومنذ صيف العام الماضي، فقدت البنوك والمؤسسات المالية الثقة في بعضها ولم يعد احد منها يصدق ما يعلنه الأخر عن وضعه المالي والمحاسبي.
وأصبح الشك دائما إن هناك ديون هائلة معدومة مخفية.. ونتيجة انعدام الثقة، توقفت البنوك عن الإقراض فيما بينها ـ كما أصبح الاقتراض من الأسواق الثانوية في غاية الصعوبة ـ خشية الانكشاف على مخاطر غير متوقعة.
وتحتاج البنوك للاقتراض من بعضها على المدى القصير لتتمكن من تغطية الإقراض على المدى المتوسط والطويل للإعمال والإفراد.
وهكذا نشأت أزمة الانكماش الائتماني، والتي لم تفلح كل محاولات ضخ الأموال ولا شراء الحكومات لبعض المؤسسات المنهارة في القضاء عليها تماما.
والهدف من كل الإجراءات الحالية في العالم هو (تنظيف) النظام المالي من تلك الديون المعدومة وسندات الدين المرهونة وبها وأوراق التامين عليها وسندات الخزانة المشتراة مقابلها.
وكذلك محاولة ضخ المزيد من السيولة وتسهيل الإقراض ولو من مقرض الملاذ الأخير (البنوك المركزية) كي تعود حركة السيولة بين البنوك.
لكن (التنظيف) و(التحريك) قد عالجا أعراض الأزمة الحالية التي بدأت مع انهيار العقار صيف العام الماضي، لكنها لن تحل عوامل الخلل الأساسية في (النظام).
كيف يمكن وصف وتعريف الأزمة الاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم ؟
ما يحصل حالياً في الأسواق المالية والتطورات الطارئة هو كتابة للتاريخ.
المخاوف من انهيار مالي عالمي ازدادت في أكبر هزة تشهدها بورصة نيويورك ومعها كل البورصات العالمية منذ عقود .
بوادر الانهيار بدأت منذ:
1ـ انهيار أكبر شركتين للتمويل العقاري في أميركا ( Fannie Mae، (FreddMac
2ـ إفلاس بنك Lehman Brother’s) )
3ـ شراء (Merrill Lynch) من قبل (Bank of America )
4ـ 85 مليار دولار لإنقاذ AIG من قبل البنك الفدرالي الأميركي.
ربما أسوأ مراحل الأزمة لم تأت بعد وان المزيد من المؤسسات المالية قد تواجه متاعب في الشهور المقبلة.
ما هي أسباب هذه الأزمة؟
هذه التطورات لا يمكن عزلها عن مسار طويل يعود إلى سنوات مضت وآليات عمل السوق. المؤسسات الدولية كانت تنبه منذ سنة من تباطؤ النمو العالمي .
الأزمة الحالية هي الأسوأ منذ أزمة الكساد الكبرى التي اجتاحت العالم في 1927 وان تحركات مجلس الاحتياط الأميركي لاحتواء هذه الأزمة لن تؤدي إلى نتائج ملموسة، إنما ستؤدي إلى انتعاش طفيف وقصير الأجل لن يعالج المشكلات الأساسية التي تهدد بانهيار النظام المالي.
إن الطموح الأقصى للحكومات الأميركية والأوروبية هو إيجاد حد أدنى من الاستقرار بحيث لا تؤدي إلى انهيارات لا يمكن وقفها، لأن النتيجة ستكون فقراً وبطالة وذوبان الثروة.
أظهرت الأزمة الحقائق التالية باختصار:
1- غياب الرقابة على المصارف، الفاعلة لتدارك أزمة السيولة .
2- كشفت الأزمة الأميركية هشاشة النظام الاقتصادي العالمي.
3- الواقع المالي لأميركا والدول الأخرى لن يبق بعد الأزمة كما كان قبلها.
ما هي انعكاسات هذه الأزمة وتأثيراتها على الاقتصاد اللبناني؟
إن القطاع المالي اللبناني حتى الآن بقي بعيداً عن مؤثرات هذه الأزمة.
يمكننا الحديث والتأكيد على صلابة القطاع المصرفي، وما يعزز هذا الوضع هو رأي صندوق النقد الذي أكد ارتياحه إلى أداء القطاع المالي اللبناني ونشاط المصارف من خلال:
1. نمو الودائع
2. زيادة الأموال الخاصة
3. زيادة الأرباح
4. نسبة الملاءة
5. نمو التسليفات وآلياتها
إذا لا نبالغ إذا قلنا إن القطاع المصرفي اللبناني لن يتأثر مطلقاً بهذه الأزمة باعتبار أن التدابير الاحترازية التي اتخذها مصرف لبنان وهيئات الرقابة منذ 12 سنة، تعتمدها أوروبا وأميركا اليوم لجهة دمج المصارف وتملك المؤسسات.
يضاف إلى ذلك السياسة الحكيمة التي سلكها مصرف لبنان في حماية المودعين من إي خسائر يمنون بها من جراء تعثر أي مصرف.
فهذا القطاع أثبت قوة ومتانة وثقة بالرغم من كل الأزمات الداخلية الحادة التي مر بها منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري مروراً بحرب تموز الإسرائيلية حتى آخر التفجيرات والاغتيالات.
كيفية معالجة الدول للازمة المالية العالمية الحالية:
قال الرئيس الامريكي باراك اوباما ان الازمة المالية العالمية لن يتم تجاوزها عبر مقررات اجتماع واحد او اجتماعين، مشيرا الى ان قادة مجموعة العشرين سيعقدون اجتماعا اخر في خريف العام الحالي.
واشار اوباما في مؤتمر صحفي الى ان قمة مجموعة العشرين التي انعقدت الخميس مثمرة جدا وتشكل "تحولا" عبر اتخاذها "مجموعة جهود منسقة لا سابق لها".
وشدد اوباما على ان قمة العشرين اتخذت ايضا خطوات ضد "نظام الرقابة المالية الفاشل" الذي قوض الازدهار الاقتصادي في العالم، وانها "رفضت الحمائية التي من شأنها ان تساهم في تفاقم هذه الازمة".
وبما يخص الدول الفقيرة اعلن الرئيس الامريكي مضاعفة المساعدات الغذائية الاميركية لافريقيا واميركا اللاتينية وباقي المناطق الفقيرة.
وتوصل زعماء مجموعة العشرين لاتفاق على ضخ تريليون دولار إضافية في الاقتصاد العالمي من خلال تمويل إضافي لمؤسسات مثل صندوق النقد الدولي.
وأعلن رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون ان القادة اقروا تمويلا إضافيا قدره 500 مليار دولار لصندوق النقد الدولي اضافة الى 250 مليار دولار لزيادة حقوق السحب الخاصة في الصندوق و250 مليار دولار لدعم التجارة.
يشار الى ان قرار القمة بمضاعفة موارد صندوق النقد الدولي ثلاثة اضعاف، عبر مده بمبلغ 500 مليار دولار اضافية تتطلب تقديم "اموال جديدة" وحقوق سحب خاصة للصندوق.
كما اتفق القادة على السماح لصندوق النقد الدولي بتسييل احتياطيه من الذهب لمساعدة الدول الاكثر فقرا.
الملاذات من الضرائب
وفي مؤتمر صحفي، قال جوردون براون "اتفقنا على وضع نهاية للملاذات الآمنة من الضرائب لقد انتهت السرية التي كانت تعمل بها البنوك، وسنعمل على تحقيق الاستقرار في الأسواق المالية".
وقال براون ان القمة اتفقت على ان يصار فورا الى نشر قائمة بالدول التي لا تبدي تعاونا في مجال التهرب الضريبي.
ويتوقع ان تقوم منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بشكل عاجل بنشر لائحة بهذه الملاذات الضريبية غير المتعاونة.
واعلن براون ان المجموعة ستنفق بحلول نهاية 2010 ما مجموعه 5 الاف مليار دولار لتحفيز الاقتصاد.
ومن جانبها قالت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل الخميس خلال مؤتمر صحافي في ختام اللقاء ان القمة توصلت الى "تسوية تاريخية لازمة استثنائية".
كما اعرب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عن ارتياحه للنتائج التي خلصت اليها القمة في ضبط النظام المالي الدولي معتبرا هذه النتائج "اكثر مما كان يمكن ان نتخيل".
وقال ساركوزي ان قادة مجموعة العشرين سيعقدون اجتماعهم المقبل في نيويورك في الولايات المتحدة في سبتمبر/ايلول على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للامم المتحدة.
وفي تعليق له قال المدير العام لصندوق النقد الدولي دومينيك ستروس-كان ان القمة خرجت بقررات تشكل مجتمعة "اكبر خطة نهوض اقتصادي موحدة على الاطلاق".
وكان رئيس الوزراء البريطاني قد قال أن "هذا ليس وقت التملص من تعهداتنا وسنظل ملتزمين بها، وسنعمل على توفير المزيد من الوظائف الملتزمة بالمعايير البيئية".
وقال ان الزعماء اتفقوا على التحرك بسرعة لانهاء جولة الدوحة من المحادثات الخاصة بتحرير التجارة، مشيرا إلى انه تم الاتفاق على قواعد جديدة للدفع والحوافز.
البيان الختامي.
الى ذلك ذكر البيان الختامي لقمة مجموعة العشرين ان اجراءات منسقة تعهدت بها دول المجموعة ستزيد الانتاج العالمي بنسبة 4% بحلول نهاية العام القادم.
واضاف البيان قائلا "اننا نتخذ اجراءات منسقة لم يسبق لها مثيل للتوسع المالي ستنقذ أو تخلق ملايين الوظائف ... وستصل قيمتها بحلول نهاية العام القادم الى 5 تريليونات دولار مما سيرفع الانتاح بنسبة اربعة في المئة ويسرع عملية الانتقال الي اقتصاد متوافق مع البيئة."
وقال البيان ايضا ان البنوك المركزية في مجموعة العشرين تعهدت بمواصلة سياسات للتوسع في الائتمان مادام ذلك ضروريا واستخدام جميع ادوات السياسة النقدية المتاحة .
وكانت أعمال قمة الدول العشرين قد انطلقت في مركز (اكسل) الواقع في منطقة (دوكلاندز) في العاصمة البريطانية لندن، وسط اجراءات امنية مشددة.
وقد طفا الى السطح قبيل انعقاد القمة خلاف حاد بين المانيا وفرنسا من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة اخرى، إذ طالب المعسكر الاول بفرض قوانين وانظمة اكثر صرامة على النظام المالي الدولي، بينما رأى المعسكر الثاني ان الانفاق الحكومي من شأنه معالجة الازمة.
وتشير توقعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الى ان الاقتصاد العالمي سينكمش هذا العام للمرة الاولى منذ عدة عقود.
يذكر ان مجموعة الدول العشرين تشتمل على اقوى الاقتصادات في العالم التي تستحوذ على 90% من الناتج الاقتصادي العالمي و80% من التجارة العالمية وثلثي سكان الارض.
0 تعليقات