فلسطين
هي المنطقة التاريخية الواقعة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، في جنوب شرق آسيا.
الأرض
تمتلك المنطقة أرض متنوّعة جدا، تقسم عموما إلى أربعة مناطق وهي من الغرب الي الشرق السهل الساحلي، التلال وجبال الخليل، وادي الأردن، و الهضبة الشرقية. في أقصى الجنوب هناك صحراء النقب. تتراوح الإرتفاعات من 395 قدم تحت مستوى البحر على شواطئ البحر الميت، وهي أخفض نقطة على سطح الأرض، إلى 1020 قدم في أعلى قمم جبال الخليل.
تمتلك المنطقة عدّة مناطق خصبة. إمدادات المياه للمنطقة ليست وفيرة. نهر الأردن هو النهر الوحيد في المنطقة، يتدفق جنوبا خلال بحيرة طبريا (بحيرة الماء العذبة الوحيدة في المنطقة) إلى البحر الميت الشديد الملوحة.
التاريخ
العرب الكنعانيون كانوا أول السكان المعروفين لفلسطين. خلال الألف الثالثة قبل الميلاد وقد أصبحوا مدنيين يعيشون في دول ومدن منها أريحا. طوّروا أبجدية ومنها إشتقّت أنظمة كتابة آخرى. موقع فلسطين في مركز الطرق التي تربط الثلاث قارات جعل لها موقع للإجتماع الديني و التأثير الثقافي على مصر، سوريا، بلاد ما بين النهرين، وآسيا الصغرى. وكانت أيضا ساحة للحروب بين القوى العظمى في المنطقة و خاضعة لهيمنة الإمبراطوريات المجاورة، بدأ بمصر في ألفية الثالثة قبل الميلاد. الهيمنة المصرية والحكم الذاتي للكنعانيين كانا بشكل دائم في تحدّ خلال ألفية الثانية قبل الميلاد من قبل غزاة متنوّعين عرقيا كالعموريون، هيتيتيس، وهورريانس. على أية حال، هزم الغزاة من قبل المصريين والكنعانيون.
بدأت السلطة المصرية بالضعف بعد القرن الرابع عشر قبل الميلاد، المحتلون الجدّد ومنهم العبرانيين وهم مجموعة من القبائل السامية من بلاد ما بين النهرين، و الفلستينيين (بعد ذلك سميت البلاد باسمهم)، وإيجي وهم شعوب من أصل هندي أوروبي.
مملكة إسرائيل
بعد خروج القبائل العبرية من مصر (1270 قبل الميلاد) قاموا بغزو مدن الكنعانيين. وتم لهم بقيادة جوشوا السيطرة على أجزاء من فلسطين (1230 قبل الميلاد). أستقر العبرانيون في تلال البلاد، لكنّهم كانوا غير قادرين على السيطرة على كلّ فلسطين. الإسرائيليون، وهم إتحاد القبائل العبرية، أخيرا هزموا الكنعانيون حوالي 1125 قبل الميلاد. لكن تم غزوهم و قوتلوا قتالا شديدا من قبل الفلستينيين. حيث أسّس الفلستينيين دولة مستقلة لهم على الساحل الجنوبي لفلسطين وسيطروا على مدن الكنعانيين بما فيها القدس. وبما كان لهم من قيادة عسكرية منظمة ولإستعمالهم الأسلحة الحديدية، هزموا الإسرائيليين بشدة حوالي 1050 قبل الميلاد.
التهديدات المخّتلفة أجبرت الإسرائيليين على التوحد وتأسيس الحكم الملكي. نبي الله داهود علية السلام، هزم الفلستينيين أخيرا بعد قليل من سنة 1000 قبل الميلاد، وتم لهم كامل السيطرة على أرض كنعان. وحدة إسرائيل وضعف الإمبراطوريات المجاورة مكّنا داهود من تأسيس دولة مستقلة كبيرة عاصمتها في القدس. في عهد إبن داهود ووريث، نبي الله سليمان علية السلام، تمتّع نبي إسرائيل بالسلام و الإزدهار، لكن مع موته في 922 قبل الميلاد قسّمت المملكة إلى إسرائيل في الشمال ويهودا في الجنوب.
عندما أستأنفت الإمبراطوريات القريبة توسعها، لم يستطع الإسرائيليون المقسّمون في الإبقاء على إستقلالهم. سقطت إسرائيل إلى الإمبراطورية الآشورية في 722-721 قبل الميلاد، ويهودا هزمت في 586 قبل الميلاد من قبل بلاد بابل، الذين حطّموا القدس ونفوا أغلب اليهود الذين يعيشون فيها.
الحكم الفارسي
اليهود المنفون سمح لهم بالمحافظة على هويتهم ودينهم، بعض من أفضل الكتب اللاهوتية والعديد من الكتب التاريخية و منها العهد القديم كتب خلال فترة النفي أو ما عرف بالسبى البابلي. عندما حكم سيروس العظميم بلاد فارس قهر بلاد بابل في 539 قبل الميلاد أجاز لليهود العودة إلى يهودا وهي منطقة في فلسطين. تحت الحكم الفارسي سمح لليهود بالحكم الذاتي. جدّدوا جدران القدس وصنّفوا التوراة التي أصبحت رمز الحياة الإجتماعية والدينية.
الحكم الروماني
الحكم الفارسي لفلسطين إستبدلت بالحكم اليوناني عندما أحتل الأكسندر الأكبر المقدوني المنطقة في 333 قبل الميلاد. ورثة الأكسندر، بتوليميس وسيليوسدس، واصلوا حكم البلاد. سيليوسدس حاول أن يفرض الثقافة والديانة الهيلانية (اليونانية) على السكان. في القرن الثاني قبل الميلاد، تمرّد اليهود تحت ماكابيس وبدأ دولة مستقلة (141 - 63 قبل الميلاد) حتى قهرهم بومبي العظيم من روما وجعلها مقاطعة حكمت من قبل الملوك اليهود.
خلال حكم الملك هيرود العظيم (37-4 قبل الميلاد) ولد سيدنا عيسى علية السلام. كان هناك ثورتان لليهود وقمعتا في 66-73 و 132-35. بعد الثانية، قتل عدد كبير من اليهود، والعديد بيع كعبيد، أما البقية فلم يسمح لهم بزيارة القدس. بدل أسم يهودا إلى إسم سوريا فلستينيا.
لاقت فلسطين إهتمام خاصّ عندما زارت القدس الإمبراطورة هيلينا أم الإمبراطور الروماني قسطنتين الأول الذي شرع المسيحية وأعلنها ديانة للدولة في 313 ميلادي. أصبحت القدس بؤرة للحجّ المسيحي. وكان لها عصرا ذهبيا من الإزدهار، الأمن، والثقافة. أغلب السكان أصبحوا مسيحيين.
قطع الحكم البيزنطي (الروماني) خلال فترات قصيرة بغزوات فارسية وأنهى تماما عندما فتحت الجيوش العربية الإسلامية فلسطين والقدس في العام 638.
الخلافة الإسلامية
الغزو اإسلامي بدأ حكم أسلامي لفلسطين لمدت 1300 سنة. كانت فلسطين مقدّسة للمسلمين لأن الله أمر سيدنا محمد بأن تكون القدس القبلة الأول للمسلمين ( الإتجاه الذي يواجهة المسلم عندما يصلّي) ولأنة صلي الله علية وسلم صعد في ليلة الإسراء و المعراج في رحلة إلى السماء من المدينة القديمة للقدس (المسجد الأقصى اليوم)، حيث بني المسجد الإقصى و مسجد قبة الصخرة بعد ذلك.
أصبحت القدس المدينة الأقدس الثالثة للإسلام. الحكام المسلمون لم يجبروا دينهم على الفلسطينيين، وخلال أكثر من قرن تحول الأغلبية إلى الإسلام. المسيحيون واليهود الباقون إعتبروا أهل الكتاب. وسمح لهم السيطرة المستقلة ذاتيا في مجتمعاتهم وضمن لهم أمنهم وحريتهم في العبادة. مثل هذا التسامح كان نادر في تاريخ الأديان و في تاريخ فلسطين.
أكثر الفلسطينيين تبنّوا العربية والثقافة الإسلامية. فلسطين إستفادت من التجارة مع الإمبراطوريات المجاورة ومن أهميتها الدينية خلال الحكم الأموي الإسلامي في دمشق. عندما إنتقلت السلطة إلى بغداد مع العباسيين في 750، أصبحت فلسطين مهملة. عانت البلاد بعد ذلك من الإضطراب والهيمنة المتعاقبة من قبل السلجوقيين، الفاطميين، والغزوات الصليبية. شاركت فلسطين، على أية حال، في مجد الحضارة الإسلامية، عندما تمتّع العالم الإسلامي بعصر ذهبي من علم، فنّ، فلسفة، وأدب. حيث بدأ المسلمون تعلّم العلوم اليونانية وبدأوا طريقا جديدا في عدّة حقول، بعد سنين كان لكلّ ذلك مساهمة كبيرة في عصر النهضة في أوروبا.
الحكم العثماني
الأتراك العثمانيون من آسيا الصغرى هزموا المملوكيين في 1517، وحكموا فلسطين حتى شتاء 1917. البلد كان قد قسّم إلى عدّة مناطق (سناجق) منها القدس. إدارة المناطق وضعت بشكل كبير في أيادي العرب الفلسطينيون. المسيحييون و اليهود، على أية حال، سمح لهم بكل الحريات الدينية والمدنية. إشتركت فلسطين في مجد الإمبراطورية العثمانية خلال القرن السادس عشرة، لكن ضعف ذلك المجد ثانية للإمبراطورية في القرن السابعة عشرة.
ضعف فلسطين في التجارة، الزراعة، والسكان إستمرّ حتى القرن التاسع عشر. في ذلك الوقت في بحث الأوروبيين عن الخام والمواد والأسواق، بالإضافة إلى مصالحهم الأستراتيجية، جلبهم إلى الشرق الأوسط. بين 1831 و1840، محمد علي، الوالى العثماني على مصر، حاول توسيع حكمة إلى فلسطين. سياساته حسنت الحال الأقتصادية حيث زادت الزراعة، وتحسن التعليم. عادت السلطة للإمبراطورية العثمانية ثانية في 1840، وفرضت إصلاحاتها الخاصة.
تصاعد القومية الأوروبية في القرن التاسعة عشرة، وخصوصا مع أنتشار اللاسامية، شجّع اليهود الأوروبيين لطلب اللجوء الى "أرض الميعاد" في فلسطين. ثيودور هيرزل، مؤلف كتاب الدولة اليهودية (1896)، أسّس المنظمة الصهيونية العالمية في 1897 لحملّ أوروبا على حل "المشكلة اليهودية". كنتيجة لتزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين بشّدة في 1880، العرب الفلسطينيون وهم حوالي 95 بالمائة من السكان بدأوا يشعرون بالتخوف من هجرة اليهود وشراء الأرض ومن ثمّ تحولت الى معارضة للصهيونية.
الإنتداب البريطاني
بمساعد من قبل العرب، أحتل البريطانية فلسطين من الأتراك العثمانيين في 1917 - 1918. العرب تمرّدوا ضدّ الأتراك لأن البريطانيين وعدوهم، في 1915-1916 من خلال المراسلات مع الشريف حسين إبن علي والى مكة المكرمة، بإستقلال بلدانهم بعد الحرب. بريطانيا، على أية حال، قدمت إلتزامات متعارضة أخرى في السرّ من خلال إتفاقية سيكيس بيكوت مع فرنسا وروسيا 1916، بالتعهد بتقسيم وحكم المناطق العربية مع حلفائها. في إتفاقية ثالثة، في وعد بلفور 1917، وعدت بريطانيا اليهود بالمساعدة على تاسيس "وطن قومي" في فلسطين.
هذا الوعد دمج بعد ذلك في صك الإنتداب الممنوح لبريطانيا من عصبة الأمم في 1922. خلال إنتدابهم من 1922 الى 1948،البريطانيون وجدوا أن وعودهم المتناقضة إلى اليهود و العرب الفلسطينيين صعبة التوافق. تصوّر الصهاينة بفتح الهجرة اليهودية بشكل واسع النطاق، والبعض تكلّم عن دولة يهودية تشمل كلّ فلسطين. الفلسطينيون، على أية حال، رفضوا قيام بريطانيا بتقديم بلادهم إلى طرف ثالث و هم لا يملكونها، حدثت الهجمات المضادة للصهيونية في القدس في 1920 ويافا في 1921.
في 1922 في بيان سياسي للحكومة البريطانية تم أنكار طلبات الصهيونية بالحصول على كلّ فلسطين وحدّدت الهجرة اليهودية، لكن تم أعادت التأكيد على دعم بريطانيا للوطن القومي لليهود. و قدم أقتراح بتأسّيس مجلس تشريعي، رفض الفلسطينيون هذا المجلس لكون التمثيل فية عدم عدالة.
في 1928، عندما زادت الهجرة اليهودية بعض الشّيء، السياسة البريطانية تجاه الهجرة تأرجح تحت تضارب الضغوط العربية واليهودية. الهجرة تزايدة بحدّة بعد أضهاد النظام النازي في ألمانيا لليهود سنة 1933. في 1935 تقريبا حوالى 62,000 يهودي دخلوا فلسطين.
الخوف من الهيمنة اليهودية كان السبب الرئيسي للثورة العربية التي إندلعت في 1936 وإستمرّت بشكل متقطّع حتى 1939. في ذلك الوقت حدّدت بريطانيا الهجرة اليهودية ثانية ومنعت بيع الأرض لليهود.
فترة مابعد الحرب العالمية الثانية
الكفاح الفلسطين، الذي توقف خلال الحرب العالمية الثانية، إستأنف في 1945. الرعب من المحرقة النازية المزعومة أنتج عطفا عالميا و أوروبي لليهود وللصهيونية، وبالرغم من أن بريطانيا ما زالت ترفض هجرة 100,000 يهودي إلى فلسطين، العديد من اليهودي وجد طريقهم الى هناك بشكل غير قانوني.
الخطط المختلفة لحلّ مشكلة فلسطين رفضت من طرف أو آخر. أعلنت بريطانيا أن الإنتداب فاشل وحولت المشكلة إلى الأمم المتّحدة في أبريل/نيسان 1947. اليهود والفلسطينيون أستعدوا للمواجهة. بالرغم من أن الفلسطينيون فاقوا عدد اليهود (1300000 إلى 600000)، اليهود كانوا مستعدّين أفضل. إمتلكوا حكومة شبة مستقلة، تحت قيادة ديفيد بن جوريون، وجيشهم، الهاجانا، كان مدرّب بشكل جيد. الفلسطينيون لم يكن لهم الفرصة للتجهز منذ الثورة العربية، وأغلب زعماء الثورة كانوا في المنفى أو سجون الإنتداب البريطاني.
مفتي القدس، والناطق الرئيسي للفلسطينيين، رفض القبول بالدولة اليهودية. عندما قررت الأمم المتّحدة تقسيم فلسطين في نوفمبر/تشرين الثّاني 1947، رفض العرب الخطة بينما قبلها اليهود. في الحرب العسكري التي بدأت بعد أنهاء بريطانيا للإنتداب هزم العرب والفلسطينيون.
قامت إسرائيل في 14 مايو/أيار 1948، جائت خمس جيوش عربية لمساعدة الفلسطينيين، وقامت بالهجوم فورا. عدم التنسيق وأسباب آخرى كانت السبب في هزيمة الجيوش العربية. إسرائيل أحتلت أكثر مما كان مقررا لها في قرار التقسيم. في حين أخذت الأردن الضفة الغربية من نهر الأردن، ومصر أخذت قطاع غزة. (إحتلّت إسرائيل هذه الأراضي بعد حرب الأيام الستّة 1967.) نتج عن الحرب 780,000 لاجىء فلسطيني. جزء منهم تركوا بيوتهم من الخوف والرعب، بينما البقية أجبرت على الخروج. الفلسطينيون مع إنتشارهم خلال البلدان المجاورة، أبقوا على هويتهم الوطنية الفلسطينية والرغبة في العودة إلى وطنهم.
الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، 15 أيار/مايو 1948
المعارضة العربية لقيام دولة يهودية بدأت بعد بيان بلفور 1917، الذي دعم فكرة الوطن القومي لليهود. في العشرينات كان هناك إضرابات ضد الصهيونية في فلسطين، بعد الإنتداب البريطاني سمحت حكومة الإنتداب لآلاف اليهود للهجرة إلى فلسطين من كلّ أنحاء العالم.
في 1936 الثورة العربية أدّت إلى لجنة تحقيق ملكية بريطانية أوصت بتقسيم فلسطين (وافق علي هذة الخطة الأمم المتّحدة في 1947)، لكن خطة التقسيم رفضت من قبل العرب.
عندما أصبح واضحا القرار البريطاني بأنهاء الإنتداب بحلول يوم 15 أيار/مايو، زعماء اليهود أعلنوا (كما يدّعون) تطبيق الجزء الخاص بقيام الدولة اليهودية وفق خطة التقسيم. في تل أبيب يوم 14 أيار/مايو المجلس الرسمي المؤقّت "يمثّل الشعب اليهودي في فلسطين وحركة الصهيونية العالمية، يعلن تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين، و تسمى دولة إسرائيل… وهي مفتوح لهجرة اليهود من كلّ دول الشتات."
في 15 أيار/مايو دخلت الحرب جيش مصر، شرق الأردن (الآن الأردن)، سوريا، لبنان، والعراق مع الفدائيين العرب من فلسطين وآخرين الذي كانوا يحاربون القوات اليهودية منذ نوفمبر/تشرين الثّاني 1947. أصبحت الحرب نزاع دولي الآن، الحرب العربية الإسرائيلية الأولى.
أخفق العرب في منع تأسيس الدولة اليهودية، وأنتهت الحرب بإتفاقيات هدنة مرتّبة من الأمم المتّحدة بين إسرائيل ومصر، لبنان، الأردن، وسوريا.
حملة السويس، 29 أكتوبر/تشرين الأول - 4 نوفمبر/تشرين الثّاني 1956
خلال الخمسينات كان هناك توتّر بين إسرائيل ومصر، كان الرئيس جمال عبدالناصر قد أصبح زعيما في العالم العربي. وكان تأميم قناة السويس في 1956 فرصة لإسرائيل مع بريطانيا وفرنسا، لمهاجمة مصر وأحتلال جزء من فلسطين كان تحت سيطرت مصر منذ 1949، قطاع غزة.
بريطانيا العظمى وفرنسا ربطت الهجوم بنزاعها مع رئيس مصر جمال عبدالناصر، الذي أمّم قناة السويس. و سيطر ناصر على القناة بعد سحب بريطانيا العظمى وفرنسا لعروض تمويل إنشاء السد العالي في أسوان. أحرزت إسرائيل نصرا سريعا، بأستلائها على قطاع غزة وسيناء خلال بضعة أيام. كما وصلت القوات الإسرائيلية الى ضفة قناة السويس، الجيوش البريطانية والفرنسية بدأت الهجوم.
القتال أوقف بالأمم المتّحدة بعد بضعة أيام، وقوة طوارئ من الأمم المتّحدة أرسلت للإشراف على وقف إطلاق النار في منطقة القناة. وفي حالة نادرة للتعاون، الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي دعما قرار للأمم المتحدة يجبر دول الإحتلال الثلاثة لترك مصر وغزة. بنهاية السنة كل القوات إنسحبت من مصر، لكن إسرائيل رفضت ترك غزة حتى 1957، وذلك بعد أن وعدت الولايات المتحدة بمساعدتها على حلّ النزاع والإبقاء على مضيق تيران مفتوح.
الحرب ستّة أيام، 5-10 يونيو/حزيران 1967
القومية العربية بعد حرب السويس في سيناء زادت بشكل مثير، كما كان هناك مطالب بالإنتقام تحت قيادة الرئيس جمال عبدالناصر. كما تم تشكيل القيادة العسكرية العربية المتّحدة و تم حشّد القوّات على طول الحدود، و مع إغلاق مصر لمضيق تيران و إصرار ناصر في 1967 على خروج قوات الأمم المتحدة من مصر، قامت إسرائيل بمهاجمة مصر، الأردن، و سوريا بشكل آني في 5 حزيران/يونيو من تلك السنة. الحرب أنتهت بعد ستّة أيام بنصر إسرائيلي. قضت القوات الجوية الإسرائيلية المجهّزة بالسلاح الفرنسي على القوّات الجوّية المصرية.
حرب الأيام الستّة تركت إسرائيل محتلة لغزة وشبه جزيرة سيناء التي أخذت من مصر، القدس الشرقية العربية والضفة الغربية الذي أخذت من الأردن، ومرتفعات الجولان أخذت من سوريا.
حرب أكتوبر، 6-24 أكتوبر/تشرين الأول 1973
في 1973 دخلت مصر وسوريا في حرب مع إسرائيل لإستعادة الأقاليم المحتلة في 1967. هاجمت الدول العربية بشكل غير متوقّع في 6 تشرين الأول/أكتوبر الذي يصادف يوم عيد الغفران.
بعد عبور قناة السويس كانت القوات العربية تكسب مواقع متقدّمة في شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان وأستطاعتا هزم القوات الإسرائيلية لأكثر من ثلاثة أسابيع.
القوات الإسرائيلية بدعم إقتصادي و عسكري أمريكي هائلة أستطاعة وقف القوات العربية بعد هزيمة ثلاثة أسابيع وعدد كبير من الإصابات.
في محاولة لكي يشجّع تسوية سلمية، أرسل الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون وزير خارجيته، هنري كيسينجر، بمهمة تفاوض لإتفاقية هدنة بين إسرائيل ومصر وسوريا. كيسنجر إستطاع تحقيق الهدنة العسكرية بين إسرائيل ومصر في سيناء وبين إسرائيل وسوريا في مرتفعات الجولان خلال 1974.
أجتياح لبنان، 1982
من 1978 وجود الفدائيين الفلسطينيين في لبنان أدّى إلى غارات على إسرائيل وغارات إسرائيلية إنتقامية.
في 6 يونيو/حزيران 1982 أطلقت إسرائيل غزوا شاملا على لبنان. في 14 يونيو/حزيران كانت بيروت مطوّقه. لوقف القتال أخلت منظمة التحرير الفلسطينيّة مواقعها والقوات السورية في 21-31 أغسطس/آب.
في فبراير/شباط 1985 كان هناك إنسحاب إسرائيلي أحادي الجانب من لبنان. أبقت إسرائيل على منطقة شريط أمني في جنوب لبنان بدعم جيش لبنان الجنوبي كحاجز ضدّ هجمات الفدائين الفلسطينيين.
قامت إسرائيل بمذابح في معسكرات لاجئين الفلسطينيين في لبنان بقتل مئات من الفلسطينيين العزل. محادثات بين إسرائيل ولبنان، بين ديسمبر/كانون الأول 1982 وأيار/مايو 1983، أدّى إلى إتفاقية بتخطيط من قبل وزير الخارجية الأمريكي جورج شولز، تطالب بإنسحاب كلّ القوات الأجنبية من لبنان خلال ثلاثة شهور. رفضت سوريا أن تعترف بالإتفاقية.
في 1984، تحت ضغط من سوريا، الرئيس اللبناني جميل ألغى معاهدة 1983 مع إسرائيل، لكن حكومة الوحدة الوطنية في تل أبيب واصلت التخطيط لإنسحاب قواتها. مجموعات فدائية من المسلمين الشيعه في جنوب لبنان أخذت بمهاجمة القوّات الإسرائيلية المغادرة. إنتقمت إسرائيل بمهاجمة القرى الشيعية. أكمل الإنسحاب بحلول شهر يونيو/حزيران 1985.
الإنتفاضة، 1987 - 1991
رئيس الوزراء بيريز قابل الملك حسين ملك الأردن بشكل سري في جنوب فرنسا 1985، بعد ذلك، في خطاب إلى الأمم المتّحدة، قال بيريز بأنّه ليس هناك ما يمنع إمكانية عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط. منظمة التحرير الفلسطينيّة بقيادة ياسر عرفات عقدت محادثات أيضا مع حسين وبعد ذلك، في القاهرة، أدان النشاط الفدائي لمنظمة التحرير الفلسطينيّة خارج المناطق المحتلة. في إسرائيل، حكومة الوحدة الوطنية كانت لها بعض النجاح في السياسات الإقتصادية، هبط معدل التضّخم في 1986 إلى مستويات مقبولة، لكن من 1987 كان لها أن تواجه بإنتفاضة فلسطينية منظّمة في المناطق المحتلة.
العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين دخلت طورا جديدا في أواخر 1987 بالإنتفاضة، وهي سلسلة إنتفاضات ضد المحتلّين في الأراضي المحتلة و تتضمّن المظاهرات، الإضرابات، ورمي الحجارة و الهجمات على الجنود الإسرائيليين. الردّ القاسي لحكومة إسرائيل عرّضها لإنتقاد من كل من الولايات المتحدة والأمم المتّحدة و العالم.
بدأت الإنتفاضة في 8 ديسمبر/كانون الأول 1987 في قطاع غزة. بعد حادث مروري متعمد قتل 6 فلسطينيين كان مدبرا من جهاز الأمن الإسرائيلي للإنتقام لطعن إسرائيلي الإسبوع السابق. حوالي 1,300 فلسطيني و80 إسرائيلي قتلوا في الإنتفاضة بنهاية 1991. العديد من البيوت الخاصّة الفلسطينية كانت قد نسفت عن طريق القوات العسكرية الإسرائلية.
الضفة الغربية
الضفة الغربية، إقليم في جنوب غرب آسيا، في الشرق الأوسط، حدودة غربا من نهر الأردن، إحتلّ من قبل إسرائيل منذ 1967. يغطّي منطقة حوالي 5879 كيلومتر مربع ، عدد السكان حوالي 973,500 نسمة . السكان هم عرب فلسطينيون. هناك بعض اليهود الذين إستوطنوا في المنطقة منذ 1967. الضفة الغربية كانت جزءا من الأنتداب البريطاني من عصبة الأمم على فلسطين من 1922 إلى 1948، بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى في 1948، سيطر الأردن على المنطقة في 1949. في 1967 إستولت علي المنطقة إسرائيل خلال حرب الأيام الستّة.
وفق الإتفاقيات في أواخر السبعينات بين مصر وإسرائيل، تقرر إعطاء الفلسطينين الحكم الذاتي في الضفة الغربية ، لكن أخفقت المفاوضات اللاحقة في تقرير طبيعة الحكومة في الإقليم.
بداية في ديسمبر/كانون الأول 1987، بدأت الإنتفاضة في الضفة الغربية وقطاع غزة مطالبة بتقرير المصير الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية التى إحتلّت من قبل إسرائيل. في نوفمبر/تشرين الثّاني 1988 أعلنت منظمة التحرير قيام دولة فلسطين التي تضمّ الضفة الغربية وقطاع غزة مستندة على قرار الأمم المتحدة رقم 242 وقرارات الأمم المتحدة الآخرى المتعلقة بالنزاع الإسرائيلي العربي.
بعد عقود من العنف بين العرب والإسرائيلين في الضفة الغربية، زعماء منظمة التحرير وإسرائيل وافقوا على توقيع أتفاقية أعلان مبادئ تاريخية في 13 أيلول/سبتمبر 1993. الزعيم ياسر عرفات و رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين أجتمعا في الولايات المتحدة لتوقيع الإتفاقية، التي وعدت بتأسيس نظام الحكم الذاتي الفلسطيني المحدود، بداية في قطاع غزة ومدينة أريحا في الضفة الغربية. في أيار/مايو 1994 القوّات الإسرائيلية أنسحبت من أريحا و سيطرت السلطة الفلسطينية على المدينة.
أعلان قيام دولة فلسطين
في 15 نوفمبر 1988، في إجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر أعلن قيام دولة فلسطين وفق قرار التقسيم الصادر من الأمم المتّحدة رقم 181. الأعلان يحدد قيام الدولة على قطاع غزة و الضفة الغربية التي تخضع حاليا للإحتلال الإسرائيلي منذ 1967.
قدم للعالم العلم والنشيد الوطني للدولة الجديدة.
في 13 سبتمبر 1993، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وقّع بيان أعلان مبادئ في واشنطن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين للحكم الذاتي الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية مستند على قرار الأمم المتحدة 242 وقرارات الأمم المتحدة الآخر المتعلّقة بالنزاع العربي الإسرائيلي، بدأ الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ومدينة أريحا في الضفة الغربية في 1994.
في تموز/يوليو 1994، الرئيس عرفات دخل غزة كرئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية الجديدة، وهي الجسم السياسي المسؤول عن الحكم في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني.
السلطة الوطنية الفلسطينية
الهيئة الحاكمة المؤقتة التي عيّنت في تموز/يوليو 1994 لإدارة الشؤون الفلسطينية في قطاع غزة المحرّر حديثا وأريحا. برئاسة ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. لها سلطة قضائية على كلّ المناطق المحررة، وتحتفظ إسرائيل بمسؤولية الدفاع الخارجي والشؤون الخارجية.
الرئيس
محمد ياسر القدوة الحسيني
ياسر عرفات
الرئيس ياسر عرفات، رئيس لجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية و رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية.
محمد ياسر القدوة الحسيني
التاريخ ومكان الولادة - 24 أغسطس/آب 1929، في قطاع غزة.
في 1958، ترك مصر إلى الكويت حيث عمل فيها بمهنة مهندس وقابل أبوجهاد في الكويت، ناقشا فكرة تأسيس “ فتح ” حركة التحرير الوطنية الفلسطينية. بعد ذلك عاد إلى فلسطين حيث قابل مجموعة من النشطاء الفلسطينيين والمؤسسين لحركة فتح في الأول من يناير/كانون الثّاني 1965.
بقى في القدس حتى 1967، ثمّ ترك إلى الأردن. وبشكل سري عادت إلى فلسطين 3 مرات.
قاد معركة الكرامه في 1968 مع زملائه الفلسطينيين في فتح حيث أنتصرت المقاومة الفلسطينية بالمعركة ضدّ الإسرائيليين.
إنتخب كرئيس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في 1969 لكي يكون الرئيس الثالث بعد أحمد الشقيري و يحي حمودة. وما زال هو رئيس اللجنة حتى هذا الوقت.
إثر حرب سبتمبر/أيلول 1969 في الأردن، إنتقل إلى لبنان و أستقر هناك حتى 1982 حيث كانت بيروت تحت الحصار لثلاثة شهور من قبل الجيش الإسرائيلي الذي أخفق في قهر منظمة التحرير. بعدها ترك بيروت إلى تونس.
في 1987، إنفجرت الإنتفاضة الفلسطينية في فلسطين المحتلّه ودامت حتى 13 سبتمبر/أيلول 1993 عندما وقع الرئيس عرفات بيان أعلان المبادئ في واشنطن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين.
في 4 أيار/مايو 1994 وقع الرئيس عرفات إتفاقية القاهرة مع رابين.
في تموز/يوليو 1994، دخل غزة بعد 27 سنة.
في 1994، منح الرئيس عرفات جائزة نوبل للسلام التي إشترك فيها مع رئيس الوزراء رابين والسّيد شمعون بيريز.
في 1995 وقّع إتفاقية طابا.
في 20 يناير/كانون الثّاني 1996، إنتخب كرئيس للسلطة الوطنية في الإنتخابات الحرّة العامّة الأولى للشعب الفلسطيني على أرضه حيث حصل على 83% من الأصوات.
المجلس التشريعي الفلسطيني
المجلس التشريعي الفلسطيني الأول المنتخب كان قد نص على تأسيسة في بيان أعلان المبادئ. الفكرة تطورة مرة أخرى في الإتفاقية الإسرائيلية الفلسطينية المؤقتة (أوسلو الثّانية) من حيث التركيب، السلطة القضائية، الوظائف، الحجم، والمسؤوليات.
إنّ المجلس التشريعي الفلسطيني مسؤول عن التشريع ومنه تعين أغلبية السلطة التنفيذية (80% من مجلس الوزراء).
لجان المجلس
المجلس أسّس إحدى عشرة لجنة دائمة في إجتماعه الثاني في 4 نيسان/أبريل 1996.
اللجان الدائمة للمجلس
لجنة القدس
لجنة الأراضي ولجنة التسويات
لجنة الاجئين الفلسطينيين في الخارج
اللجنة السياسية
اللجنة القانونية
لجنة الميزانية
اللجنة الإقتصاد
اللجنة الشؤون الداخلية
لجنة التعليم والقضايا الإجتماعية
لجنة الموارد الطبيعية والطاقة
لجنة حقوق الإنسان والحريات العامّة
اللاجئون الفلسطينيون - 1948
في الفترة من 1917 إلى 1949، إحتلت إسرائيل 78% من أرض فلسطين وطردت أو تسبّبت بهروب أكثر من 750,000 فلسطيني إلى قطاع غزة، الضفة الغربية وبلدان عربية آخر مثل سوريا، لبنان، الأردن وغيرها. أزمة اللاجئين الفلسطينيين، الذين يعدّون 3.4 مليون الآن، بقيت أكثر المشاكل الملحّة في قضية الشرق الأوسط.
فيما يلي الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة...
1. الإنتداب البريطاني
قانون حكومة الإنتداب صرّح بأن “ حكومة الإنتداب البريطانية يجب أن تشجّع بالتعاون مع الوكالة اليهودية، على هجرة اليهود الى فلسطين و السعى لإمتلاكهم الأراضي في فلسطين ”. وفقا لذلك، قام المندوب السامي البريطاني في فلسطين، السّيد هيربيرت ساموئيل، بأصدار قانون نقل الملكية مع عدد من الملاحق. بهذا القانون، أصدر المندوب السامي مرسوما في 1 تموز/يوليو 1920 بمصادرة 3390 دونم مربّع في منطقة كارم آبو حسين في القدس. في أغسطس/آب 1924، حكومة الإنتداب البريطانية صادرت مناطق كبيرة من أرض فلسطين، وأعطيت للوكالة اليهودية. تبرّعت حكومة الإنتداب البريطانية إلى شركة بوتاتش اليهودية بمساحة 75,000 دونم ، وإلى شركة الكهرباء اليهودية بمساحة 18.000 دونم مجّانية لتشجيع المشاريع اليهودية. المندوب السامي البريطاني صادر أراضي فلسطينية أكثر لإنشاء الطرق الجديدة للمستوطنات اليهودية. القرى الفلسطينية أهملت بالكامل.
2. خطة التقسيم
قرار تقسيم فلسطين في 1947 جاء ليكمل القوانين الظالمة والأوامر العسكرية التي أصدرها البريطانيين وحكومة الإنتداب. تقسيم فلسطين كان غير عادل وغير قانوني لأنة أخفق في إستشارة أغلبية الفلسطينيين المقدر عددهم في ذلك الوقت بأكثر من 90% من سكان فلسطين. إفتقر القرار إلى العدالة والمساواة لأنة أعطي اليهود و هم أقلية حولي 56% من الأرض، وأغلبها مناطق ساحلية خصبة و43% من الأرض إلى الأغلبية الفلسطينية،وهي أرض في مناطق جبلية وعرة.
إبتداء من 19 نوفمبر/تشرين الثّاني 1947، زادت حالة التوتّر بين العرب واليهود في فلسطين. أعلنت الحكومة البريطانية خطتها للإنسحاب من فلسطين في 15 أيار/مايو 1948.
أعلن قيام دولة إسرائيل في 15 أيار/مايو 1948، برئاسة حاييم وايزمان أول رئيس وزراء لإسرائيل.
3. الحالة الأقتصادية
منذ 1920، وضعت حكومة الإنتداب البريطانية فلسطين في وضع إداري و إقتصادي صعب، وحالة سياسية غير مستقرة، لتسهيل أنشاء الدولة اليهودية ولإجبار الفلسطينيين لطلب فرص العمل في الدول العربية المجاورة.
4. المذابح الصهيونية
لكي يدفع العرب الفلسطينيين العزّل الغير مسلّحين لترك بيوتهم. المجموعات الإرهابية اليهودية مثل الإرجون و الهاجانا و السترنج جانج لجأت للأرهاب بعد فشل طرق أخرى كثيرة. في 9 أبريل/نيسان 1948، عصابة الإرجون تحت قيادة مناحيم بيجين، (أصبح لاحقا رئيس وزراء لإسرائيل و زعيم معارضة في البرلمان الإسرائيلي)، هاجمت العصابة قرية دير ياسين العربية الصغيرة قرب القدس. القتلي وفق شاهد عيان و هو السيد جاك رينير، المندوب الرئيسي للصليب الأحمر الدولي، الذي وصل إلى القرية وشهد أثار المذبحة، قدر بثلاثمائة شخص وقد ذبحوا بدون أيّ سبب عسكري أو إستفزاز من أيّ نوع. رجال، نساء، عجائز، أطفال، مواليد جدد قتلوا بشكل وحشي بالقنابل والسكاكين من قبل القوّات اليهودية لعصابة الأرجون.
الهدف وراء مذبحة دير ياسين و مئات غيرها كان إفزاع السكان العرب المدنيين، وإجبارهم للهروب. الخطة أفلحت وهرب عدد كبير من الفلسطينيين من الإرهاب، لإنقاذ حياتهم. قبل 15 أيار/مايو 1948، بينما الحكومة البريطانية ما زالت مسؤولة، إحتلّ اليهود العديد من المدن العربية مثل يافا وحيفا وأعداد كبيرة من القرى التي كانت في دّاخل الإقاليم التي خصّصت بقرار الأمم المتحدة للدولة العربية و طرد أكثر من 300,000 فلسطيني من بيوتهم. في محاولة لوقف هذا المدّ، أرسلت الدول العربية المجاورة جيوشهم في 15 أيار/مايو 1948 إلى فلسطين. في 15 تموز/يوليو 1948 فرضت الأمم المتّحدة الهدنة النهائية بين إسرائيل والعرب، وفي ذلك الوقت كانت إسرائيل تحتلّ جزء أكبر من الإقليم المخصص لها وفق قرار التقسيم.
5. الجيش الإسرائيلي
نظرا لعدوان الجيش الإسرائيلي الذي إستمرّ بعد حرب 1948 على الفلسطينيون، أجبر عدد كبير منهم للإنتقال إلى قطاع غزة و الضفة الغربية.
قضية لاجىء في الأمم المتّحدة
وسيط الأمم المتّحدة في فلسطين، الكونت بيرنادوت، في تقريره الذي قدّمه إلى الجمعيّة العموميّة في 16 سبتمبر/أيلول 1948، أعلن "أنة على أية حال، يستحيل أنكار أنه لن يكون هناك تسوية يمكن أن تكون كاملة و نهائية الا إذا تم الإعتراف بحقوق اللاجئين العرب بالعودة إلى بيوتهم التي طردوا منها خلال النزاع المسلّح بين العرب واليهود في فلسطين. وغير ذلك سيكون مخالفة لمبدأ العدالة إذا أن هؤلاء الضحايا الأبرياء للصراع أنكر حقهم بالعودة إلى بيوتهم، بينما المهاجرون اليهود يصلون الى فلسطين." هذا البيان كلف بيرنادوت كثيرا. في اليوم التالي أغتيل هو ومساعده الفرنسي كانت في القطاع الإسرائيلي للقدس من قبل الإرهابيين اليهود.
في 11 ديسمبر/كانون الأول 1948 الجمعيّة العموميّة ناقشت تقرير بيرنادوت وقرروا "حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين يرغبون بالعودة إلى بيوتهم والعيش بسلام مع جيرانهم و على إسرائيل تسهيل ذلك." منذ ذلك الوقت و إسرائيل تواصل تحدّي الأمم المتّحدة وتمنع عودة اللاجئين إلى بيوتهم.
المسؤولية الصهيونية
من المثير للإهتمام ملاحظة أن الدعاية الصهيونية بدأت في محاولة لتجنب مسؤوليتها نحو اللاجئين، بالبدأ بحملة إعلامية تتدعي أنّ اللاجئين تركوا بيوتهم بإرادتهم ودون تدخل من قبل اليهود و أنهم تحركوا بناء على أوامر صدرت لهم من قبل زعمائهم العرب.
إرسكين تشيلدرس، صحفي ومؤلف آيرلندي وفي الوقت الحاضر هو رئيس جمهورية إيرلندا، كرّس شهور من حياتة للنظر في هذا الأدعاء و تأكد من أن ليس له أساّس من الصحة. حيث فحص سجلات المراقبة الأمريكية والبريطانية في كلّ الشرق الأوسط خلال 1948 وقرر أنة "ما كان هناك طلب أو نداء أو إقتراح واحد حول إخلاء العرب لمساكنهم من قبل أيّ محطة أذاعة عربية داخل أو خارج فلسطين في 1948. بل هناك تكرّار لتسجيلاتّ من الإذاعات العربية، تطالب المدنيين في فلسطين بالبقاء."
ناثان تشوفشي، كاتب يهودي هاجر من روسيا إلى فلسطين. صرّح بأنة "إذا أراد أحد معرفة حقيقة ما حدث، وأنا أحد المستوطنون كبار السن في فلسطين من الذين شهدوا حرب الطيران، يمكن أن أخبركم أنة بإسلوب ما منا نحن اليهود، أجبرنا العرب لترك مدنهم وقراهم. هنا كان هناك شعب عاش في بيوتهم و علي أرضهم لأكثر من 1300 سنة. جئنا وحوّلنا العرب المحليون إلى لاجئين. ونحن ما زلنا نتجاسر للإفتراء عليهم والطعن بهم لتلويث سمعتهم. بدلا من أن نخجل مما عملنا ونحاول تصحيح بعض من الشرّ الذي قمنا بة عن طريق مساعدة اللاجئين على حل هذة القضية، نبرّر أفعالنا الفظيعة ونمجدها."
قانون إستملاك الأراضي
عمل الإسرائيليين على رفض السماح لعودة اللاجئين إلى بيوتهم، وأكملوا المأساة بالإستيلاء على كلّ الممتلكات الخاصة بهم في واحدة من أعظم أعمال النهب في التاريخ الحديث. مصادرة الأرض العربية لم تحصر في أملاك اللاجئون لكن أمتدت إلى الفلسطينيين البالغ عددهم 200,000 الذين بقوا في بيوتهم في 1948، وذلك بسلسلة من القوانين والتعليمات الإستثنائية في عملية سرقة مشرّعة. من تلك القوانين قانون إستملاك الأراضي ونظام المناطق المتروكة في 1949 وقانون الملكية الغائبة في 1948 وغيرها. الظلم الذي وقع على العرب في إسرائيل ذهب بعيدا إلى ما بعد نزع ملكية مزارعهم و بيوتهم بإنتهاك صارخ لحقوقهم والحريات المدنية الممنوحة لهم.
اللاجئون الفلسطينيون - 1967
في حرب 1967، بدأت إسرائيل الضربات الجويّة ضدّ المدن الفلسطينية والبلدات في قطاع غزة والضفة الغربية، الغارات الجوية دفعت آلاف الفلسطينيين للهروب من قراهم وبلداتهم لطلب الملجأ بعيدا عن قصف المدفعية الإسرائيلي. الحرب أدّت إلى نزوح أكثر من 350.000 من الفلسطينيين. عدد من المعسكرات الجديدة تم تأسيسة لإمتصاص هذا العدد الكبير من اللاجئين.
الإحتلال وقضية اللاجئين في الأمم المتّحدة
مجلس الأمن والجمعيّة العموميّة دعوا إسرائيل في 14 يونيو/حزيران 1967 و14 تموز/يوليو 1967 لتمكين عودة اللاجئون. تظاهرة إسرائيل بالإمتثال. الفلسطينيون، إنتظروا لعشرين سنة في المعسكرات البائسة متمنّين تحرك الضمير العالمي والأمم المتّحدة للسماح لهم بالعودة إلى بيوتهم وأعادة حقوقهم الشرعية في موطنهم، وكان كلّ ذلك بدون جدوى. صادقت الأمم المتّحدة على القرارات لكن لم تفرضها، عندما تعارضت مع رغبات إسرائيل و الرأي العام العالمي والأمريكي كان أصمّ و لم يسمتع الى صيحات الفلسطينيين بينما كانت الدعاية الصهيونية تطالب بإستيراد 3,000,000 يهودي روسي. إسرائيل جادلت بأن حق العودة للفلسطينيين سيخلقون مشاكل أمنية لإسرائيل. الموقف الإسرائيلي طبّق أيضا إلى كلّ الفلسطينيون الذين تركوا البلاد لطلب العمل في الدول الخليجية، الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا.
الفلسطينيون، وجدوا كلّ بلادهم تحت الإحتلال الإسرائيلي والشعب بالكامل أما لاجئين أو تحت الأحتلال الأجنبي، لقد فقدوا الثقة في المجتمع الدولي وأدركوا في عصر الحضارة والقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، أن الحقوق المأخوذة بالقوة لا يمكن أن يستعاد لا بالقوة. لذلك، مقاوموا بهجمات فدائية ضدّ أفراد الجيش والأهداف الإسرائيلية. الإسرائيليون إنتقموا بإستعمال القصف القاسي بطائرات والنابالم ضدّ الرجال العزّل والنساء والأطفال في المعسكرات في الأردن، لبنان وسوريا.
تاريخ فلسطين قبل الإسلام
وقفات مع تاريخ صراع الحق والباطل على أرض فلسطين:
قدر الله سبحانه وتعالى أن تكون فلسطين أرضاً للرسل والأنبياء الذين حملوا راية التوحيد، ودعوا أقوامهم إلى الالتزام بها. وقد شهدت فلسطين في تاريخها القديم نماذج عنيفة في سبيل تثبيت راية الحق على الأرض المباركة .
ويجب –قبل أن نخوض في التفاصيل – أن نثبت حقيقة مهمة، وهي أن المسلمين يؤمنون بكل الأنبياء ويعتبرون تراث الأنبياء تراثهم، ويعتبرون رسالتهم الإسلامية امتداداً لرسالات الأنبياء الذين جاءوا من قبلهم، وأن الدعوة التي دعا إليها الأنبياء هي نفس الدعوة التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم وبالتالي فإن رصيد تجربة الأنبياء في دعوتهم للحق وعبادة الله وحده لا تنفصم عن دعوة المسلمين ورصيد تجربتهم .
وانظر إلى قوله سبحانه {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، فهي رسالة التوحيد التي يدعو إليها كل رسول. وعندما كان يكذب أي قوم رسولهم فقد كان ذلك تكذيباً لجميع المرسلين، وتأمل قوله تعالى في {كذبت قوم نوح المرسلين}، {كذبت عاد المرسلين}، {كذبت ثمود المرسلين}، {كذبت قوم لوط المرسلين}، {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} .
ويغرق العديد من المؤرخين عند مواجهتهم لادعاءات اليهود المعاصرين بحقهم في فلسطين في الانشغال بعلوم الآثار، وذكر الشعوب التي استوطنت أو حكمت أو مرت على فلسطين وكم حكم كل منها هذه الأرض ليخرجوا في النهاية بنتيجة مؤداها ضآلة الفترة والمساحة التي حكم فيها اليهود عبر التاريخ مقارنة بالعرب والمسلمين، ورغم أن هذا الجانب مفيد في رد ادعاءات اليهود من النواحي التاريخية والعقلية المنطقية، إلا أن كثيراً من هؤلاء الكتاب والمؤرخين يعقون في خطأين كبيرين حسبما يظهر لنا:
الأول: اعتبار تراث الأنبياء الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل أو قادوهم تراثاً خاصاً باليهود فقط، وهذا ما يريده اليهود !!
الثاني: الإساءة إلى سيرة عدد من أنبياء بني إسرائيل باستخدام الاستدلالات المستندة إلى توراة اليهود المحرفة نفسها، وهم عندما يستخدمونها فإنما يقصدون الإشارة إلى "السلوك المشين" لبني إسرائيل وقادتهم عندما حلوا في فلسطين، ليضعفوا من قيمة دولتهم ويبينوا انحطاط مستواهم الحضاري، ويدخل أصحاب هذا المنهج في الاستدلال بما ذكرته الإسرائيليات من اتهام للأنبياء بالغش والكذب والزنى واغتصاب الحقوق وقتل الأبرياء، في محاولات لإثبات قسوة ومكر ولؤم اليهود وتشويه صورة حكمهم ودولتهم في ذلك الزمان .
لقد كفانا القرآن الكريم مؤونة التعرف على أخلاق اليهود وفسادهم وإفسادهم، غير أن أنبياءهم وصالحيهم أمر آخر، فالأنبياء خير البشر، ولا ينبغي الإساءة إليهم والانجرار خلف الروايات الإسرائيلية المحرفة، التي لا تسيء للأنبياء فقط وإنما لله تبارك وتعالى .
وعلى سبيل المثال تذكر التوراة المحرفة والتلمود أن الله (تعالى عما يقولون علواً كبيراً) يلعب مع الحوت والأسماك كل يوم ثلاث ساعات،وأنه بكى على هدم الهيكل حتى صغر حجمه من سبع سموات إلى أربع سموات، وأن الزلازل والأعاصير تحدث نتيجة نزول دمع الله على البحر ندماً على خراب الهيكل، هذا فضلاً عما ذكره القرآن من ادعاءاتهم {وقالت اليهود يد الله مغلولة}، {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء}.
كما ينسب اليهود إلى سيدنا يعقوب عليه السلام سرقة صنم ذهبي من أبيه، وأنه صارع الله (!!) قرب نابلس وسمي لذلك بإسرائيل، كما تنسب له رشوة أخيه وخدعه أبيه وأنه سكت عن زنا ابنتيه وأنه أشرك بربه . . !! وقس على ذلك ما ذكروا عن باقي الأنبياء عليهم السلام .
لقد حرف اليهود التوراة، وساروا على نهج التوراة المحرفة في أخلاقهم وفسادهم وإفسادهم محتجين بما نسبوه إلى أنبيائهم كذباً وزوراً، ومن الواجب على المؤرخين وخصوصاً المسلمين ألا يندفعوا في استقرائهم لتاريخ فلسطين إلى اتهام أنبياء الله بما افتراه عليهم اليهود وذلك في سبيل إثبات حق الأقوام الأخرى في فلسطين .
وإذا كانت رابطة العقيدة والإيمان هي الأساس الذي يجتمع عليه المسلمون مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم، فإن المسلمين هم أحق الناس بميراث الأنبياء – بما فيهم الأنبياء وهم السائرون على دربهم وطريقهم وهؤلاء الأنبياء هم مسلمون موحدون حسب الفهم القرآني، وانظر إلى قوله تعالى {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}، وقوله تعالى {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك . .}، وقوله تعالى {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون}.
وبشكل عام فأمة التوحيد هي أمة واحدة من لدن آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأنبياء الله ورسله وأتباعهم هم جزء من أمة التوحيد، ودعوة الإسلام هي امتداد لدعوتهم، والمسلمون هم أحق الناس بأنبياء الله ورسله وميراثهم .
فرصيد الأنبياء هو رصيدنا، وتجربتهم هي تجربتنا، وتاريخهم هو تاريخنا، والشرعية التي أعطاها الله للأنبياء وأتباعهم في حكم الأرض المباركة المقدسة هي دلالة على شرعيتنا وحقنا هي هذه الأرض وحكمها .
نعم، لقد أعطى الله سبحانه هذه الأرض لبني إسرائيل عندما كانوا مستقيمين على أمر الله وعندما كانوا يمثلون أمة التوحيد في الأزمان الغابرة، ولسنا نخجل أو نتردد في ذكر هذه الحقيقة وإلا خالفنا صريح القرآن، ومن ذلك قول موسى عليه السلام لقوله {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقبلوا خاسرين}، غير أن هذه الشرعية ارتبطت بمدى التزامهم بالتوحيد والالتزام بمنهج الله، فلما كفروا بالله وعصوا رسله وقتلوا الأنبياء ونقضوا عهودهم وميثاقهم، ورفضوا اتباع الرسالة الإسلامية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم والذي بشرّ به أنبياء بني إسرائيل قومهم {الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل}، {ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}، فلما فعلوا ذلك حلت عليهم لعنة الله وغضبه، {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية}، وقال تعالى {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل}.
واستطراداً في مناقشة الادعاءات اليهودية بحقهم في فلسطين وفق نصوص التوراة، نشير إلى ما يذكرونه في التوراة المحرفة من إعطاء هذه الأرض لإبراهيم عليه السلام ونسله .
ومما جاء فيها "وقال الرب لإبراهيم: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فذهب إبراهيم كما قال الرب، فأتوا إلى أرض كنعان، وظهر الرب لإبراهيم وقال :لنسلك أعطي هذه الأرض"، وجاء في التوراة المحرفة أيضاً "وسكن (إبراهيم) في أرض كنعان فقال له الرب: ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد"، وجاء فيها أيضاً "قطع الرب ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" .
وللرد على ذلك – فضلاً عن فهمنا للمسألة في أصلها الشرعي – نقول:
1. إذا كان هناك عهد فقي أعطي لإبراهيم عليه السلام ولنسله، وليس بنو إسرائيل وحدهم نسل إبراهيم، فالعرب المستعربة هم من نسله أيضاً (أبناء إسماعيل عليه السلام) ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم .
2. إذا كانت المسألة مرتبطة بالنسل والتناسل فالدلائل تشير إلى أن الأغلبية الساحقة لليهود في عصرنا ليست من نسل إبراهيم عليه ا لسلام وذلك أن معظمهم يهود اليوم هم من يهود الخزر الذين دخلوا هذا الدين في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين !!
3. إن القرآن الكريم يوضح مسألة إمامة سيدنا إبراهيم وذريته في شكل لا لبس فيه، وتأمل قوله تعالى {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماماً ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}. فعندما سأل إبراهيم الله أن تكون الإمامة في ذريته بيّن الله له أن عهده لذريته بالإمامة لا يستحقه ولا يناله الظالمون، وأي ظلم وكفر وصد عن سبيل الله وإفساد في الأرض أكبر مما فعله ويفعله بنو إسرائيل !!
أما ما يتعلق بادعاءات اليهود التاريخية فقد كفانا الكثير من المؤرخين مؤونة الرد عليها ففترة حكم فلسطين تحت راية الإسلام هي أطول الفترات التاريخية، والشعوب التي استوطنت فلسطين قبل مجيء اليهود بأكثر من ألف عام ظلت مستقرة فيها حتى الآن، وقد اندمجت بها الهجرات العربية قبل وبعد الفتح الإسلامي وهي التي يتشكل منها شعب فلسطين الحالي بدينه الإسلامي ولغته وسماته.
فلسطين في العصور القديمة
سكن الإنسان أرض فلسطين منذ العصور الموغلة في القدم، وهناك آثار تعود إلى العصر الحجري القديم (500 ألف – 14 ألف ق.م)، والعصر الحجري الوسيط (14 ألف – 8 آلاف ق.م) حيث يطلق على هذا العصر في فلسطين الحضارة النطوفية نسبة إلى مغائر النطوف شمال القدس، وأصل النطوفيين غير معروف حتى الآن وتركزت حضارتهم على الساحل وعاشوا في المغائر والكهوف كمغائر جبل الكرمل .
وفي العصر الحجري الحديث (8000 – 4500 ق.م) انتقلت حياة الإنسان في فلسطين إلى الاستقرار، وتحول من جمع الغذاء إلى إنتاجه، وفي أريحا ظهرت أول الدلائل على حياة الاستقرار، وهي تعتبر – حتى الآن – أقدم مدن العالم حيث أنشئت نحو 8000 ق.م.
وامتد العصر الحجري النحاسي من (4500 – 3300ق.م)، وقد كشف عن مواقع حضارية أثرية تعود إلى تلك الفترة في منطقة بئر السبع، وبين جبال الخليل والبحر الميت، والخضيرة على السهل الساحلي .
وتميزت بداية الألف الثالث قبل الميلاد بظهور الإمبراطوريات القديمة في الشرق، وقد رافق ذلك التوصل إلى الكتابة والبدء بتدوين التاريخ، ومن هنا تبدأ العصور التاريخية في فلسطين .
ويطلق على الفترة الممتدة من (3300 – 2000 ق.م) اسم العصر البرونزي القديم، وقد تميزت هذه الفترة بظهور المدن التحصينية الدفاعية التي قامت على هضاب مرتفعة، وانتشرت بأعداد كبيرة، وكانت غالبيتها في وسط وشمال فلسطين، ومن أهم المواقع بيسان ومجدو والعفولة ورأس الناقورة وتل الفارعة غرب نابلس. وفي الألف الثالث قبل الميلاد زاد عدد سكان فلسطين ونمت المدن وأصبح لها قوة سياسية واقتصادية مما يمكن تسميته عصر "دويلات المدن" .
وخلال الألف الثالث قبل الميلاد هاجر إلى فلسطين العموريون (الأموريون) والكنعانيون، وكذلك اليبوسيون والفينقيون (وهما يعتبران من البطون الكنعانية)، وعلى ما يظهر فقد كانت هجرتهم إلى فلسطين حوالي 2500 ق.م، حيث استقر الكنعانيون في سهول فلسطين، وتركز العموريون في الجبال، واستقر اليبوسيون في القدس وما حولها وهم الذين أنشأوا مدينة القدس وأسموها "يبوس" ثم "أورسالم"، أما الفينيقيون فاستقروا في الساحل الشمالي لفلسطين وفي لبنان .
ويرى ثقات المؤرخين أن العموريين والكنعانيين واليبوسيين والفينيقيين قد خرجوا من جزيرة العرب وأن سواد أهل فلسطين الحاليين وخاصة القرويين هم من نسل تلك القبائل والشعوب القديمة أو من العرب والمسلمين الذين استقروا في البلاد إثر الفتح الإسلامي لها .
لقد كانت هجرة الكنعانيين واسعة في تلك الفترة بحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد، واسم أرض كنعان هو أقدم اسم عرفت به أرض فلسطين، وقد أنشأ الكنعانيون معظم مدن فلسطين، وكان عددها – حسب حدود فلسطين الحالية – لا يقل عن مائتي مدينة خلال الألف الثاني قبل الميلاد وقبل قدوم العبرانيين اليهود بمئات السنين. ومن المدن القديمة فضلاً عن أريحا والقدس مدن شكيم (بلاطة، نابلس) وبيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدود وعاقر وبئر السبع وبيت لحم .
ثم جاء العصر البرونزي الوسيط (2000 – 1550 ق.م) حيث شهد النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد حكم الهكسوس الذين سيطروا على فلسطين خلال القرون (18 –16ق.م) وعلى ما يظهر ففي هذا العصر (حوالي 1900ق.م) قدم إبراهيم عليه السلام ومعه ابن أخيه لوط عليه السلام إلى فلسطين وهناك ولد إسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام .
وبدأ العصر البرونزي المتأخر (1550 – 1200) بانزواء حكم الهكسوس ودخول فلسطين تحت سيطرة الحكم المصري المطلق، أما العصر الحديدي (1200 – 320ق.م) فيظهر أنه في بدايته (1200 ق.م تقريباً) استقبلت فلسطين مجموعات مهاجرة من مناطق مختلفة أبرزها هجرات "شعوب البحر" التي يظهر أنها جاءت من غرب آسيا ومن جزر بحر إيجه (كريت وغيرها) وقد هاجمت هذه الشعوب في البداية سواحل الشام ومصر ولكن رعمسيس الثالث فرعون مصر صدها عن بلاده في معركة بلوزيون "قرب بور سعيد" وأذن لها أن تستقر في الجزء الجنوبي من فلسطين، وورد في النقوش الأثرية اسمها "ب ل س ت "، ومنها جاءت تسميتهم "فلسطيون" ثم زيدت النون إلى اسمهم (ربما على اعتبار الجمع) فأصبحوا فلسطينيين وقد أقام الفلسطيون خمس ممالك هي مدن غزة وأشدود وجت وعقرون وعسقلان وهي مدن المرجح أنها كنعانية قديمة غير أنهم وسعوا ونظموها ثم أنشاوا مدينتين جديدتين هما اللد وصقلغ، واستولوا على بقية الساحل حتى جبل الكرمل كما استولوا على مرج ابن عامر، وسرعان ما اندمج الفلسطيون بالكنعانيين واستعملوا لغتهم وعبدوا آلهتهم (داجون وبعل وعشتار)، ورغم أن الفلسطيين ذابوا في السكان إلا أنهم أعطوا هذه الأرض اسمهم فأصبحت تعرف بفلسطين .
ويظهر من الدلائل التاريخية المقارنة أن موسى عليه السلام قاد بني إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة في النصف الأخير من القرن 13 ق.م أي أواخر العصر البرونزي المتأخر، الذي شهد هو وبداية العصر الحديدي بداية الدخول اليهودي إلى فلسطين، ثم قيام مملكة داود وسليمان عليهما السلام 1004 – 923 ق.م التي انقسمت إلى مملكة إسرائيل 923 – 722 ق.م ومملكة يهودا 923 – 586 ق.م والتي حكمت كل منها جزءاً محدوداً من أرض فلسطين. ومنذ 730 ق.م دخلت فلسطين بشكل عام تحت النفوذ الآشوري القادم من العراق حتى 645 ق.م ثم ورثهم البابليون في النفوذ حتى 539 ق.م، وكان الآشوريون والبايليون يتداولون النفوذ على فلسطين مع مصر. ثم إن الفرس غزوا فلسطين وحكموها 539 – 332 ق.م. ثم دخلت فلسطين في العصر الهلينستي اليوناني حيث حكمها البطالة حتى 198 ق.م ورثهم السلوقيون حتى 64ق.م عندما جاء الرومان وسيطروا على فلسطين، وبعد انقسام الإمبراطورية الرومانية ظلت فلسطين تتبع الإمبراطورية الرومانية الشرقية "دولة الروم" وعاصمتها القسطنطينية حتى جاء الفتح الإسلامي وأعطاها صبغتها العربية الإسلامية سنة 636م .
دولة الحق ومسيرة الأنبياء على الأرض المقدسة
كان إبراهيم عليه السلام أول الأنبياء الذين نعلم أنهم عاشوا في فلسطين وماتوا فيها، وإبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء فمن نسله جاء الكثير من الأنبياء كإسحاق ويعقوب ويوسف وإسماعيل ومحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام .
ولد إبراهيم عليه السلام – حسبما ورد من آثار – في "أور" في العراق وعاش هناك ردحاً من الزمن حيث قام بتحطيم الأصنام ودعا إلى التوحيد وواجه النمرود وألقمه الحجة، وألقي في النار عقاباً له على تحطيم الأصنام فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وهاجر إبراهيم ومعه ابن أخيه لوط في سبيل الله، {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} .
ويظهر أن إبراهيم في البداية هاجر ومن معه إلى حران (الرها) وهي تقع الآن في جنوب تركيا إلى الشمال من سوريا، ومن هناك هاجر إلى أرض كنعان "فلسطين"، قال تعالى {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}، وحسب تقدير المؤرخين فإن قدومه إلى فلسطين كان حوالي 1900ق.م وكان هذا التاريخ بالنسبة لتاريخ العراق القديم يمثل نهاية عهد "أور الثالثة" التي حكمها السومريون وبداية العصر البابلي القديم الذي سيطرت فيه العناصر السامية القادمة من جزيرة العرب "العموريون" .
نزل إبراهيم عليه السلام في شكيم قرب نابلس ومنها انتقل إلى جهات رام الله والقدس ومر بالخليل ثم ببئر السبع حيث استقر حولها زمناً ثم ارتحل إلى مصر، وكان ذلك يوافق تقريباً عهد الأسرة الحادي عشر أو الثاني عشر لفراعنة مصر، وعاد من مصر ومعه "هاجر" التي أهداها الزعيم المصري، وذكر في رواية أنها ابنة فرعون أو إحدى الأميرات، ثم عاد إلى فلسطين فمر بجوار غزة حيث التقى أبا مالك أمير غزة، ثم تجول بين بئر السبع والخليل، ثم صعد إلى القدس، ثم إن لوطاً عليه السلام انتقل إلى جنوب البحر الميت حيث أرسل لأهل تلك المنطقة، بينما مكث إبراهيم عليه السلام في جبال القدس والخليل، وقد ولد إسماعيل عليه السلام لإبراهيم من زوجته هاجر، ثم رزق بإسحاق بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً من زوجته سارة، ويبدو أن إبراهيم رزق بأبنائه وهو في سن كبيرة نستشف ذلك من قوله تعالى على لسان سارة {يا ويلتا أآلد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً}.
ويبدو أن إبراهيم عليه السلام تردد على الحجاز أكثر من مرة، فقد أحضر إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة وقصة سعي هاجر بين الصفا والمروة وتفجر ماء زمزم مشهورة، ثم إن إبراهيم عاد فبنى مع إسماعيل الكعبة {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}. غير أن مركز استقرار إبراهيم ظل فلسطين، وفيها توفي حيث دفن في مغارة المكفيلة قرب "الخليل" وهي المدينة التي سميت باسمه عليه السلام. وقيل إنه عمّر 175 سنة .
عاصر إبراهيم عليه السلام حاكم القدس "ملكي صادق" وكان على ما يبدو موحداً وكان صديقاً له، وفي تلك الفترة كان المؤمنون بالله قلة نادرة، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم قال لزوجته سارة عندما أتى على جبار من الجبابرة "ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك"، ويظهر أن ذلك حدث عندما ذهبا لمصر، ولعلنا نستشف هذا المعنى من قوله تعالى {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله}.
وعلى كل حال فإن أبا الأنبياء إبراهيم الخليل كان رسولاً من أولي العزم من الرسل، وكان له دوره الدعوي في نشر رسالة التوحيد في فلسطين حيث كان يؤسس المساجد ويقيم المحاريب لعبادة الله في كل مكان ذهب إليه. ويظهر أنه لم يجد عناء أو عنتاً من أهل فلسطين ولم يضطر لتركها بسبب دينه ودعوته فظل مستقراً يتنقل بحرية فيها حتى توفاه الله .
أما لوط عليه السلام فقد استقر جنوب البحر الميت حيث أرسل إلى قرية "سدوم" وهؤلاء كانوا يفعلون الفاحشة بالرجال "اللواط" وقد نهاهم لوط عن هذا فأعرضوا واستكبروا فانتقم الله منهم فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل {ولوطاً إذ قال لقومه أتاتون الفاحشة ما سبقكم بها من العالمين، إنكم لتأتون الذكران شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون، وما كان جواب قومه إلا أن قالوه أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين}، {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} .
ويشير القرآن الكريم إلى أن إبراهيم عليه السلام قد عاصر رسالة لوط وهلاك قومه. فقد جاءه الملائكة وبشروه بإسحاق واخبروه بأنهم مرسلون لتدمير قوم لوط فقال لهم {إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إلا امرأته . . }، وهكذا نصر الله سبحانه رسوله لوطاً وطهر أرضه المباركة من {القرية التي كانت تعمل الخبائث}، وجاءت البشرى لإبراهيم بإسحاق ليحمل راية التوحيد من بعده على الأرض المباركة وليتواصل انتشار النور الإلهي فيها .
وعاش إسحاق في أرض فلسطين ورزقه الله سبحانه يعقوب عليه السلام "إسرائيل" والذي يعتبره اليهود أباهم، وكان إسحاق ويعقوب منارات للهدى بعد إبراهيم عليه السلام، وانظر إلى البيان القرآني في إيجازه وروعته {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} .
ولد يعقوب عليه السلام في القرن 18 ق.م (حوالي 1750ق.م) في فلسطين، غير أنه هاجر على ما يظهر إلى حران "الرها" وهناك تزوج له أحد عشر ابناً منهم يوسف عليه السلام بينما ولد ابنه الثاني عشر بنيامين في أرض كنعان "فلسطين" وقد رجع يعقوب عليه السلام وأبناؤه إلى فلسطين وسكن عند "سعيّر" قرب الخليل، وقصته وقصة ابنه بوسف مشهورة ومفصلة في سورة يوسف من القرآن الكريم. وهي التي تحكي تآمر إخوة يوسف على يوسف وإلقاءه في البئر واكتشاف قافلة له وبيعهم إياه في مصر، حيث شبّ هناك ودعا إلى الله وصمد أمام فتنة النساء وصبر في السجن حتى أكرمه الله بأن يوضع على خزائن مصر بعد تأويله الرؤيا وثبوت براءته. ثم إن يوسف استقدم أباه يعقوب وإخوته إلى مصر حيث رد الله البصر إلى يعقوب بعد أن ابيضت عيناه على فراق يوسف، كما عفا يوسف عن إخوته، وتذكر بعض الروايات أن يعقوب عاش في مصر 17 سنة غير أن دفن عليه السلام إلى جوار جده وأبيه إبراهيم وإسحاق في الخليل .
ويبدو أن تلك الفترة التي عاش فيها يعقوب وأبناؤه في مصر كانت توافق حكم الهكسوس لمصر وهم أصلاً من غير المصريين، ويمثل حكمهم الأسرتين 15 و 16 من الأسر التي حكمت مصر، واللتين امتد حكمهما لمصر من 1774 – 1567 ق.م .
وعلى كل حال، يظهر أن يوسف وإخوته أبناء يعقوب "إسرائيل" نعموا بحرية العمل والعبادة في مصر وكان لهم دورهم في الدعوة إلى التوحيد، غير أن الأمر لم يستمر على حاله في أجيالهم المتعاقبة، فوقع بنو إسرائيل تحت الاضطهاد الفرعوني حتى أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون لإخراج بني إسرائيل منها إلى الأرض المقدسة .
بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام
لقد كان بنو إسرائيل في تلك الفترة هم أهل الحق وحملة راية التوحيد، وكان فرعن مصر في ذلك الزمان متكبراً متعجرفاً يدعي الألوهية، وكان مفسداً يضطهد بني إسرائيل فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}، وقد ولد موسى عليه السلام في هذا الجو وتربى في بيت فرعون في تدبير رباني محكم، وقصة موسى ونشأته ودعوته لفرعون وخروجه ببني إسرائيل وهلاك فرعون أشهر من أن تروى .
قدر الله سبحانه أن يعطي تلك الفئة المؤمنة في ذلك الزمان أرض فلسطين {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} .
وأرسل موسى عليه السلام إلى فرعون بهذا الأمر، يعاونه في ذلك أخوه هارون الذي بعث رسولاً أيضاً {وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين، حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل}، غير أن فرعون يأبى ويتكبر ولا يؤمن بالآيات والمعجزات التي جاء بها موسى، ويؤمن السحرة الذين حشدهم فرعون بدعوة موسى، ويسقط في يد فرعون، ويبدو أن الذين أظهروا إيمانهم وانضموا إلى بني إسرائيل كانوا عدداً محدوداً من أولاد وفتيان بين إسرائيل وكان إيمانهم مقروناً بخوف من أن يفتنهم فرعون {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين}. ثم إن موسى عليه السلام قاد من آمن من قومه شرقاً فأتبعهم فرعون وجنوده، وحدثت قصة انشقاق البحر وإنقاذ الله سبحانه لبني إسرائيل وهلاك فرعون وجنوده {فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين} .
ونقف هنا عند بعض الآراء والروايات التاريخية التي يظهر منها أن عدد من خرج مع موسى من مصر كان حوالي ست آلاف فقط أو خمسة عشر آلفاً على بعض الروايات. أما تلك الفترة من الناحية التاريخية فكانت على ما يبدو خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وكان خروج بني إسرائيل من مصر تحديداً في حوالي الثلث الأخير من ذلك القرن. وهي فترة توافق حكم "رعمسيس الثاني" المشهور في هذا العصر بـ"رمسيس الثاني"، ومن تقدير الله أن جثة هذا الفرعون معروضة في أحد المتاحف المصرية الآن، وهذا يذكرنا بقوله سبحانه {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون} .
وبعد إنقاذ الله سبحانه لبني إسرائيل تبرز فصول معاناة موسى وهارون معهم، ويظهر من صفات هؤلاء ضعف الإيمان والجهل والجبن، فمن كادوا يخرجون من البحر حتى أتوا على قوم يعبدون أصناماً، {قولوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة !!!}، ثم عندما يذهب موسى لميقات ربه يعبد قومه العجل رغم وجود هارون بينهم !! {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار}، {فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي}، وكادوا يقتلون هارون عندما نهاهم عن كفرهم وهو الذي قال لأخيه موسى {إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني} وغيرها من المواقف .
ثم يقود موسى بني إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة ويقول لهم {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين}، ولكنهم يختارون الارتداد على أدبارهم، {قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون}، ولا ينفع فيهم النصح فيكررون، {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون}، ويعلق سيد قطب رحمه الله على موقف بني إسرائيل هذا فيقول :"إن جبلة يهود لتبدو هناك على حقيقتها، مكشوفة بلا حجاب ولو رقيق من التجمل، إن الخطر ماثل قريب، ومن ثم لا يعصمهم منه حتى وعد الله لهم بأنهم أصحاب الأرض، وأن الله قد كتبها لهم، فهم يريدونه نصراً رخيصاً، لا ثمن فيه، ولا جهد فيه، نصراً مريحاً يتنزل عليهم تنزل المن والسلوى" . . "وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون، ويفزعون من الخطر أمامهم، هكذا في وقاحة العاجز لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان"، {فأذهب أنت ربك!} فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال، {إنا ها هنا قاعدون}، لا نريد ملكاً، ولا نريد عزاً، ولا نريد أرض الميعاد، ودونها لقاء الجبارين، هذه هي نهاية المطاف بموسى عليه السلام، نهاية الجهد الجهيد، والسفر الطويل، واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بين إسرائيل ! .
ويتألم موسى عليه السلام ويلجأ إلى ربه {رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين}، ويستجيب الله لنبيه {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض}، وهكذا يحكم عليهم بالتيه بعد أن كانوا على أبواب الأرض المقدسة، ويظهر أن الله سبحانه قد حرمها على هذا الجيل من بني إسرائيل حتى ينشأ جيل غيره يصلب عوده في جو من خشونة الصحراء، فهذا الجيل "أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل" .
وتوفي موسى عليه السلام قبل أن يستطيع دخول الأرض المقدسة، وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن موسى عندما حان أجله قال رب أدنني من الأرض المقدسة رمية حجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله لو أني عنده لأريتكم مكان قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر" .
دخول بني إسرائيل أرض فلسطين
وبعد أن نشأ جيل صلب جديد وبعد سنوات التيه قاد بني إسرائيل نبي لهم هو يوشع بن نون عليه السلام ويسميه اليهود "يشوع" وهو الذي عبر بهم نهر الأردن وانتصر على أعدائه واحتل مدينة أريحا، وكان عبوره نهر الأردن حوالي 1190 ق.م ثم غزا "عاي" بجوار رام الله، وحاول فتح القدس ولكنه لم يستطيع، وكان عدد اليهود قليلاً بحيث يصعب عليهم الانتشار واحتلال كافة المناطق والسيطرة عليها. ومما نعلمه عن يوشع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوشع التقى أعداءه في معركة طالت حتى كادت الشمس تغيب فدعا الله ألا تغيب الشمس حتى تنتهي المعركة وينتصر فاستجاب الله لدعوته فأخر غروب الشمس حتى انتصر يوشع .
وبعد يوشع عليه السلام تولى قيادة اليهود زعماء عرفوا "بالقضاة" وعرف عصرهم ب"عصر القضاة" وعلى الرغم من محاولاتهم إصلاح قومهم فقد ساد عصرهم الذي دام حوالي 150 سنة، الفوضى والنكبات والخلافات والانحلال الخلقي والديني بين بني إسرائيل، وقد استوطنوا في تلك الفترة في الأراضي المرتفعة المحيطة بالقدس وفي السهول الشمالية في فلسطين .
ولما شعر بنو إسرائيل بحالهم المتردي طلب الملأ منهم من نبي لهم (يقال ان اسمه صموئيل) أن يبعث عليهم ملكاً يقاتلون تحت رايته في سبيل الله، ولكن نبيهم الذي يعرف طباعهم قال لهم {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم {وأخبرهم نبيهم أن الله قد بعث عليهم طالوت ملكاً فاعترضوا بأنه أحق بالملك منه وأنه {لم يؤت سعة من المال}، فقال لهم نبيهم إن الله اصطفاه عليهم وزاده بسطة في العلم والجسم .
وتولى القائد المؤمن طالوت الملك على بني إسرائيل، وكان ذلك حوالي سنة 1025ق.م، وتسميه الروايات الإسرائيلية "شاؤول" وتساقط أتباعه في الاختبار عندما ابتلاهم الله بنهر الأردن ومنعهم من الشرب منه {إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم}، ثم تساقط الكثير من القليل الذي بقي في الاختبار التالي عندما رأوا جالوت وجنوده فقالوا {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}، ولم تثبت في النهاية إلا ثلة قليلة مؤمنة أعطاها الله سبحانه النصر وقتل داود عليه السلام – وكان فتى – في هذه المعركة جالوت بالمقلاع .
ولا نعرف بعد ذلك ما حصل يقيناً لطالوت، غير أن الروايات الإسرائيلية تذكر أنه في سنة 1004 ق.م تقريباً استطاع الفلسطيون الانتصار على طالوت "شاؤول" في معركة جلبوع وأنهم قتلوا ثلاثة من أبنائه وأكرهوا على الانتحار وقطعوا رأسه وسمّروا جسده وأجساد أولاده على سور مدينة بيت شان "بيسان" .
وينفتح فصل جديد في تاريخ بين إسرائيل وفي انتشار وسيطرة دعوة التوحيد على الأرض المباركة وذلك بتولي داود عليه السلام الملك بعد طالوت سنة 1004 ق.م، ويعتبر داود عليه السلام المؤسس الحقيقي لمملكة بني إسرائيل في فلسطين، فقد قضى اليهود الفترة التي سبقت داود دون أن يملكوا سوى سلطان ضئيل في أجزاء محدودة من فلسطين ودون أن يستطيعوا أن يكونوا سادتها، ومضى جميع عصر القضاة في القتال الجزئي بجماعات صغيرة وذلك بأن تدافع كل جماعة (قبيلة) بمشقة عن قطعة الأرض التي استولت عليها .
ولد داود عليه السلام في بيت لحم، واستمر حكمه أربعين عاماً تقريباً (1004-963 ق.م) وكانت عاصمة حكمه في البداية مدينة "الخليل" حيث مكث فيها سبع سنوات، ثم إنه فتح القدس حوالي سنة 995 ق.م فنقل عاصمته إليها. وواصل حربه ضد الأقوام الكافرة في الأرض المقدسة حتى تمكن من إخضاعهم سنة 990 ق.م تقريباً، وأجبر دمشق على دفع الخراج وأخضع المؤابيين والأيدوميين والعمونيين، وهكذا سيطر أتباع التوحيد – في ذلك الزمان – لأول مرة – فيما نعلم – على معظم أنحاء فلسطين، غير أنه حدود مملكة داود عليه السلام في أغلب الظن لم تلامس البحر إلا من مكان قريب من يويا (يافا)، ويبدو أن حدود المملكة الإسرائيلية في أوجها كانت مئة وعشرين ميلاً في أطول أطوالا وستين ميلاً في أعرض عرضها وأقل من ذلك بكثير في أغلب الأحيان، أي أن مساحتها لم تزد عن 7200 ميل مربع أي حوالي 20 ألف كم2، وهذا أقل من مساحة فلسطين الحالية بحوالي سبعة آلاف كم2. لقد سيطر اليهود على المناطق المرتفعة لكنهم أخفقوا في السيطرة على السهول وخصوصاً أجزاء كبيرة من الساحل الفلسطيني، وهي أجزاء لم تتم لدولتهم السيطرة عليها إطلاقاً طوال قيامها .
وإذا كان يهود هذا الزمان يفاخرون بداود عليه السلام ويعتبرون أنفسهم حاملي لوائه وميراثه، فإن المسلمين يعتبرون أنفسهم أحق بداود من بني إسرائيل، وهم يؤمنون به نبياً من أنبياء الله ويحبونه ويكرمونه، ويفاخرون به لأنه أنشأ دولة الإيمان القائمة على التوحيد في فلسطين وهم السائرون على دربه الحاملون لرايته في هذا الزمان بعد أن نكص عنها بنو إسرائيل وكفروا وأشركوا ونقضوا عهودهم مع الله .
ونعلم من القرآن الكريم أن الله سبحانه قد رزق داود عليه السلام العلم والحكمة، وأنزل عليه الزبور، وأنه أوتي ملكاً قوياً، وأن الجبال والطيور كانت تسبح معه وتذكر الله عندما كان يتلو مزاميره بصوته الخاشع المؤثر، {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب، إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، والطير محشورة كل له أواب، وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}، وقوله تعالى {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله . .}.
وألان الله سبحانه وتعالى لداود الحديد فكان بين يديه كالشمع أو كالعجين يشكله كيف شاء دون حاجة لصهره في النار وهذه معجزة أعطاها الله لداود، وكان داود رغم ما أوتي من ملك يعمل بالحدادة ولا يأكل إلا من عمل يده، وقد طور داود صناعة الدروع في زمانه فبعد أن كان الدرع صفيحة واحدة تثقل حاملها وتعيق حركته هداه الله إلى أن تكن حلقاً متداخلة تسهل الحركة لا تنفذ منها السهام. . . {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم، فهل أنتم شاكرون}، وقوله تعالى {ولقد أتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنّا له الحديد، أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير}.
وورث سليمان عليه السلام أباه داود في العلم والحكم والنبوة، وتشير الروايات إلى أن سليمان كان واحداً من 19 أبناً لداود، وأن سليمان ولد في القدس، وأن حكمه في الأرض المباركة استمر حوالي أربعين عاماً (963-923ق.م) .
وقد وهب الله سبحانه سليمان ملكاً لا يحصل لأحد بعده فقد سخر الله له الجن لخدمته كما سخر له الريح تجري بأمره، واشتهر سليمان بحكمته وعدله وقوة سلطانه، كما علمه الله لغة الطير والحيوانات .
لقد كان ملك سليمان بحد ذاته معجزة ربانية أعطاها الله له دلالة على نبوته، وقد نعمت فلسطين بهذا الحكم الإيماني المعجزة الذي تدعمه قوى الجن والإنس والطير والريح، وكرم الله سليمان بمعجزة إسالة النحاس له حتى كان يجري كأنه عين ماء متدفقة من الأرض، وشهدت مملكة سليمان حركة بناء وعمران ضخمة، كما امتد نفوذه ليصل مملكة سبأ في اليمن .
ولقد جاء ذكر سليمان مرات عديدة في القرآن الكريم مشيراً إلى عمله وملكه ونبوته، قال تعالى محدثاً عن سليمان {قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب، فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} .
قال تعالى {وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين، وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون}، وقال تعالى {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور}، وقال تعالى {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين، ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين}.
أما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستشف منه أن سليمان كان ذا قوة بدينة هائلة وأنه كان محباً للجهاد في سبيل الله، وأنه كان له زوجات كثيرات، فعن أبي هريرة رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قال سليما، لأطوفن الليلة على تسعين، وفي رواية: بمائة امرأة، كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل ونسي فطاف عليهن، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون" .
وكانت وفاة سليمان عليه السلام آية من آيات الله ودرساً من الدروس للإنس والجن بأن الجن لا يعلمون الغيب، إذ أن سليمان عليه السلام وقف يصلي في المحراب وهو متكؤ على عصاه فمات وهو كذلك ومكث فترة طويلة والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة دون أن تدري بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فسقط على الأرض، قال تعالى {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا داب الأرض تأكل منسأته فلماخر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} .
مملكتا إسرائيل ويهوذا
استمر حكم داود وسليمان حوالي ثماني عاماً وهو العصر الذهبي الذي حكمت فيه فلسطين تحت راية التوحيد والإيمان قبل الفتح الإسلامي لها .
اليهود بعد دولة سليمان عليه السلام
وبعد وفاة سليمان انقسمت مملكته إلى قسمين شكّلا دولتين منفصلتين متعاديتين في كثير من الأحيان، وعانتا من الفساد الداخلي والضعف العسكري والسياسي والنفوذ الخارجي، فعند وفاة سليمان اجتمع ممثلو قبائل بني إسرائيل الأثنتي عشرة في شكيم "قرب نابلس" لمبايعة رحبعام بن سليمان، ولكن ممثلي عشر قبائل اتفقوا على عدم مبايعته لأنه لم يعدهم – حسب الروايات – بتخفيف الضرائب، وانتخبوا بدلاً منه "يربعام" من قبيلة أفرايم ملكاً وأطلقوا اسم "إسرائيل" على مملكتهم وعاصمتهم شكيم (ثم ترزة ثم السامرة)، أما قبيلتا يهوذا وبنيامين فقد حافظتا على ولائهما لرحبعام بن سليمان وكونتا تحت حكمه مملكة "يهودا" وعاصمتها القدس .
أما مملكة "إسرائيل" فقد استمرت خلال الفترة 923 – 721 ق.م، وقد سمتها دائرة المعارف البريطانية ازدراء "المملكة الذيلية"، وقد خسرت بسبب غزة الدمشقيين كل الأراضي الواقعة شرقي الأردن وشمال اليرموك، كان "عمري" أشهر ملوك مملكة إسرائيل 885 –874 ق.م بنى السامرة وجعلها عاصمته، أما خليفته "آخاب" 874-852 ق.م فقد سمح لزوجته "إيزابل" بنت ملك صيدا وصور بفرض عبادة الإله الفينيقي "بعل" مما أدى إلى ثورة قام بها أحد الضباط واسمه "ياهو" أطاحت بآخاب وأعاد عبادة "يهوه". وفي عهد "يربعام الثاني" 785-74ق.م وهو الثالث من سلالة ياهو توسعت مملكته شمالاً على حساب الأراميين، لكن ذلك لم يستمر طويلاً إذ أدى ظهور الملك الآشوري تجلات بلسر الثالث 745-727 ق.م إلى الحد من هذا التوسع، وقام خليفته شلمنصر الخامس، ومن بعده سرجون الثاني بتأديب هوشع آخر ملوك "إسرائيل" وقضى على دولته سنة 721 ق.م، وقام الآشوريون بنقل سكان إسرائيل إلى حران والخابور وكردستان وفارس وأحلوا مكانهم جماعات من الآراميين، ويظهر أن المنفيين الإسرائيليين اندمجوا تماماً في الشعوب المجاورة لهم في المنفى فلم يبق بعد ذلك أثر للأسباط العشرة من بين إسرائيل .
أما مملكة "يهودا" 923 – 586 ق.م فحسب الروايات الإسرائيلية (وهي تؤخذ بتفحص وحذر، حيث لا يوجد بين أيدينا ما ينفي أو يثبت الكثير مما فيها) فقد انتشرت في حكم يربعام بن سليمان 923 – 916 ق.م العبادة الوثنية وفسدت أخلاق القوم بشيوع اللواط، وعندما خلفه ابنه "أبيام" 913 ق.م بقيت الأخلاق فاسدة، وعندما حكم "يهورام بن يهوشفاط" 849-842 ق.م أخوته الستة مع جماعة من رؤساء القوم، أما يوحاز بن يوتام 735-715ق.م فيذكر أنه علق قلبه بحب الأوثان حتى إنه ضحى بأولاده على مذابح الآلهة الوثنية وأطلق لنفسه عنان الشهوات والشرور، وأضل منسي بن حزقيا الذي حكم 687-642 ق.م قومه عن عبادة الله وأقام معابد وثنية .
ولسنا نستغرب هذا عن بني إسرائيل فتلك أخلاقهم مع موسى عليه السلام تشهد بذلك، كما أن القرآن الكريم يشير إلى أنهم غيروا وبدلوا وحرفوا كلام الله وقتلوا الأنبياء {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون}، ويحدثنا التاريخ أنهم قتلوا النبي "حزقيال" حيث قتله قاض من قضاتهم لأنه نهاه عن منكرات فعلها، وأن الملك منسى بن خرقيا قتل النبي أشعيا بن أموص إذ أمر بنشره على جذع شجرة لأنه نصحه ووعظه، وأن اليهود قتلوا النبي أرميا رجماً بالحجارة لأنه وبخهم على منكرات فعلوها .
ويظهر أن مملكة يهوذا قد اعترتها عوامل الضعف والوقوع تحت النفوذ الخارجي فترات طويلة، فقد هوجمت مرات عديدة وهزمت ودخل المهاجمون القدس نفسها، كما فعل شيشق فرعون مصر عندما دخل القدس واستولى على ما فيها (أواخر القرن 10 ق.م)، وهاجم الفلسطينيون والعرب القدس في عهد يهورام 849 – 842 ق.م فدخلوها واستولوا على قصر يهورام وسبوا بنيه ونساءه، أما الملك حزقيا 715 –687 ق.م فقد اضطر لإعلان خضوعه التام لملك الآشوريين سرجون الثاني بعد أن أسقط مملكة "إسرائيل"، ودفع منسي بن حزقيا الجزية لـ"أسرحدون" و"آشور بانيبال" ملكي آشور، وقد قيد الآشوريون هذا الملك بسلاسل من نحاس وذهبوا به إلى بابل ثم عاد للقدس وبها مات، وأيام حكم "يوشيا بن آمون" 640 – 609 ق.م تقدم "نخاو" بعد أن حكم ثلاثة أشهر، وأرسله لمصر أسيراً حيث مات هناك، ووضع مكانه "يهوياقيم بن يوشيا" 609-598 ق.م وقد أرهق هذا الحاكم الشعب بالضرائب ليدفع الجزية لسيده المصري ورجع إلى عبادة الأوثان، وفي أيام يهوياقيم هزم "بختنصر" البابلي "نخاو" المصري شمال سوريا سنة 605 ق.م وزحف إلى أن وصل للقدس وأخضع يهوياقيم وأذله وأدخل البلد تحت نفوذه، ولما ثار يهوياقيم على بختنصر دخل الأخير وجيشه القدس وقيد يهوياقيم بسلاسل من نحاس حيث مات بعد مدة .
وعندما حكم يهوياكين 598-597 ق.م حاصر بنوخذ نصر "بختنصر" القدس وأخذ الملك مع عائلته ورؤساء اليهود وحوالي عشرة آلاف من سكانها (فيما يعرف بالسبي الأول) وبعض خزائن الهيكل إلى بابل، ثم إن بختنصر عيّن صدقيا بن يوشيا 597-586 ق.م حيث أقسم له يمين الولاء، غير أن صدقيا في آخر حكمه ثار على البابليين الذين ما لبثوا أن زحفوا للقدس وحاصروها 18 شهراً حتى أسقطوها، وأخذ صدقيا أسيراً وربط بالسلاسل من نحاس وسيق إلى بابل، حيث يذكر أنه قتل أبناؤه أمامه وسملت عيونه، وخرب نبوخذ نصر القدس ودمر الهيكل ونهب الخزائن والثروات، وجمع حوالي 40 ألفاً من اليهود وسباهم إلى بابل "السبي البابلي الثاني" وهاجر من بقي من يهود إلى مصر ومنهم النبي إرمياه، وبذلك سقطت مملكة يهودا 586 ق.م .
ويسجل التلمود أن سقوط دولة اليهود وتدميرها لم يكن إلا "عندما بلغت ذنوب بين إسرائيل مبلغها وفاقت حدود ما يطيقه الإله العظيم، وعندما رفضوا أن ينصتوا لكلمات وتحذيرات إرمياه" وبعد تدمير الهيكل وجه النبي إرمياه كلامه إلى نبوخذ نصر والكلدانيين قائلاً: "لا تظن أنك بقوتك وحدها استطعت أن تتغلب على شعب الله المختار، إنها ذنوبهم الفاجرة التي ساقتهم إلى هذا العذاب" .
وتشير التوارة إلى آثام بين إسرائيل التي استحقوا بسببها سقوط مملكتهم، فتذكر على لسان أشعيا أحد أنبيائهم "ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الآثم، نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين تركوا الرب، استهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى وراء" سفر أشعيا – الإصحاح الأول، وتقول التوراة "والأرض تدنست تحت سكانها لأنهم تعدوا الشرائع، غيروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي" سفر أشعيا – الإصحاح 24 .
تداول الهيمنة الفارسية والإغريقية والرومانية على فلسطين
عاش اليهود بعد سقوط ملكهم في فلسطين مرحلة "السبي البابلي" في العراق، وهي الفترة التي يظهر أنهم بدأوا فيها بتدوين التوراة، أي بعد ما لا يقل عن سبعمائة سنة من ظهور موسى عليه السلام، ولم ينتهوا من تدوينها إلا أواخر القرن الثاني ق.م (بعد أكثر من أربعمائة سنة) وخلال هذه الفترة كان اليهود قد تركوا الالتزام بدينهم وقلدوا الدول التي يعيشون فيها بعبادة الأوثان" .
ولاحت الفرصة لليهود للعودة مرة أخرى إلى فلسطين عندما أسقط الإمبراطور الفارسي قورش الثاني الدولة البابلية الكلدانية 539 ق.م بمساعدة يهودية، وانتصر على ميديا، ومد نفوذه إلى فلسطين التي دخلت في عصر السيطرة الفارسية 539 - 332 ق.م فقد سمح قورش بعودة اليهود إلى فلسطين كما سمح لهم بإعادة بناء الهيكل في القدس، غير أن القليل من اليهود انتهزوا الفرصة لأن الكثير من السبي أعجبتهم الأرض الجديدة، ولكن القلة المتشددة التي عارضت الاندماج حفظت بني إسرائيل من الاندثار، ويذكر أحد المؤرخين أن عدد الراجعين كانوا 42 ألفاً وهم أقلية بالنسبة للعدد الحقيقي. وقام هؤلاء اليهود ببناء الهيكل حيث اكتمل بناؤه في 515 ق.م. وفي منطقة القدس تمتع القدس بنوع من الاستقلال الذاتي تحت الهيمنة الفارسية، وهو حكم لم يكن يتجاوز نصف قطره عشرين كيلومتراً في أي اتجاه .
وفي سنة 332 ق.م احتل الإسكندر المقدوني فلسطين في إطار حملته الشهيرة التي احتل خلالها بلاد الشام ومصر والعراق وإيران وأجزاء من الهند. وقد ترك الاسكندر اليهود دون أن يمسهم، ومنذ ذلك التاريخ دخلت فلسطين في عصر السيطرة الهللينية الإغريقية الذي استمر حتى سنة 63 ق.م .
وبعد موت الإسكندر نشب نزاع بين قادته أدى إلى توزيع مملكته بينهم فكانت فلسطين (وباقي سوريا المحوفة من جنوب اللاذقية ولبنان وأجزاء من سوريا كدمشق ومصر وبرقة (ليبيا) وبعض جزر البحر الإيجي من نصيب القائد بطليموس، وسمي حكمه وحكم خلفائه من بعده بـ"عصر البطالمة" وقد استمر في فلسطين من 302 – 198ق.م، وقد عطف البطالمة على اليهود الذين كان يدير شؤونهم "الكاهن الأكبر". ثم إن السلوقيين (الذين كان نصيبهم بعد وفاة الإسكندر سوريا الشمالية وآسيا الصغرى والرافدين والهضبة الإيرانية) استطاعوا السيطرة على فلسطين إثر معركة "بانيون" التي حقق فيها الملك السلوقي انطيوخس الثالث نصراً كاملاً على البطالمة، وقد استمرت سيطرة السلوقيين على فلسطين حتى 63 ق.م .
وقد حاول السلوقيون صبغ اليهود بالصبغة الهللينية الإغريقية، فحاول انطيوخس الرابع صرف اليهود عن دينهم وأرسل سنة 167 ق.م أحد قادته وكلفه إلغاء الطقوس الدينية اليهودية والاستعاضة بالإله زيوس الأوليمبي عن الإله يهوه، وعيّن لهم كاهناً إغريقياً وثنياً في القدس، وحرّم الختان واقتناء الأسفار المقدسة وأوجب أكل لحم الخنزير، وبموجب هذه الأوامر انقسم اليهود إلى قسمين: قسم انصر عن الشريعة مقتنعاً أو مكرهاً وهم "المتهلنون"أو "المتأغرقون" وأقاموا في القدس والمدن الإغريقية وقسم آخر أقل عدداً هربوا من القدس وأطلق عليهم أسم حزب القديسيين .
وبشكل عام تأثر اليهود بالإغريقية فحلت الآرامية محل العبرية وأصبحت اليونانية لغة الطبقة المثقفة، ونشأ في اليهود جماعة تناصر اليونانيين تمكنوا من الوصول للحكم بقيادة كبير الكهنة "جيسون" .
أما الذين هربوا من القدس "حزب القديسيين" فقد اعتمدوا لقيادتهم متاثياس (متابيبه) كبير عائلة الأشمونيين والذي مات بعد فترة قصيرة، فخلفه ابنه يهوذا الملقب "المكابي" أي المطرقة، وقد ثار على السلوقيين وانتصر عليهم أكثر من مرة 166 –165 ق.م وانضم إليه قسم كبير من المترددين اليهود، وهذا دفع انطيوخس الرابع لإيقاف اضطهاد اليهود فسمح لهم بممارسة دينهم جنباً إلى جنب مع أنصار التأغرق. وعاد "المكابيون" إلى القدس في 25 كانون ثاني/ يناير 164 ق.م وما زال اليهود يحتفلون بهذه المناسبة تحت اسم عيد الأنوار "حانوكا" .
تأسس لليهود بعد ذلك حكم ذاتي في القدس أخذ يتسع أو يضيق وتزداد مظاهر استقلاله أو تضعف حسب صراع القوى الكبرى على فلسطين (الرومان – البطالمة – السلوقيين . .)، وأصبح الحكم وراثياً في ذرية يهودا المكابي، وقد حكم المكابيون كـ"كبار كهنة" وسرعان ما سموا أنفسهم ملوكاً رغم أنهم كانوا تابعين ويدفعون الخراج للسلوقيين. وفي سنة 143 ق.م أعفى الإمبراطور ديمتروس الثاني اليهود من الضرائب، وأعطى لقب حاكم لـ"سيمون" واتفق اليهود على اعتباره ملكهم وبذلك تأسس حكم ملكي اعترف به السلوقيون الذين "أعطوا" سيمون أيضاً حق صك النقود .
وفي عهد "الملك" اليهودي الكسندر جانيوس 103-76ق.م شمل حكمه شرق الأردن الذي سماه اليهود بيريا وتوغل إلى الساحل أيضاً وكادت حدود مملكته تلامس حدود مملكة سليمان. وقد حكمت بعده أرملته سالوم الكسندرا حتى 67 ق.م، ثم تخاصم أبناها على الحكم وتدخل العرب الأنباط في مساعدة هيركانوس الثاني ضد أخيه أريستوبولوس. وفي سنة 63 ق.م قضى القائد الروماني الشهير بومبي على "الدويلة" اليهودية، ونصّب هيركانوس الثاني كبيراً للكهنة، وحطم أسوار القدس، وبتر الأجزاء الأخرى من أيدي اليهود، وأبقى على استمرار الأسرة المكابية في ظل الرومان .
وفي الفترة 47-40 ق.م دخلت "المستعمرة" تحت سيطرة حاكم أيدومية "انتى بيتر" وفي 40 ق.م هاجم الفرس فلسطين ونصبوا "أنتي جونوس" أخو هركانوس الثاني حاكماً وكبيراً للكهنة، استمر حكم "أنتي جونوس" ثلاث سنوات وكان هو آخر حكام الأسرة المكابية، وفي سنة 37 ق.م انتصر الرومان على الفرس. واستعادوا السيطرة على فلسطين ونصبوا "هيرودس" ابن أنتي بيتر حاكماً، ورغم أن "هيرودس" قد تهوّد وحاول استرضاء اليهود إلا أنه كان مبغوضاً من قبلهم، وكان هو بشكل عام طاغية ظالماً شديد الولاء للرومان. وقد قام بتجديد الهيكل فضاعف مساحته ورفع سطحه وجعله على جانب عظيم من الإتقان والهندسة .
استمر حكم هيرودس حتى سنة 4 ق.م وعاصره من الأنبياء زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، كما عاصرته مريم بنت عمران عليها السلام، وفي آخر أيامه ولد المسيح عليه السلام .
كان زكريا عليه السلام يعمل نجاراً، وقد تولى كفالة مريم بنت عمران، ورزقه الله سبحانه _ بعد أن بلغ الكبر وكانت امرأته عاقراً – ولداً هو يحيى عليه السلام، وكان لزكريا ويحيى جهود كبيرة في دعوة بني إسرائيل للهداية الحق .
وقد جاءت البشارة بيحيى بأنه سيكون {سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين}، أي يسود قومه ويفوقهم ويحبس نفسه عن الشهوات عفة وزهداً ويكون نبياً، فلما ولد يحيى وبلغ السن الذي يؤمر فيه قال له تعالى {يا يحيى خذ الكتاب بقوة}، أي خذ ما في كتاب الله بجد واجتهاد وآتاه الله الحكمة ورجاحة العقل منذ صغره {وآتيناه الحكم صبياً}، وقام يحيى بواجبه في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد اشتهر في الأدبيات المسيحية باسم "يوحنا المعمدان" والمعمدان نسبة إلى ما ذكر أنه كان يعمّد الناس (يغسلهم بالماء) لتطهيرهم من الخطايا، وكان يحيى يبشر بقدوم المسيح عليه السلام .
وقد دفع يحيى عليه السلام حياته ثمناً لموقفه الصلب من رغبة هيرودس بالزواج من ابنة أخيه (وقيل ابنة أخته) حين أنكر ذلك، وكانت هذه الفتاة واسمها (هيروديا) بارعة الجمال، فحقدت أم الفتاة والفتاة على يحيى، وتزينت البنت ودخلت على هيرودس فرقصت أمامه حتى ملكت مشاعره، فطلب منها أن تتمنى فتمنت رأس يحيى!! فاستجاب لها وقتل يحيى وقدم رأسه على طبق هدية لهذه الفاجرة!! {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً} .
ولم يكتف هيردوس بجريمته هذه إذ أنه قتل زكريا عليه السلام أيضاً حيث نشره بالمنشار!! لأنه دافع عن ابنه يحيى وعارض صحة الزواج لمانع القرابة .
أما مريم – سيدة نساء العالمين – عليها السلام فقد ولدت قبل يحيى عليه السلام، وكانت أمها قد نذرتها وهي جنين في بطنها في سبيل الله {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسناً وكفلها زكريا واصطفى الله مريم {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين}. وقدر الله سبحانه أن يجري معجزاته العظيمة بأن تلد مريم ابنها المسيح من دون أب وأن يتم ذلك بكلمة من الله "كن" ونقف هنا لنقرأ النص القرآني الموجز حول قصة المسيح ورسالته {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين. ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين. قالت رب أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ..} .
ولد عيسى بن مريم حوالي 4 ق.م في بيت لحم، وتذكر الروايات أن مريم هربت بعيسى مع يوسف "النجار" إلى مصر خوفاً على ابنها من ظلم هيردوس وبطشه، ثم ما لبثوا أن عادوا بسرعة إلى مدينة الناصرة حيث عاش طفولته وشب على عوده هناك ولذلك عرف باسم "يسوع الناصري" وسمى أتباعه "النصارى" .
لقد كان عيسى بن مريم آية من آيات الله حسم حقيقة أمره أمام الناس وهو رضيع في مهده فأكد أنه عبد الله وبشرهم بنبوته {قال إني عبدالله آتاتي الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً}.
وهناك في الأرض المباركة فلسطين قام عيسى عليه السلام بواجب الدعوة إلى الله وبذل جهوداً كبيرة في هداية بين إسرائيل، وبشرهم بقدوم خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم {ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} وعلى الرغم من المعجزات التي أجراها الله على يديه وما تضمنته رسالته من حق ونور إلا أن بني إسرائيل جحدوا وأنكروا وناصبوه العداء،ولم يؤمن به إلا عدد ضئيل .
ويذكر التاريخ أنه لما جاء عيد الفصح من سنة 30 م ذهب المسيح إلى أورشليم (القدس) وزار الهيكل واستنكر وجود الصيارفة والباعة، وفي إنجيل متى (21/12 – 13) "ودخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، وقال لهم مكتوب أن بيتي -هكذا النص- بيت الصلاة يدعى. وأنتم جعلتموه مغارة لصوص" .
وقد حقد اليهود والوجهاء على المسيح، وفي إنجيل لوقا (19/47) "وكان يعلم كل يوم في الهيكل وكان رؤساء الكهنة والكتبة مع وجود الشعب يطلبون أن يهلكوه"، وسارع مجلس اليهود الديني "السنهدرين" إلى الاجتماع وقرر القبض على المسيح وأصدر في الحال حكماً بإعدامه بتهمة التجديف والخروج عن الدين .
ثم إنهم ساقوه إلى الوالي الروماني – في ذلك الوقت – بيلاطس البنطي الذي يحق له وحده تنفيذ الإعدام، ولم يجد هذا جرماً من المسيح يوجب قتله فقامت قيامة اليهود، وأخذوا يصرخون بصوت واحد، اصلبه، اصلبه "دمه علينا وعلى أولادنا". وقد اضطر كارهاً إلى الموافقة على إعدامه، غير أن الله سبحانه أدركه برحمته فرفعه إليه في الوقت الذي ظن فيه اليهود أنهم قتلوه {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم . . بل رفعه الله إليه } .
وطويت هذه الصفحة من تاريخ الصراع بين الحق والباطل على الأرض المقدسة، فقد كذب بنو إسرائيل بآخر بني أرسل إليهم واتهموه بالسحر وتآمروا عليه، وآمن بعيسى الحواريون وأخذوا ينشرون دعوته من بعده ويلاقون في سبيلها الاضطهاد والأذى. واستمر الحواريون في دعوة اليهود وكانوا يخطبون في الهيكل، ولما تضاعف عدد النصارى بعد بضع سنوات خاف اليهود من انتشار الدعوة وطلبوا القبض على بطرس وغيره لمحاكمتهم أمام "السهندرين" إلا أن المجلس اكتفى بجلدهم وأطلق سراحهم، وهرب المهتدون الجدد إلى السامرة وقيسارية وأنطاكية فأنشأوا الجماعات المسيحية، ووصل بطرس إلى روما حيث أنشأ جماعة مسيحية وكان يركز في دعوته على اليهود، أما بولس فكان يدعو الوثنيين كما يدعو اليهود واستخدم في دعوته المصطلحات والمفاهيم الفلسفية لتفسير المسيحية بما يتلاءم مع الثقافة الهلنستية السائدة آنذاك. وانتهى الأمر ببولس وبطرس بأن حكم عليهما بالإعدام في عهد الإمبراطور الروماني نيرون سنة 64 م.
نهاية الوجود اليهودي في فلسطين
ونعود مرة أخرى لنرى أحوال بني إسرائيل في فلسطين بعد صعود المسيح، فقد كان الرومان قد بدأوا حكماً مباشراً على القدس وباقي فلسطين منذ 6 م، بعد أن خلعوا أرخيليوس الذي خلف أباه هيرودس لسوء حكمه، وفي عهد واليهم بيلاطس البنطي 26-36 م حدثت وقائع السيد المسيح عليه السلام. وقد ثار اليهود على حكم الرومان في نوفمبر 66م في عهد الإمبراطور نيرون واستطاع القائد العسكري الروماني تيتوس إخماد هذه الثورة في سبتمبر 70م – بعد أن استمرت أربع سنوات – فدخل القدس بعد حصار شديد وأعمل القتل والنهب والحرق، ودمر الهيكل الذي بناه هيرودس حتى لم يبق حجر على حجر وأصبحت مدينة القدس قاعاً صفصفاً، وبيع كثير من الأسرى عبيداً في أسواق الإمبراطورية الرومانية بأبخس الأثمان، وكانت أمنية اليهودي أن يشتريه من يرفق به فلا يرسله إلى حلقة المصارعة مع الوحوش التي اعتاد الرومان التلذذ بمنظرها وهي تلتهم الناس!! وبنى هذا القائد قوساً في روما بمناسبة نصره على اليهود وهو لا يزال قائماً إلى الآن وعليه نقوش ذكرى ذلك الانتصار، ويُرى فيه الشمعدان ذو الرؤوس السبعة المشهور عند اليهود والذي أخذه من الهيكل .
ثار اليهود مرة أخرى على الرومان بقيادة باركوخبا واسمه الأصلي "سيمون" واستمرت ثورتهم ثلاث سنوات 132-135م، واجتمع تحت لوائه عدد كبير من اليهود واستطاع احتلال القدس، غير أن الإمبراطور الروماني هدريان أرسل جيشاً كبيراً بقيادة جوليوس سيفروس الذي احتل القدس ثانية وهزم اليهود، الذين هربوا إلى بتّير حيث لا تزال خرائب القلعة التي تحصن فيها اليهود وهزموا وسماها العرب "خربة اليهود"، وقد نكل هدريان بالثائرين أشد تنكيل ودمر "أورشليم" وحرث موقعها الذي كانت قائمة عليه وقتل وسبى أعداداً كبيرة من اليهود، ثم منع اليهود من دخول القدس والسكن فيها بل والدنو منها، وسمح للمسيحيين بالإقامة فيها على ألا يكونوا من أصل يهودي. وأقام هدريان مدينة جديدة فوق خرائب "أورشليم" سماها إيليا كابيتولينا،حيث عرفت بعد ذلك بـ"إيلياء" وهو اسم هدريان الأول، وأقام هيكلاً وثنياً لجوبيتر على نفس مكان الهيكل القديم .
واستمر حظر دخول القدس على اليهود حوالي 200 سنة تالية، وندر دخولهم إليها وأقامتهم فيها طوال القرون التالية حتى القرن التاسع عشر، وتشرد بنو إسرائيل في الأرض ولم يعد لهم في فلسطين سوى الذكريات التي أكثرها كفر وفسق وبغي وقتل للأنبياء، فكان جزاؤهم غضب الله عليهم ولعنته وحرمانهم من الأرض المقدسة وتقطيعهم في الأرض .
وفي نهاية هذا الاستعراض نذكر الخلاصات التالية:
(1) إن سكان فلسطين قد جاء معظمهم من جزيرة العرب وأنهم ظلوا سكان هذه البلاد حتى عصرنا هذا .
(2) إن الله قد وعد بني إسرائيل الأرض المقدسة عندما كانوا مستقيمين على أمر الله وعندما كانت تسوسهم الأنبياء، فلما بدلوا وأعرضوا وكفروا ذهب هذا الحق من أيديهم .
(3) إن المسلمين هم أولى من بني إسرائيل بأنبيائهم وهم الورثة الحقيقيون لتراثهم ودعوة الإسلام هي استمرار لدعوة هؤلاء الأنبياء، وإن الحق الذي سعوا لتكريسه هو الحق الذي يسعى المسلمون لتكريسه .
(4) إن ملك بني إسرائيل لم يشمل في أي يوم من الأيام كل فلسطين المعروفة بحدودها الحالية، وإن المدة التي حكموا فيها بشكل مستقل تماماً هي مدة ضئيلة قياساً إلى تاريخ فلسطين وأنهم حتى عندما كانت لهم مملكتان كانوا في كثير من الأحيان خاضعين لنفوذ قوى أكبر منهم .
(5) إن الحكم الذاتي الذي تمتع به اليهود بعد عودتهم من السبي البابلي كان ضعيفاً ومحدوداً بمنطقة القدس وضواحيها، ولم يتمتعوا بعد ذلك إلا باستقلال محدود في عهد المكابيين .
(6) إن اليهود بعد ذلك تشردوا في الأرض – بسبب منكراتهم وأفعالهم- ولم تعد لهم صلة بفلسطين لفترة استمرت حوالي 1900 سنة متصلة .
وفي الختام نذكر قول هـ.ج.ولز في كتاب موجز التاريخ حول تجربة بني إسرائيل في فلسطين بعد السبي البابلي:"كانت حياة العبرانيين (في فلسطين) تشبه حياة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار . . ومن الأول إلى الآخر لم تكن (مملكتهم) سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسورية وآشور وفينيقية ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم" .
ويذكر المؤرخ المشهور غوستاف لوبون أن بني إسرائيل عندما استقروا في فلسطين "لم يقتبسوا من تلك الأمم العليا سوى أخس ما في حضارتها، أي لم يقتبسوا غير عيوبها وعاداتها الضارة ودعارتها وخرافاتها فقربوا لجميع آلهة قبيلتهم يهوه العبوس الحقود الذي لم يثقوا به إلا قليلاً"، ويقول "اليهود عاشوا عيش الفوضى الهائلة على الدوام تقريباً ولم يكن تاريخهم غير قصة لضروب المنكرات. ." . . "إن تاريخ اليهود في ضروب الحضارة صفر . . و(هم) لم يستحقوا أن يعدوا من الأمم المتمدنة بأي وجه" . . ويقول غوستاف لوبون أيضاً "وبقي بنوا إسرائيل حتى في عهد ملوكهم بدواً أفّاقين مفاجئين مغيرين سفاكين . . مندفعين في الخصام الوحشي"، ويقول "إن مزاج اليهود النفسي ظل على الدوام قريباً جداً من حال أشد الشعوب ابتدائية فقد كان اليهود عنُدُاً مندفعين غفلاً سذجاً جفاة كالوحوش والأطفال" . . "ولا تجد شعباً عطل من الذوق الفني كما عطل اليهود" .
فلسطين في التاريخ الإسلامي
منذ العصر العباسي الثاني الذي ابتدأ بعد منتصف القرن الثالث الهجري ودولة الخلافة الإسلامية في ضعف مستمر متزايد، حتى تمزقت دولة الإسلام إلى ثلاث خلافات بدلاً من خلافة واحدة فالخلافة العباسية في المشرق، والخلافة الفاطمية في مصر وأجزاء من المغرب والشام، والخلافة الأموية في الأندلس، وفي مثل تلك الأجواء حدثت الحروب الصليبية.
الخريطة السياسية للمنطقة قبيل الحروب الصليبية
قبل بدء الحروب الصليبية بحوالي أربعين عاماً نجح السلاجقة الأتراك في بسط سيطرتهم على بغداد وتولي الحكم تحت الخلافة الاسمية للعباسيين. فقد استطاع السلاجقة بسط سيطرتهم على أجزاء واسعة من فارس وشمال العراق وأرمينيا وآسيا الصغرى حوالي 1040م ثم سيطر السلطان السلجوقي طغرل بك على بغداد سنة 1055م، وتوسع السلاجقة على حساب البيزنطيين في آسيا الصغرى، وفي 19 أغسطس 1071م وقعت معركة ملاذكرد التي قادها السلطان السلجوقي ألب أرسلان وحلت فيها أكبر كارثة بالبيزنطيين حتى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي.
وفي سنة 1071م سيطر السلاجقة على معظم فلسطين عدا أرسوف وأخرجوا النفوذ الفاطمي منها وتوسع السلاجقة على حساب الفاطميين في الشام فاستطاعوا الاستيلاء على معظمها.
وفي سنة 1092م 485 هـ توفي السلطان السلجوقي ملكشاه فتفككت سلطة السلاجقة، ودخلوا فيما بينهم في معارك طويلة طاحنة على السيطرة والنفوذ، وفي سنة 1096م أصبحت سلطتهم تتكون من خمس ممالك: سلطنة فارس بزعامة بركياروق، ومملكة خراسان وما وراء النهر بزعامة سنجر ومملكة حلب بزعامة رضوان، ومملكة دمشق بزعامة دقاق، وسلطنة سلاجقة الروم بزعامة قلج أرسلان. وكانت معظم مناطق فلسطين تتبع الحكم في دمشق. وفي ظل ضعف حاكمي الشام (رضوان ودقاق) ظهرت الكثير من البيوتات الحاكمة بحيث لا يزيد حكم كثير منها عن مدينة واحدة.
لقد بدأ الصليبيون حملتهم 1098م - 491هـ ومناطق المسلمين في الشام والعراق وغيرها تمزقها الخلافات والصراعات الدموية، فقد دخل الأخوان رضوان ودقاق ابنا تتش في حرب بينهما سنة 490 هـ، ووقعت معارك عديدة بين محمد بن ملكشاه وأخيه بركياروق في الصراع على السلطنة تداولا فيها الانتصارات والخطبة لهما بدار الخلافة 492-497هـ.
الحملة الصليبية الأولى ونتائجها
وفي تلك الأثناء أخذت الأنظار في أوروبا تتجه نحو الأرض المقدسة بعد أن دعا البابا أوربان الثاني (1088 - 1099م) في مجمع كليرومونت 26 تشرين ثاني / نوفمبر 1095م «لاسترداد» الأراضي المقدسة من أيدي المسلمين، تم عقد عدة مجمعات دعا فيها للحروب الصليبية (ليموج، انجرز، مان، تورز، بواتييه، بوردو، تولوز، نيم) خلال 1095-1096م، وقرر أن كل من يشترك في الحروب الصليبية تغفر له ذنوبه، كما قرر أن ممتلكات الصليبيين توضع تحت رعاية الكنيسة مدة غيابهم، وأن يخيط كل محارب صليباً من القماش على ردائه الخارجي.
وبدأت الحملات الصليبية بحملات العامة أو حملات الدعاة، وهي حملات تفتقر إلى القوة والنظام، وكان منها حملة بطرس الناسك وهو رجل فصيح مهلهل الثياب حافي القدمين يركب حماراً أعرج جمع حوله من فرنسا حوالي 15 ألفاً، وفي طريقهم أحدثوا مذبحة في مدينة مجرية لخلاف على المؤن فقُتل أربعة آلاف، وانضمت إليهم عند القسطنطينية جموع والتر المفلس، ودخلت حشودهم الشاطئ الآسيوي، وحدثت معركة مع السلاجقة انتصر فيها السلاجقة وقتلوا من الصليبيين 22 ألفاً ولم يبق من الصليبيين سوى ثلاثة آلاف. أما حملتا فولكمار وأميخ فقد أقامتا مذابح لليهود في الطريق، وتشتت الحملتان في المجر!!.
ثم كان ما يعرف بالحملة الصليبية الأولى وقد شارك فيها أمراء وفرسان أوروبيون محترفون وبدأت الحملة سيطرتها على مناطق المسلمين منذ صيف 1097م، وأسس الصليبيون إمارة الرها مارس 1098م بزعامة بلدوين البولوني. وحاصر الصليبيون أنطاكية تسعة أشهر وظهر من شجاعة صاحب أنطاكية باغيسيان «وجودة رأيه واحتياطه مالم يشاهد من غيره فهلك أكثر الفرنج ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام»، غير أن أحد الأرمن المستحفظين على أسوار المدينة راسله الصليبيون وبذلوا له «مالاً وإقطاعاً» ففتح للصليبيين الباب من البرج الذي يحرسه فاحتل الصليبيون المدينة، وأسسوا فيها إمارتهم الثانية 491هـ -3 يونيو 1098م، بزعامة بوهيمند النورماني.
وفي الوقت الذي كان السلاجقة يتعرضون فيه للزحف الصليبي شمال بلاد الشام، استغل الفاطميون الفرصة فاحتلوا صور 1097م وسيطروا على بيت المقدس في شباط / فبراير 1098م أثناء حصار الصليبيين لأنطاكية، واستقل بطرابلس القاضي بن عمار أحد أتباع الفاطميين، بل أرسل الفاطميون للصليبيين أثناء حصارهم لأنطاكية سفارة للتحالف معهم وعرضوا عليهم قتال السلاجقة بحيث يكون القسم الشمالي «سوريا» للصليبيين وفلسطين للفاطميين، وأرسل الصليبيون وفداً إلى مصر ليدللوا على «حسن نيَّاتهم»!!، وهكذا... فأثناء انشغال السلاجقة بحرب الصليبيين كان الفاطميون منشغلين بتوسيع نفوذهم في فلسطين على حساب السلاجقة حتى إن حدودهم امتدت حتى نهر الكلب شمالاً ونهر الأردن شرقاً..!!
وظهرت الخيانات وانكشف التخاذل من إمارات المدن التي حرصت كل منها على نفوذها و«كسب ود» الصليبيين أثناء توسعهم ومن ذلك ما حدث من اتصال صاحب إقليم شيزر بالصليبيين حيث تعهد بعدم اعتراضهم وتقديم ما يحتاجون من غذاء ومؤن بل وأرسل لهم دليلين ليرشداهم على الطريق!!، وقدمت لهم حمص الهدايا!! وعقدت معهم مصياف اتفاقية!!.. أما طرابلس فدفعت لهم الجزية، وأعانتهم بالأدلاء، ودفعت بيروت المال، وعرضت عليهم الدخول في الطاعة إذا نجحوا في احتلال بيت المقدس!!.
تابع ريموند دي تولوز (أمير إقليم بروفانس وتولوز بفرنسا) قيادة بقية الصليبيين إلى بيت المقدس وكان عددهم ألف فارس وخمسة آلاف من المشاة فقط!! وفي ربيع 1099م دخلوا مناطق فلسطين فمروا بعكا التي قام حاكمها بتموين الصليبيين!! ثم قيسارية ثم أرسوف، ثم احتلوا الرملة واللد وبيت لحم، وفي 7 حزيران / يونيو 1099م بدأوا حصار بيت المقدس، وكان حاكمها قد نصبه الفاطميون ويدعى افتخار الدولة، وتم احتلالها في 15 يوليو 1099 لسبع بقين من شعبان 492هـ. ولبث الفرنج أسبوعاً يقتلون المسلمين... وقتلوا بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم وعبادهم(20). أما الدولة الفاطمية فقد واجهت الخبر ببرود، كما أن الدولة العباسية لم تحرك ساكناً!!
تولى حكم بيت المقدس القائد الصليبي جود فري بوايون، وتسمى تواضعاً بحامي بيت المقدس، واستسلمت نابلس، وتم للصليبيين احتلال الخليل(21).
ويقال إنه لم يبق من الصليبيين إلا ثلاثمائة فارس وألفين من المشاة ولم يستطيعوا توسيع سيطرتهم، ذلك أن كثيراً منهم عادوا إلى بلادهم بعد أن أوفوا قسمهم بالاستيلاء على بيت المقدس(22)، وبذلك أصبحت ممالك الصليبيين كالجزر وسط محيط من الأعداء، ومع ذلك كتب لها الاستمرار مائتي سنة حتى تم اقتلاع آخرها!! بسبب الإمدادات والحملات التي كانت تأتيهم بين فترة وأخرى، وبسبب ضعف المسلمين وتشرذمهم، وعدم استغلالهم لفرصة انسياب وانتشار الصليبيين على مساحات واسعة من الأرض بأعداد قليلة ليقضوا عليهم، ولكن المسلمين تأخروا حتى قويت شوكة الصليبيين وأصبح من الصعب اقتلاعها.
وتتابع سقوط مدن فلسطين الأخرى، فقد كانت يافا قد سقطت أثناء حصار بيت المقدس على يد سفن جنوية في 15 يونيو 1099م، وسيطر الصليبيون على شرق بحيرة طبرية (منطقة السواد) في مايو 1100م، واستولوا على حيفا عنوة في شوال 494 هـ - أغسطس 1100م بمساعدة أسطول كبير من البندقية، وملكوا أرسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها، وملكوا قيسارية 17 مايو 1109م بالسيف وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها وذلك في 17 مايو 1101م(23). وهكذا فرض الصليبيون هيمنتهم على فلسطين غير أن عسقلان ظلت عصية عليهم وكان المصريون (الفاطميون) يرسلون لها كل عام الذخائر والرجال والأموال، وكان الفرنج يقصدونها ويحاصرونها كل عام فلا يجدون لها سبيلاً، ولم تسقط عسقلان بأيدي الفرنج إلا في سنة 1153م-548هـ، وكان أهلها قد ردوا الفرنج مقهورين في ذلك العام، وعندما آيس الفرنج وهموا بالرحيل أتاهم خبرأن خلافاً وقع بين أهلها فصبروا. وكان سبب الخلاف أن أهلها لما عادوا قاهرين منصورين ادعى كل طائفة أن النصرة كانت من جهتها، فعظم الخصام بينهم إلى أن قتل من إحدى الطائفتين قتيل، واشتد الخطب وتفاقم الشر، ووقعت الحرب بينهم فقتل بينهم قتلى!! فطمع الفرنج، وزحفوا إلى عسقلان وقاتلوا «فلم يجدوا من يمنعهم فملكوه»(24)!! ترى... كم هي الهزائم التي تأتي من أنفسنا أو نصنعها بأنفسنا؟! {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}(25).
وهكذا تأسست مملكة بيت المقدس الصليبية، ونشير استطراداً إلى تأسيس الفرنج لمملكة صليبية رابعة هي طرابلس في 11 ذي الحجة 503هـ -12 يوليو 1109م بعد حصار دام سبعة أعوام.
استمرار الصراع (نظرة عامة)
من الصعب أن ندخل في تفصيل الأحداث سنة بسنة وحادثاً بحادث، خصوصاً أن منهجنا يميل إلى الاختصار ووضع اليد على النقاط المهمّة الحساسة في سياق حديثنا عن التجربة التاريخية للحل الإسلامي على أرض فلسطين، غير أن استكمال الصورة ومعرفة مجمل الظروف في تلك الفترة يقتضي الإشارة إلى المعطيات التالية التي ظهرت خلال الثلاثين سنة التي تلت الاحتلال الصليبي لبيت المقدس:
- كان عدد الصليبيين محدوداً وقد فرضوا هيمنتهم من خلال قلاع منتشرة كجزر معزولة في العديد من مناطق الشام.
- استمر الصراع والنزاع بين المسلمين، واستعان بعضهم بالصليبيين على خصومهم، مما أضعف الموقف الإسلامي، وجعل الصليبيين يلعبون في بعض الأحيان دور الشرطي، ويستفيدون من ذلك في زيادة نفوذهم وتقوية شوكتهم.
ومن ذلك الصراع بين طغتكين وبكتاش بن تتش على دمشق، حيث استعان بكتاش 498هـ بالفرنج على خصمه، ولحق به «كل من يريد الفساد»، غير أن ملك الفرنج لم يعطه سوى التحريض على الإفساد، ثم استقام الأمر لطغتكين(27). وعندما وقعت معركة بين الفاطميين والفرنج بين عسقلان ويافا سنة 498هـ ساعدت الفاطميين قوة من دمشق من 300 فارس وساعدت جماعة من المسلمين بقيادة بكتاش بن تتش الفرنج(28). وعندما جاء جيش السلطان من العراق سنة 509هـ إلى الشام لجهاد الصليبيين بقيادة برسق بن برسق خاف حكام دمشق وحلب على نفوذهم من أن يزول فتعاونوا بقيادة طغتكين مع فرنج أنطاكية ضد جيش السلطان. ثم ما لبث طغتكين نفسه أن قاتل فرنج بيت المقدس واستعاد رفنية بعد أن استولى الفرنج عليها(29)...، إنه القتال المرتبط بالمصلحة، فمرة يلبس ثوب الجهاد في سبيل الله، ومرة يلبس ثوب الدفاع عن «الحق» (الكرسي) تحت حجج الوراثة أو الكفاءة... حتى لو اقتضى ذلك التحالف مع الأعداء.
- استمر جهاد المسلمين ضد الفرنج (الصليبيين) دون توقف، وإن كان هذا الجهاد قد افتقر إلى حسن الإعداد والتنظيم، كما تعدد القادة المسلمون الذين يأتون ويذهبون، كما تعددت محاور الصراع والاشتباك مع الفرنج في بلاد الشام، وافتقر المسلمون إلى قاعدة كبيرة قوية تكون منطلقاً دائماً للجهاد، وكثيراً ما كان القتال بين مدينة أو قلعة إسلامية -تحاول الدفاع عن نفسها أو توسيع نفوذها- وبين الفرنج.
وتداول المسلمون والصليبيون النصر والهزيمة في المعارك، ولم يكن يمضي عام دون معارك وتبادلوا احتلال المدن والقلاع، ولم يكن من الصعب على المسلمين أن يدخلوا في وسط فلسطين ويخوضوا المعارك عند الرملة أو يافا أو غيرهما. غير أن الصليبيين ظلوا يحتفظون بنفوذهم وهيمنتهم في المناطق التي استولوا عليها.
وظهر عدد من المجاهدين المسلمين الذين كانت قدراتهم محدودة ولم يتمكنوا من توحيد قوى المسلمين لجهاد الفرنج، غير أنهم حافظوا على جذوة الجهاد، وألحقوا بالفرنج خسائر كبيرة وأفقدوهم الاستقرار والأمان وقتلوا أو أسروا العديد من قادتهم وزعمائهم(30). فمثلاً كان بين معين الدولة سقمان وشمس الدولة جكرمش حرب، ولمّا حوصرت حرَّان من قبل الفرنج سنة 497هـ تراسلا وأعلم كل منهما الآخر أنه قد بذل نفسه لله تعالى وثوابه فسارا واجتمعا بالخابور في عشرة آلاف من التركمان والترك والعرب والأكراد فالتقوا بالفرنج عند نهر البليخ، وهزم الفرنج فقتلهم المسلمون «كيف شاؤوا»، وأسر بردويل وفدى بخمسة وثلاثين ديناراً و 160 أسيراً من المسلمين وكان عدد قتلى الفرنج يقارب «12» ألفاً(31).
وفي سنة 507 هـ اجتمع المسلمون من الموصل وسنجار ودمشق وقاتلوا الفرنج عند طبرية وانتصروا عليهم وأسروا ملكهم «بغدوين» دون أن يعرف فأخذ سلاحه وأطلق وكثر القتل والأسر في الفرنج. ثم جاء مدد من جند أنطاكية وطرابلس فقويت نفوس الفرنج وعادوا للحرب فأحاط بهم المسلمون من كل ناحية وصعد الفرنج إلى جبل غربي طبرية ومكثوا 26 يوماً دون أن ينزلوا للقتال، فتركهم المسلمون وساروا إلى بيسان ونهبوا «بلاد الفرنج» بين عكا إلى القدس وخربوها، ورجع المسلمون. وعاد مودود بن التونتكين صاحب الموصل مع طغتكين إلى دمشق، وهناك في صحن المسجد في يوم الجمعة وثب عليه باطني فجرحه أربع جراحات وقُتل الباطني، وأبى مودود أن يموت إلا صائماً، وكان خيراً عادلاً كثير الخير. ويقال إن طغتكين هو الذي تآمر عليه. وكتب ملك الفرنج إلى طغتكين بعد قتل مودود كتاباً جاء فيه: «إن أمة قتلت عميدها يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها»(32)!!
- المسلمون من سكان فلسطين الأصليين استمروا في سكنهم للبلاد التي احتلها الفرنج، ولكن قسماً منهم هجروها إلى شرق الأردن ودمشق، وأنفوا من التعاون مع الصليبيين. ولذلك تعطلت الزراعة في أكثر المدن الساحلية الفلسطينية. وقد عمل هؤلاء على محاربة الصليبيين وقدموا خدمات للمسلمين المهاجمين، وانضموا إلى كتائب المسلمين في بلاد الشام وساعدوهم كأدلاء في فلسطين، ويقول المؤرخ الصليبي وليم الصوري عنهم «إنهم علموا عدونا كيف يدمرنا لأنهم يملكون معلومات كافية عن حالتنا»(33).
وكان من أبرز قادة المسلمين المجاهدين الأوائل أقسنقر البرسقي الذي ولاه السلطان محمد سنة 508هـ الموصل وأعمالها وأمره بقتال الفرنج، وخاض أقسنقر المعارك ضد الصليبيين في شمال الشام، ودخلت -بالإضافة إلى الموصل والجزيرة وسنجار- مدينة حلب سنة 518هـ تحت زعامته فتوسعت جبهته المعادية للصليبيين، غير أنه قُتل رحمه الله سنة 520هـ على يد الباطنية في الموصل وكان أقسنقر مملوكاً تركياً خيراً يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة، يحافظ على الصلوات في أوقاتها ويقوم الليل(34).
- الدولة الفاطمية في مصر بقيادة وزيرها الأفضل بدر الجمالي أرسلت حملات عديدة إلى فلسطين وحاولت الدفاع عن مناطق نفوذها على الساحل، غير أن حملاتها لم تكن بمستوى ما تزخر به مصر من قدرات وإمكانات، ويظهر أن حملاتها اتخذت طابعاً استعراضياً، وافتقرت إلى التنسيق الجاد مع القوى الإسلامية في الشام(35). وكان الحكم الفاطمي قد افتقد مصداقيته الجهادية الإسلامية عندما راسل الفرنج وهم يزحفون باتجاه بيت المقدس عارضاً التحالف ضد السلاجقة وتقاسم النفوذ في الشام. ومهما يكن، فإن الدولة الفاطمية كانت في طور الأفول، وكانت تعاني من عوامل الضعف والانهيار.
جهاد عماد الدين زنكي 521 - 541هـ
انفتحت صفحة جديدة لجهاد الصليبيين بظهور عماد الدين زنكي بن أقسنقر وبدء عهد الدولة الزنكية في الموصل وحلب، فقد تولى عماد الدين زنكي أمر ولاية الموصل وأعمالها سنة 521هـ بعد أن ظهرت كفاءته في حكم البصرة وواسط وتولَّى شحنكية العراق(36)، وفي محرم سنة 522هـ تمت له السيطرة على حلب. وأخذ عماد الدين يخوض المعارك تلو المعارك ويحقق الانتصارات على الصليبيين، وعلق ابن الأثير بعد أن تحدث عن انتصار عماد الدين على الفرنج في معركة كبيرة وملكه حصن الأثارب وحصاره حارم سنة 524هـ... «وضعفت قوى الكافرين، وعلموا أن البلاد قد جاءها مالم يكن لهم في حساب، وصار قصاراهم حفظ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع»(37).
واستمرت جهود زنكي في توحيد قوى المسلمين في غزو الصليبيين، فملك زنكي حماة وحمص وبعلبك، وسرجي، ودارا، والمعرة، وكفر طاب، وقلعة الصور في ديار بكر، وقلاع الأكراد الحميدية، وقلعة بعرين، وشهرزور، والحديثة، وقلعة أشب وغيرها من الأكراد الهكارية(38).. . وفي سنة 534هـ حاول زنكي الاستيلاء على دمشق مرتين دون جدوى، فقد كانت دمشق المفتاح الحقيقي لاسترداد فلسطين من جهة الشام، غير أن القائم بأمر الحكم هناك معين الدين أنز راسل الصليبيين للتحالف ضد زنكي ووعدهم أن يحاصر بانياس ويسلمها لهم ووافقوا، ولكن زنكي ذهب إليهم قبل قدومهم لدمشق فلما سمعوا ذلك لم يخرجوا. ومع ذلك فإن معين الدين حاصر بانياس بمساعدة جماعة من الفرنج ثم استولى علىها وسلمها للفرنج(39)!!
غير أن أشهر ما يذكر من الفتوح لزنكي هو فتحه للرها وإسقاطه للمملكة الصليبية التي قامت بها، فقد حاصرها أربعة أسابيع وفتحها عنوة في 6 جمادى الآخرة 539هـ، وفتح ما يتبع هذه المملكة من أعمال في منطقة الجزيرة، وفتح سروج وسائر الأماكن التي كانت للفرنج شرقي الفرات ما عدا البيرة(40).
قتل عماد الدين زنكي -بعد أن حمل راية الجهاد أكثر من عشرين عاماً- في منتصف سبتمبر 1146م- 5 ربيع الأول 541هـ غدراً على يد جماعة من مماليكه بينما كان يحاصر قلعة جعبر(40)، وكان عمره زاد عن ستين سنة وعلى ما ذكر ابن الأثير فقد كان زنكي شديد الهيبة في عسكره ورعيته، عظيم السياسة، لا يقدر القوي على ظلم الضعيف، وكانت البلاد قبل أن يملكها خراباً من الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنج، فعمّرها وامتلأت أهلاً وسكاناً «وكان زنكي من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وشكلاً، وكان شجاعاً مقداماً حازماً، خضعت له ملوك الأطراف، وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية، وأجود الملوك معاملة، وأرفقهم بالعامة»(43). واشتهر عماد الدين بعد مقتله بلقب «الشهيد».
لقد عمل عماد الدين زنكي في أجواء صعبة من نزاع بين أمراء وزعماء السلاجقة أنفسهم، وبينهم وبين الخليفة العباسي في أحيان أخرى، ومن أجواء الحكم الوراثي، ونزعة الكثيرين للسيطرة والزعامة حتى ولو على مدينة أو قلعة واحدة، كما عاش فترة كانت القوى الصليبية لا تزال تملك الكثير من القوة والحيوية. ومع ذلك فقد استطاع عماد الدين أن يضع الأسس لقاعدة انطلاق جهادية كبيرة وقوية تمتد من شمال الشام إلى شمال العراق، كما كسر شوكة الصليبيين في مواقع كثيرة، ويسر سبل الجهاد والعمل الجاد لتحرير الأرض، وقدم نموذجاً للحاكم والمجاهد تحت راية الإسلام، وقوى الأمل باسترجاع المقدسات. غير أن أفضل أثر تركه -على ما يظهر لنا- هو ابنه نور الدين محمود.
جهاد نور الدين محمود 541هـ-569هـ
بعد استشهاد زنكي، وحسب الأعراف الوراثية في ذلك الزمان، انقسمت دولته بين ابنيه: نور الدين محمود الذي تولى حلب وما يتبعها وسيف الدين غازي الذي تولى الموصل وما يتبعها.
ولد نور الدين محمود -بعد حوالي عشرين عاماً من سقوط القدس في أيدي الصليبيين- في 17 شوال 511هـ -فبراير 1118م، وكان أسمر طويل القامة، حسن الصورة، ذا لحية خفيفة، وعليه هيبة ووقار. تزوج سنة 541هـ من ابنة معين الدين أنز ورزق ببنت وولدين، وتوفي رحمه الله في 11 شوال 569هـ-15 مايو 1174م(44).
وبحكم نور الدين انفتحت صفحة جديدة رائعة من صفحات الجهاد الإسلامي في بلاد الشام، وطوال 28 عاماً من حكم نور الدين كان واضحاً في ذهنه هدفه الأساسي في تحرير واسترداد بلاد المسلمين، وتوحيدها تحت راية الإسلام.
ومنذ تلك اللحظة أخذ يبذل الأسباب ويعد العدة والعتاد ويوحد جهود المسلمين ويرتقي بهم في جوانب الحياة المختلفة وذلك وفق تصور إسلامي متكامل لإعادة أمجاد المسلمين وطرد الاحتلال الصليبي من بلادهم...
ودخل المعركة وفق فهم إسلامي شامل سليم يؤكد على عقائدية المعركة مع الصليبيين فهي صراع بين حق وباطل وبين إسلام وكفر.
- وأن المعركة تعني كل المسلمين دون نظر إلى قوميات وعصبيات وجنسيات.
- وأنه لا سلام نهائي حتى يسترجع المسلمون كل شبر من أراضيهم.
- وأنه لا بد من الإعداد المتكامل للأمة -حتى تكون على مستوى الجهاد- إيمانياً وثقافياً وتربوياً واجتماعياً وجهادياً وعسكرياً.
- وأنه لا بد من توحيد الجهود تحت راية الإسلام في مواجهة العدو الصليبي.
معالم النهضة الإسلامية
وفي سبيل ذلك قام نور الدين محمود بإحياء نهضة إسلامية أكدت على تكامل الحل الإسلامي، وقد تم التعبير عنها من خلال:
1- القيادة الإسلامية الصادقة
وتمثلت في شخصه وأشخاص من حوله من القادة والمسؤولين والعلماء. فقد كان للتكوين النفسي والشخصية المميزة لنور الدين محمود أثرهما الكبير في وجود قيادة إسلامية واعية، جادة، مجاهدة.
قال ابن الأثير: «طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام، وفيه إلى يومنا هذا، فلم أرَ بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين»(45). فلقد كان «ذكياً، ألمعياً، فطناً، لا تشتبه عليه الأحوال، ولا يتبهرج عليه الرجال»، ولم يتقدم لديه إلا ذوو الفضل، والقدرة على الإنجاز الأمين المسؤول للعمل، ولم ينظر في تقديمه للرجال إلى المكانة الاجتماعية أو للجنس والبلد(46).
كما عرف نور الدين بتقواه وورعه فقد كان حريصاً على أداء السنن وقيام الليل بالأسحار. فكان ينام بعد صلاة العشاء ثم يستيقظ في منتصف الليل فيصلي ويتبتل إلى الله بالدعاء حتى يؤذن الفجر. كما كان كثير الصيام(47).
وتميز بفقهه وعلمه الواسع فلقد تشبه بالعلماء واقتدى بسيرة السلف الصالح، وكان عالماً بالمذهب الحنفي، وحصل على الإجازة في رواية الأحاديث وألف كتاباً عن الجهاد(48).
وكان ذا طبيعة جادة، كما رزقه الله قوة الشخصية فكان «مهيباً مخوفاً مع لينه ورحمته» ومجلسه «لا يذكر فيه إلا العلم والدين والمشورة في الجهاد» «ولم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضى صموتاً وقوراً»(49).
وكان زاهداً متواضعاً فقد «كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير اكتناز، ولا استئثار بالدنيا»، وعندما شكت زوجته الضائقة المادية أعطاها ثلاثة دكاكين له بحمص وقال «ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه، ولا أخوض في نار جهنم لأجلك»(50).
قال له الشيخ الفقيه قطب الدين النيسابوري يوماً «بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام، فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف». فقال له نور الدين «يا قطب الدين!! ومن محمود حتى يقال له هذا؟ قبلي من حفظ البلاد والإسلام؟ ذلك الله الذي لا إله إلا هو»(51).
وعلى اتساع نفوذه وسلطانه جاءه التشريف من الخلافة العباسية وتضمن قائمة بألقابه التي يذكر بها على منابر بغداد تقول «اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين وعدته، ركن الإسلام وسيفه قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضي الإمامة وأثيرها، فخر الملة ومجدها شمس المعالي وملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين، ناصر دولة أمير المؤمنين»!! فأوقف هذا كله واكتفى بدعاء واحد هو «اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي»(52).
وعرف باتساع شعبيته وحب الناس له حتى في البلاد التي لا يحكمها، وكان يستشعر إحساساً عظيماً بالمسؤولية تجاه الزمن أن يضيع وتجاه الدم المسلم أن يراق والكرامة الإسلامية أن تهدر والأرض الإسلامية أن تستباح فكان يصل في عمله الليل بالنهار. وكان لا يهمل أمراً من أمور رعيته(53).
وحباه الله تكويناً عسكرياً فذاً حمل من خلاله تكاليف الجهاد الشاقة 28 عاماً بنفسية جهادية صادقة(54).
2- التزام أحكام الإسلام وتطبيقها
حرص على تطبيق أحكام الإسلام على الجميع، وكان قدوة في الالتزام بها، وطبقها على مسؤولي الدولة وقادتها، وكما حرص على رد الحقوق إلى أصحاب المظالم وكان يقول «حرام على كل من صحبني أن لا يرفع قصة مظلوم لا يستطيع الوصول إليَّ»، وفي توحيده لبلاد المسلمين كان يحرص على عدم إراقة دماء المسلمين ولذلك كان ذا صبر وحكمة وتأن في ذلك، لقد كان رحمه الله يحفظ الشريعة المطهرة ويقف عند أحكامها(55).
ورغم اضطراره للاصطدام بالعديد من زعماء المدن والقلاع المسلمين في سعيه لتحقيق الوحدة أو لتحالفهم مع الفرنج...، إلا أن دم المسلم كان عنده عظيماً، وكان «لا يقصد ولاية أحد من المسلمين إلا لضرورة، إما ليستعين على قتال الفرنج أو للخوف عليها منهم»(56). وعندما تحالف حكام دمشق مع الصليبيين سنة 544هـ جاهد الصليبيين دون إيذاء المسلمين وضياعهم، وقال «لا حاجة لقتل المسلمين بعضهم بعضاً وأنا أرفههم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين». لقد شاهد الدماشقة حرمته حتى تمنوه، ودعوا الله أن يكون ملكهم(57).
وعندما رفع عليه أحدهم قضية إلى القاضي، استدعاه القاضي فقال: السمع والطاعة «إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا»، إني جئت ها هنا امتثالاً لأمر الشرع». وفي مرة أخرى دعي للقضاء فاستجاب ولما ثبت أن الحق مع نور الدين وهب لخصمه ما ادعاه عليه(58).
لقد ألغى رحمه الله الضرائب التي تزيد عن الحد الشرعي رغم ما كانت تدر من دخل كبير على ميزانية الدولة ورغم ما يمكن تبرير وجودها -عند البعض- بظروف البلاد والحرب(59). وكان يقول «نحن نحفظ الطريق من لص وقاطع طريق... أفلا نحفظ الدين ونمنع ما يناقضه»(60). وكان أشهى شئ عنده كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها(161).
3- البناء الإيماني والتربوي والثقافي
وفي هذا المجال استقدم العلماء العاملين وأفسح لهم مجال العمل والدعوة، وسعى في بناء المدارس والمساجد وأوقف عليها الأوقاف، وحارب البدع والأضاليل... فانتشر نور الإيمان والعلم بين الرعية. وأحيا سمت احترام العلماء وتوقيرهم فرغم أن الأمراء والقادة لم يكونوا يجرؤون على الجلوس في مجلسه دون أمره وإذنه... فإنه كان إذا دخل العالم الفقيه أو الرجل الصالح قام هو إليه وأجلسه وأقبل عليه مظهراً كل احترام وتوقير(62). وكان يقول عن العلماء إنهم «هم جند الله وبدعائهم نُنصَر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم فإن رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا»(63). لقد كانت بلاد الشام خالية من العلم وأهله، وفي زمانه صارت مقراً للعلماء والفقهاء والصوفية(64). وكان يسمع نصيحة العلماء ويجلها ويقول «إن البلخي إذا قال لي: محمود، قامت كل شعرة في جسدي هيبة له ويرقُّ قلبي»(65).
4- الإعمار والبناء الحضاري والاجتماعي:
عرف نور الدين بشخصيته التي تهتم بأحوال المسلمين وتحيي معاني التكافل والتعاون والتضامن بينهم وترفع عنهم معاناتهم وأحوالهم الصعبة... فلقد عمل على كفالة الأيتام وتزويج الأرامل وإغناء الفقراء وبناء المستشفيات والملاجئ ودور الأيتام والأسواق والحمامات والطرق العامة، وتوطين البدو وإقطاعهم الأراضي حتى لا يؤذوا الحجاج. لقد ارتقى بالخدمات التي تقدم للمسلمين فأحبه الشعب وأصبحت صلته بالشعب متينة قوية...، وسرت هذه النفسية البناءة المحبة للخير إلى نفوس رجاله فأصبحوا يتسابقون في خدمة الناس وبناء المدارس والمستشفيات والملاجيء ووسائل الخدمات المختلفة(66).
5- البناء الاقتصادي:
رتب نور الدين ديوان الزكاة في عهده ونظم جبايتها وتوزيعها وفق الأسس الشرعية، وشجع التجارة بتأمين طرق المواصلات ورفع الضرائب التي تثقل حركة التجارة، وسعى في كل ما يقوي الدولة ويدعم بنيانها الاقتصادي(67).
6- البناء الجهادي العسكري:
فلقد سعى في إحياء المعاني الجهادية في النفوس وتربية الأمة على معانيها وتكريس عزة المسلمين ومنعتهم وقوتهم، وبذل الجهد في توفير العدة والعتاد واختيار القادة المناسبين، وحماية المدن وبناء الأسوار والحفاظ على أرواح المسلمين، وتميز بحزمه وقوته في ذلك وكان رده عنيفاً جداً على الأعداء إذا انتهكت حرمات المسلمين، ومن ذلك أنه لم يكد يمر على استلامه للحكم شهر واحد حتى هاجم الصليبيون الرها ظانين أن الحاكم الجديد ضعيف ولكن نور الدين هاجم الصليبيين وقتل ثلاثة أرباع جيشهم الذي هربت فلوله وقد عرفت من يكون هذا القائد الجديد، وحصل مرة أن هاجم الصليبيون نور الدين وجزءاً من جيشه على حين غفلة فأقسم نور الدين أن لا يستظل بسقف حتى ينتقم للإسلام وكان انتقامه رهيباً في معركة حارم إذ قتل منهم الآلاف(68).
حتى الرياضة استفاد منها في مجال الإعداد الجهادي فلقد كانت الحرب تجري في ذلك العصر على الخيول... ولبناء هذه المهارة في التحكم بالخيول وحركتها كان يلعب بمهارة كبيرة لعبة الكرة من فوق الخيول (البولو)(69)!!
لقد حرص على تعبئة طاقات الأمة للجهاد... وهو في بذله لأسبابه لم ينس دعاء الضعفاء والعجائز والمحتاجين فكان يحسن إليهم ويذكر أنه ربما ينتصر ببركة دعائهم.
بهذا البناء المتكامل والإعداد الجاد المتزن دخل نور الدين مرحلة التغيير الجذري على الساحة السياسية ليحقق أمرين سار بهما في اتجاهين متوازيين هما:-
- تحقيق الوحدة الإسلامية وتعبئة قواها في بوتقة واحدة.
- تحطيم القوى الصليبية تدريجياً: بإضعاف هيبتها، وإنهاك قواها، والتحرير التدريجي لأرض المسلمين الواقعة تحت سيطرتها... وذلك بانتظار استكمال الوحدة الإسلامية لتحقيق نصر حاسم ونهائي على هذه القوى الصليبية.
أولاً: جهود الوحدة الإسلامية:
ولقد حرص نور الدين على تحقيقها بقدر كبير من الصبر والحكمة والأناة وحرص شديد على عدم إراقة دماء المسلمين، وقد حرص على استمالة القوى الإسلامية المتعددة في الشمال وشمال العراق وكسب صداقتها، كما كان يكشف بطريقة عاقلة واعية حقيقة أولئك الزعماء والحكام -الذين يقفون حجر عثرة أمام الوحدة الإسلامية- أمام رعيتهم، وكان الناس يقارنون بين جهاده وبين تخاذل حكامهم، وبين إصلاحاته وبين إفساد حكامهم، وبين ولائه لله سبحانه ولرسوله وللمؤمنين وبين ولاء حكامهم لمصالحهم وشهواتهم وللصليبيين!!، فأخذ الناس يتمنون حكمه عليهم.... ولذلك فقد وجد كل ترحيب شعبي عند انضمام أي من بلاد المسلمين إليه.
ضم نور الدين حمص إليه سنة 544هـ -1149م، غير أنه كان يتوق لضم دمشق التي كانت تقف بينه وبين الصليبيين في فلسطين، وكان الحكم في دمشق يسعى بالدرجة الأولى للحفاظ على نفسه فمرة يجاهد الفرنج، ومرة يصانعهم ويهادنهم، ومرة يتحالف معهم إذا خاف من قوة إسلامية ما. ووفق تخطيط متأنٍ يهدف إلى السيطرة على دمشق دون إراقة الدماء، وإلى كسب أهل دمشق إلى صفه، وإلى منع نظام الحكم من الاستعانة بالفرنج عليه إذا قصدهم، استطاع نور الدين أن يفتح دمشق في صفر 549-25 إبريل 1154م، وقد جاء هذا الفتح بعد أن توفي معين الدين أنز 1149م، وبعد أن ضعف الحكم بدمشق، ووقع تحت النفوذ الصليبي الذي فرض الإتاوات على دمشق وكانت رسلهم تدخل البل ويأخذونها منهم(70).
وتوالت سيطرة نور الدين على مدن وقلاع الشام حتى خضعت معظمها له، غير أنه كان يدرك أن السبيل الفعال لتحرير فلسطين واقتلاع الحكم الصليبي منها لا يكون إلا بالسيطرة على مصر ودخولها ضم الن الجبهة الإسلامية المتحدة، ووضع الصليبيين بين فكي الكماشة.
وقد جاءت الفرصة لنور الدين بالسيطرة على مصر عندما استعان أحد المتنافسين على الوزارة واسمه شاور بنور الدين على غريمه ضرغام سنة 559هـ، وعرض على نور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر ويكون قائده الذي يرسله مقيماً بمصر، ويتصرف بأمر نور الدين. أرسل نورُ الدين أسدَ الدين شيركوه الذي هزم ضرغام وقتله، ولكن شاور غدر بشيركوه واستعان بالفرنج لإخراجه، فجاؤوا وحاصروا شيركوه ورفاقه في بلبيس ثلاثة أشهر حتى جاءتهم أخبار انتصارات نور الدين وملكه (حارم) فعرضوا الصلح والعودة إلى الشام فوافق ولم يكن يعلم ما فعله نور الدين بالشام(71).
واشتد التنافس بين نور الدين وبين الصليبيين على مصر، وخصوصاً أن الدولة الفاطمية كانت في ضعف شديد وفي طور الاحتضار. فأرسل نور الدين أسدَ الدين شيركوه إلى مصر في ألفي فارس في حملة ثانية في ربيع الآخر 562هـ، واستطاع هزيمة الفرنج وجيش مصر بالصعيد، وملك الإسكندرية بمساعدة أهلها وذهب للصعيد فملكه، غير أنه اضطر للعودة إلى دمشق في ذي القعدة بعد أن اشترط على الفرنج ألا يأخذوا ولو قرية واحدة من مصر فوافقوا(72).
وتمت السيطرة لنور الدين على مصر في الحملة الثالثة التي قادها أيضاً أسد الدين شيركوه في ربيع الأول 564هـ، ففي ذلك الوقت كان الفرنج بسبب تحالف (شاور) معهم قد تمكنوا من البلاد المصرية وأصبح لهم نفوذ كبير، وتسلموا أبواب القاهرة وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم «وحكموا على المسلمين حكماً جائراً وركبوهم بالأذى العظيم» وطمع الفرنج بملك مصر فجاءت حملة بقيادة ملك بيت المقدس احتلت بلبيس عنوة فقتلت وأسرت ثم حاصرت القاهرة، وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيثه وأرسل في الكتب شعور النساء وقال هذه شعور (جمع شَعْر) نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج. فأرسل نور الدين حملته الثالثة فلما قارب أسد الدين مصر خرج الفرنج خائبين، وانتهت الحملة بسيطرة أسد الدين على مصر وقتل الوزير شاور، وتولى أسد الدين الوزارة مكانه في يناير 1169م في 17 ربيع الآخر 564هـ، غير أن أسد الدين توفي بعد شهرين في 22 جمادى الآخرة فولي صلاح الدين يوسف الأيوبي الوزارة مكانه(73).
وبأمر من نور الدين أسقط صلاح الدين الخلافة الفاطمية، وتمت الخطبة للخليفة العباسي المستضيء في ثاني جمعة من محرم 567 هـ-10 سبتمبر 1171م «فلم ينتطح في ذلك عنزان»، ومات الخليفة الفاطمي العاضد في 10 محرم دون أن يعلم بذلك(74). وهكذا، ضمت مصر اسمياً للخلافة العباسية وأصبحت تحت القيادة الفعلية لنور الدين.
وفي 566هـ -1170م ضم نور الدين الموصل والمناطق التي تتبعها إلى حكمه(75)، كما ضم نور الدين اليمن إلى حكمه سنة 569هـ-1173 عندما أذن لصلاح الدين بفتحها فأرسل إليها أخاه توران شاه بن أيوب حيث تمت له السيطرة عليها(76)، وبذلك امتدت الجبهة الإسلامية المتحدة من العراق إلى الشام فمصر واليمن مما أنذر بقرب القضاء على الصليبيين.
ثانياً: تحطيم القوى الصليبية:
خلال فترة حكمه التي امتدت من 1146-1174م لم تتوقف المعارك وحروب الجهاد بين نور الدين والصليبيين، وفي الوقت الذي كان يدعم فيه حكمه ويوحد جهود المسلمين كان يقوم بالاستيلاء التدريجي على الممالك الصليبية ويضعف قوتها يوماً بعد يوم وهو يعد للمعركة الفاصلة معهم، وخلال تلك الفترة استطاع نور الدين في جهاده الإسلامي استرجاع وتحرير حوالي 50 مدينة وقلعة مما كان تحت سيطرة الصليبيين.
فمنذ بداية حكمه أحكم السيطرة على منطقة الرها وصفَّى الأملاك التي كانت تتبعها (تل باشر، سميساط، قلعة الروم، دلوك، الراوندان، قورس، مرعش، إعزاز، عينتاب، البيرة...) وذلك خلال الفترة بين 1146 - 1151م.
كما استعاد وحرر جميع الأراضي التي كانت تتبع إمارة أنطاكية شرقي نهر العاصي (1147- 1149م) وقتل في أحد معاركها (أنب 29/يوليو/1149) أمير أنطاكية ريموند، وزعيم الباطنية المتعامل معهم ضد المسلمين علي بن وفا. وقام بدور أساسي في تحطيم الحملة الصليبية الثانية (1147-1148) التي شارك فيها ملك فرنسا لويس السابع وإمبراطور ألمانيا كونراد الثالث والتي تعتبر نقطة تحول خطيرة في تاريخ الحروب الصليبية حيث كسرت هيبة الصليبيين ورفعت الروح المعنوية لدى المسلمين(77).
واستمرت الحروب سجالاً، ووقعت العديد من المعارك الهامة، أدت إلى إضعاف النفوذ الصليبي وضم مناطق جديدة لنور الدين على حساب الصليبيين.. حتى أحكم نور الدين إحاطة مملكة بيت المقدس الصليبية. ولا يتسع المجال لذكر المعارك والوقائع كلها ولكنا نكتفي بالإشارة إلى إحداها وهي التي وقعت عند تل حارم في رمضان 559هـ- 11 أغسطس 1164م.
ففي سنة 558هـ كان نور الدين قد انهزم من الفرنج تحت حصن الأكراد، وهي المعركة التي عرفت بـ «البقيعة»، حيث كبسهم الفرنج فجأة وأكثروا فيهم القتل والأسر، ونجا نور الدين في اللحظة الحاسمة وهرب، ونزل قرب حمص وهناك أقسم «والله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام» ثم أرسل إلى حلب ودمشق وأحضر الأموال والثياب والخيل والسلاح فأعطى الناس عوض ما أخذ منهم جميعه وعاد العسكر «كأن لم تصبه هزيمة»(78).
ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خروجه للجهاد وإنفاقه عليه قال له بعضهم «إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح، فغضب من ذلك وقال «والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنّما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ وأصرفها على من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم»؟!(79)
وعرض الفرنج الصلح، لكن نور الدين رفض.واجتمع جيشا المسلمين والفرنج بعد أن حشدا حشوداً ضخمة عند حارم. وقبيل القتال انفرد نور الدين بنفسه تحت تل حارم وسجد لله ومرَّغ وجهه وتضرع «يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك»... «إيش فضول محمود في الوسط»!!.. وقال «اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً. من محمود الكلب حتى يُنصر»؟!! يحقر نفسه ويتذلل إلى الله سبحانه(80).
والتحم الفريقان في 11 أغسطس 1164، وانكشفت المعركة الكبرى عن كارثة هائلة حلت بالصليبيين إذ قتل منهم عشرة آلاف وأسر عشرة آلاف أو أكثر، وكان من بين الأسرى أمير أنطاكية وأمير طرابلس وحاكم قيليقية البيزنطي وأسر جميع الأمراء عدا أمير الأرمن. وفي اليوم التالي استولى نور الدين على حارم...، وكان ذلك فتحاً كبيراً(81).
وفي عام 1173م-569هـ كان نور الدين قد أعد عدته للهجوم النهائي على بيت المقدس وتحرير أرض الإسراء من النفوذ الصليبي حتى إنه قد جهز منبراً جديداً رائعاً للمسجد الأقصى يوضع فيه بعد الانتصار على الصليبيين بإذن الله، وراسل في ذلك عامله على مصر صلاح الدين الذي تلكأ بسبب الظروف الخاصة التي تواجهه في مصر والتي يرى أنها تحتاج إلى صبر وأناة وإعداد. ولم يرض نور الدين بذلك التأخر فقرر الذهاب إلى مصر وترتيب أمورها بنفسه إلا أن المنيَّة عاجلته، فتوفي رحمه الله في 15/مايو/1174م الموافق 11 من شوال 570هـ(82).
وهكذا انطوت صفحة رائعة من صفحات الجهاد أيام الحروب الصليبية إلا أن الصفحة التي تلتها كانت مشرقة ومؤثرة في مسار التاريخ تلك هي صفحة صلاح الدين الأيوبي.
جهاد صلاح الدين الأيوبي 569-589هـ
رفع الراية -من بعد نور الدين محمود- صلاح الدين الأيوبي وقد سار على خطى سلفه نور الدين، فقد ترسم المنهج الإسلامي والحل الإسلامي في تحطيم القوى الصليبية وتحرير الأرض المقدسة.
جاء صلاح الدين وقد وجد أن نور الدين قد هيأ الظروف المناسبة لاسترداد الأرض المقدسة فاستغلها أحسن استغلال وقطف ثمارها اليانعة بعد سنوات من حكمه.
ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب 532هـ - 1137م بقلعة تكريت وكان أبوه والياً عليها، دخل هو وأبوه وعمه في خدمة نور الدين محمود، وشارك عمه أسد الدين شيركوه في حملاته الثلاث على مصر، وولي الوزارة في مصر وعمره 32 سنة.
يوصف صلاح الدين بأنه كان حسن العقيدة، كثير الذكر، شديد المواظبة على صلاة الجماعة، ويواظب على السنة والنوافل، ويقوم الليل. وكان يحب سماع القرآن وينتقي إمامه، وكان رقيق القلب خاشع الدمعة إذا سمع القرآن دمعت عيناه، شديد الرغبة في سماع الحديث، كثير التعظيم لشعائر الله. وكان حسن الظن بالله .كثير الاعتماد عليه عظيم الإنابة إليه.
وكان صلاح الدين عادلاً رؤوفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي، وكان كريماً. وكان حسن العشرة، لطيف الأخلاق، طاهر المجلس لا يذكر أحد بين يديه إلابخير، طاهر السمع...، طاهر اللسان، طاهر القلم فما كتب إيذاء لمسلم قط.
وكان شجاعاً شديد البأس والمواظبة على الجهاد عالي الهمة، قال يوماً وهو قرب عكا «في نفسي أنه متى ما يسر الله تعالى فتح بقية السواحل قسمت البلاد، وأوصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت».
ومات صلاح الدين ولم يكن لديه من الأموال ما تجب فيه الزكاة، واستنفدت صدقة النفل جميع ما ملكه، ولم يخلف في خزائنه من الفضة والذهب إلا 47 درهماً ناصرية، وديناراً واحداً ذهباً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا مزرعة... عزم على الحج في السنة التي توفي فيها ولكنه تعوق بسبب ضيق ذات اليد وضيق الوقت(83).
صراع على خلافة نور الدين:
لما مات نور الدين بويع لابنه من بعده بالملك وهو الصالح إسماعيل، وكان صغيراً في الحادية عشرة من عمره، وجُعل أتابكه شمس الدين بن المقدم... «فاختلف الأمراء وحادت الآراء وظهرت الشرور وكثرت الخمور.... وانتشرت الفواحش... وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين»(84) وعندما هاجم الفرنج المسلمين واجههم ابن المقدم عند بانياس لكنه ضعف عن مقاومتهم، فبذل لهم أموالاً جزيلة وهادنهم، كما خرجت أرض الجزيرة من ملك الصالح إسماعيل، كما استبعد الأمراء المتحكمون في الصالح بني الداية وسجنوهم وهم من أقرب الأمراء المقربين إلى نور الدين (شمس الدين بن الداية ومجد الدين بن الداية رضيع نور الدين...) وكان كل ما سبق سبباً في غضب صلاح الدين على الأمراء المتحكمين في الملك الصالح، بل واعتبر نفسه أحق الناس بالإشراف على تربية وخدمة الملك الصالح(85).
وهكذا فتحت أنظمة الحكم الوراثي، وانعدام المؤسسات «الدستورية» الشورية، والتنازع على السلطة وحب الرئاسة...، فتحت المجال أمام مرحلة جديدة من الصراع والخلاف بين المسلمين أخرت المعركة الفاصلة التي كان يعد لها نور الدين. واضطرت صلاح الدين أن يخوض معركة الوحدة من جديد ولم يتم له ذلك إلا بعد أكثر من 12 سنة.
ففي ربيع الأول 570 هـ -نوفمبر 1174م ضم صلاح الدين دمشق سلماً، ثم ضم حمص دون قلعتها في 10 ديسمبر 1174، ثم ملك حماة وقلعتها 28 ديسمبر 1174، ثم عاد فسيطر على قلعة حمص، ثم استولى على بعلبك في رمضان من نفس العام فصار أكثر الشام بيده، وكان صلاح الدين طوال ذلك الوقت محافظاً على ولائه الظاهر للصالح بن نور الدين والدعوة له في المساجد وسك العملة باسمه، ولكن بعد أن وقعت معركة بين صلاح الدين من جهة وبين جند حلب والموصل الزنكيين من جهة أخرى وانتصر فيها صلاح الدين، قطع حينئذ صلاح الدين الخطبة وسك العملة للملك الصالح، وتسمَّى هو بملك مصر والشام وأقره الخليفة على ذلك. ثم استولى صلاح الدين في نفس العام (570هـ) على قلعة بعرين(86).
وفي السنة التالية 570هـ استولى صلاح الدين على بزاعة ومنبج وإعزاز(87)، وفي 577هـ توفي الملك الصالح إسماعيل في حلب ولم يكمل العشرين عاماً(88)، وفي 578هـ عبر صلاح الدين الفرات وملك منطقة الجزيرة (الرها - حران - الرقة...) وملك سنجار(89)، وفي 579هـ ملك صلاح الدين آمد وتل خالد وعينتاب(90)، وملك حلب في صفر من نفس العام حيث نزل عنها عماد الدين بن مودود بن زنكي مقابل سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج، وبملك صلاح الدين حلب -بعد حصارها مرات عديدة- «استقر ملك صلاح الدين بملكها وكان مزلزلاً فثبت قدمه بتسلمها...»(91)،كما فتح صلاح الدين قلعة حارم(92). وفي سنة 581هـ ملك صلاح الدين ميافارقين، واستلم شهرزور وولاية القرابلي وجميع ما وراء نهر الزاب(93). وأخيراً دخلت الموصل وما يتبعها في حكم صلاح الدين في 582هـ - 1186م(94).
استمرار الجهاد:
ولم تخل هذه المرحلة 569-582هـ، 1174-1186م من معارك عنيفة(95) مع الصليبيين أسهمت في المحافظة على هيبة المسلمين، والتعرف على إمكانات العدو ونقاط ضعفه، واستدراك جوانب النقص عند المسلمين، وعدم إعطاء العدو فرصة للتقوِّي والتمدد والانتشار، إلا أن صلاح الدين لم يدخل في معركة فاصلة مع الصليبيين.
ونمر هنا على أهم الوقائع مع الصليبيين في تلك الفترة، ففي سنة 570هـ هزم المسلمون الأسطول الصليبي القادم من صقلية والذي هاجم الإسكندرية بخمسين ألف رجل هزيمة كبيرة(96). وفي 573هـ هاجم صلاح الدين الفرنج من جهة مصر حتى وصل عسقلان وفتحها وأسر وقتل وأحرق، ثم انساح جند صلاح الدين لما رأوا أن الفرنج لم يظهر لهم عسكر وسار صلاح الدين للرملة وهناك فاجأهم الفرنج وهزموهم ورجع صلاح الدين في نفر يسير ومشقّة شديدة(97)، وكان درساً قاسياً له. وفي نفس العام حاصر الفرنج حماة وحارم وفشلوا، وهزم الفرنج في العام التالي عند حماه(98). وفي 575هـ أغار صلاح الدين على مناطق سيطرة الفرنج وخرب الحصن الذي أقاموه بمخاضة الأحزان قرب بانياس، ووقعت معركة شديدة انتصر فيها المسلمون ونجا ملك الفرنج وأسر عدد من قادتهم: ابن بيرزان صاحب الرملة ونابلس وهو أعظم الفرنج محلاً عند الملك، وأسر أخوه صاحب جبيل، كما أُسر صاحب طبرية ومقدم الداوية وصاحب جنين(99).
وفي 578هـ قام صلاح الدين بغارات على أطراف مناطق سيطرة الفرنج مُركِّزاً على الشوبك والكرك، وفتح المسلمون الشقيف من أعمال طبرية على يد فرخشاه (والي دمشق)، واقتحم فرخشاه بيسان وغنم ما فيها، وسارت العرب فأغارت على جنين واللجون حتى قاربوا عكا(100). وفي نفس العام هزم أسطول صلاح الدين الأسطول الذي سيره أرناط (رونالد دي شاتيون) حاكم الكرك في البحر الأحمر للتخريب في سواحل المسلمين ومهاجمة مكة والمدينة...، وأرسل بعض أسرى الفرنج إلى منى لينحروا عقوبة لمن رام إخافة حرم الله(101).
وفي 579هـ عبر صلاح الدين نهر الأردن في 19 جمادى الآخرة فقصد بيسان وأحرقها وخربها «وأغار المسلمون على تلك الأعمال يميناً وشمالاً ووصلوا فيها إلى مالم يكونوا يطمعون في الوصول إليه والإقدام عليه». كما غزا صلاح الدين الكرك، وعاد فحاصرها في السنة التالية دون جدوى ثم سار (580هـ) إلى نابلس ونهب كل ما على طريقه من البلاد فلما وصل نابلس أحرقها وخربها وقتل فيها وسبى وأسر، وسار إلى سبسطية فاستنقذ جماعة من أسرى المسلمين، ووصل إلى جنين فنهبها وخربها وعاد إلى دمشق وهو يبث السرايا عن يمينه وشماله يغنمون ويخربون أملاك الفرنج(102).
وفي سنة 582هـ مات ملك الفرنج في بيت المقدس وتولى مكانه طفل صغير وحدث خلاف وطمع في السلطة بين الفرنج جعل صاحب طرابلس يراسل صلاح الدين ويتحالف معه ضد أقرانه من الفرنج. وفي السنة نفسها غدر صاحب الكرك أرناط بقافلة عظيمة للمسلمين فأخذها عن آخرها وغنمها، ولم يستجب لطلب صلاح الدين ووعيده بإطلاقها، فأقسم صلاح الدين ليقتلنه إن ظفر به(103).
وهكذا دخلت سنة 583هـ وقد نضجت ظروف الإعداد للمعركة الفاصلة من توحيد لقوى المسلمين، ومن كسر لهيبة الصليبيين وخبرة أوسع في فن التعامل معهم، وبهذا دخل صلاح الدين معركة حطين. وقبل الإشارة إلى معركة حطين نقف قليلاً عند استرتيجية العمل لدى صلاح الدين.
استراتيجية العمل والإعداد لدى صلاح الدين:
1- الان طلاق من قاعدة قوية ومأمونة:
وتمثل ذلك في إعادة الوحدة وتقويتها، وبناء الإنسان المسلم المقاتل، وبناء الاقتصاد الحربي.
2- بناء المجتمع للحرب:
وفي هذا حرص على إشاعة العدل وإزالة الأحقاد بين إمارات المسلمين وتوجيه العداء ضد الصليبيين. كما أقام الصناعات الحربية من دور صناعة سفن وتنظيم الحصون وحمايتها وتجهيزات الحصار...
3- وضوح الهدف:
الذي تمثل بقيادة الأمة الإسلامية لطرد الصليبيين. وهذا الوضوح ساعد على كفاءة الأداء والإعداد فكان «يبذل أقل جهد لأفضل نتيجة»، كما ساعد على تحديد أهداف العمليات العسكرية فكانت الأولوية للتحرير، وحددت السياسات على هذا الأساس.
4- الحرص على المسلمين:
فهو «يحرص على المسلمين لتحقيق هدف الحرب، ويحرص على الحرب للمحافظة على المسلمين»، وقد اعتاد على رد العدوان بأقوى منه حفاظاً على الروح المعنوية، وتبني الاستعداد القتالي المستمر، وحدد لكل عملية أساليبها المناسبة(104).
بالإضافة إلى هذه الاستراتيجيات الأساسية فقد تبنى صلاح الدين في معاركه استراتيجية الهجوم غير المباشر مثل القيام بمسيرات طويلة وهجمات مباغتة، والهجوم على جهة لتخفيف الضغط على جهة أخرى. واستراتيجية الحرب التشتيتية كتشتيت الجيش المعادي داخل المعركة (فصل الفرسان عن المشاة مثلاً)، واستغلال النزاعات السياسية وضرب فريق بآخر وتحييد الأعداء. واستراتيجية الهجمات الوقائية التي تضعف قدرة العدو القتالية قبل هجومه أو استكمال استعداده(105).
وحقق صلاح الدين في حروبه المبادئ الأساسية للحرب بكفاءة كبيرة مثل:
- مبدأ المباغتة.
- مبدأ أمن العمل: بما تمثل له من شبكة أمنية جاسوسية قوية ودقيقة.
- مبدأ القدرة الحركية: بما تعنيه من سرعة تحرك الجيش وتجمعه وانتقاله.
- مبدأ المبادأة والقوة الهجومية: الذي تمثل بتحويل الروح الدفاعية إلى هجومية.
- مبدأ الاقتصاد بالقوى: فلكل معركة ما يناسبها.
- مبدأ المحافظة على الهدف: فكان يهتم بتدمير القوى البشرية للصليبيين بالدرجة الأولى، وحرمانهم من مواردهم الاقتصادية وتحويلهم إلى عبء على الغرب، وتحرير الأرض من الداخل باتجاه الساحل.
وبالنسبة للجيش الإسلامي فإن صلاح الدين رسخ الاستعدد الدائم للقتال، ورفع الروح الإيمانية والجهادية في النفوس، كما نمى الكفاءة البدنية الجسدية، وأكد على الانضباط وكمال الطاعة (في غير معصية)(106).
معركة حطين:
جهز صلاح الدين جيشه للمعركة الفاصلة وكانوا 12 ألف مقاتل نظامي سوى المتطوعة وجهز الفرنج أنفسهم وتصالحوا وتجمعت ملوكهم وجيوشهم، وكونوا جيشاً من حوالي 63 ألف مقاتل.
اجتاز صلاح الدين نهر الأردن، وفتح طبرية بدون قلعتها، وبدأت المناوشات يوم الجمعة إلا أن المعركة احتدمت يوم السبت 24 ربيع الآخر 583هـ - 4 يوليو 1187م، وعانى الفرنج من الحر والعطش، وحصرهم المسلمون وأحرقوا الحشائش الجافة من حولهم ومن تحتهم «فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال»، ثم أمر السلطان بالتكبير وبالحملة الصادقة، فمنح الله المسلمين أكتاف الفرنج فقتلوا منهم ثلاثين ألفاً وأسروا ثلاثين ألفاً، وكان فيمن أسر جميع ملوكهم سوى أمير طرابلس «ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله، ودفع الباطل وأهله، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج، قد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين»(107).
ووقع في الأسر الملك جاي ملك بيت المقدس وأخوه، وأرناط حاكم الكرك الذي قتله صلاح الدين بيده براً بيمينه لغدره وإيذائه المسلمين، وأسروا صاحب جبيل وابن هنفرى، ومقدم الداوية، وجماعة من الداوية وجماعة من الاسبتارية وقد أعدم المسلمون الداوية والاسبتارية لشدة نكايتهم في المسلمين(108).
هذه هي وقعة حطين، وهي إحدى المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي وتاريخ فلسطين، بات المسلمون ليلتها يكثرون من التكبير والتهليل، وانتهت بسجود صلاح الدين لله شكراً مع سقوط خيمة ملك الفرنج وأسره(109).
وبعد هذه المعركة فتحت الطريق أمام المسلمين لتحرير معظم أرجاء فلسطين فخلال أيام قليلة تم فتح طبرية ثم عكا (10 يوليو)، ثم الناصرة وصفورية، ثم قيسارية وحيفا وأرسوف، ثم نابلس، ثم الفولة ودبورية وجنين وزعين والطور واللجون وبيسان وجميع ما يتبع طبرية وعكا، وتم فتح يافا. ثم اتجه المسلمون شمالاً ففتحوا حصن تبنين، ثم صيدا (29 يوليو)، ثم بيروت (6 أغسطس)، وجبيل. ثم اتجهوا جنوباً لاستكمال فتوح فلسطين ففتحوا الرملة ويبنه وبيت لحم والخليل، ثم عسقلان (4 سبتمبر)، وغزة والداروم، وأقام صلاح الدين بعسقلان حتى تسلم حصون الداوية في غزة والنطرون وبيت جبريل... وغيرها(110). وقد تمَّ ذلك كله لصلاح الدين في شهرين تقريباً وبعضها كان يحتاج إلى سنين من الحصار لاقتحامه وكان جملة ما فتح «خمسين بلداً كباراً كل بلد له مقاتلة وقلعة ومنعة»(111).
تحرير بيت المقدس:
وتطلعت الأنظار إلى القدس فأعد صلاح الدين عدته وبدأ حصارها في منتصف رجب 583هـ -20 سبتمبر 1187م، وكان داخل القدس حوالي ستين ألف مقاتل صليبي كلهم يرى الموت أهون عليه من تسليمها. وخلال أيام حصارها جرت صدامات عديدة وحاول المسلمون اقتحامها واقتتلوا «أشد قتال رآه الناس، وكل واحد من الفريقين يرى ذلك ديناً وحتماً واجباً فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني»(112). وطلب الفرنج الأمان مقابل تسليم المدينة فرفض صلاح الدين إلا أن يفعل بهم كما فعلوا بالمسلمين عندما احتلوها قبل حوالي تسعين عاماً، ثم عادوا وطلبوا الأمان وهددوا إن لم يعطوه أن يقتلوا أسرى المسلمين وهم ألوف، ثم يقومون بقتل نسائهم وذراريهم من النصارى ويحرقون ويعطبون أموالهم، ويقتلون حيواناتهم، ويخربون الصخرة والأقصى، ثم يخرجون ليقاتلوا حتى النهاية قتال المستميت. وشاور صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على الإشارة بالأمان، فأمنهم صلاح الدين. وتم للمسلمين فتح القدس في 27 رجب 583هـ-2 أكتوبر 1187. وظهر من تسامح ورحمة صلاح الدين الكثير مما اعترف به الصليبيون أنفسهم(113).
وهكذا عادت بيت المقدس لتحكم براية الإسلام بعد 91 سنة هجرية (88سنة ميلادية)، وأعيد للمسجد الأقصى بهاؤه ونضارته، وعاد صوت الآذان يصدح في جنباته، وتم إحضار المنبر الذي أعده نور الدين للمسجد الأقصى قبل فتحها بعشرين سنة(114).
ومن المهم الإشارة إلى أن صلاح الدين تابع فتح المدن والقلاع الصليبية الأخرى، ففتح سنة 584هـ جبلة واللاذقية وقلعة صهيون، وفتح حصن بكاس والشغر وسرمينية وبرزية ودرب ساك وبغراس(115). كما فتح الكرك وما يجاورها كالشوبك بعد طول حصار بالأمان «وفرغ القلب من تلك الناحية وألقى الإسلام هناك جرانه وأمنت قلوب من كان في ذلك الصقع من البلاد كالقدس وغيره، فإنهم كانوا ممن بتلك الحصون وجلين ومن شرهم مشفقين». وفتح صلاح الدين صفد بالأمان بعد حصار وخرج الفرنج إلى صور «وكفى الله المؤمنين شرهم فإنهم كانوا وسط البلاد الإسلامية»(116)، كما فتح كوكب. وفي ربيع الأول 585هـ فتح صلاح الدين شقيف أرنوم وهي من أمنع الحصون(117).
وهكذا، عادت أرض فلسطين لتحكم تحت راية الإسلام من جديد. ولكن ربيع الانتصارات لم يدم طويلاً فانفتحت صفحة جديدة من الصراع والتحدي.
متابعة الجهاد ضد الصليبيين:
تجمع الصليبيون الذين سقطت مدنهم وقلاعهم في صور، وكان صلاح الدين قد تسامح وتساهل معهم في الذهاب إليها، وأخذ الصليبيون يرسلون الاستغاثات وتأتيهم الإمدادات حتى قويت شوكتهم، ثم إن صلاح الدين أطلق سراح الملك جاي سنة 584هـ على أن يعود لفرنسا فذهب إلى صور وتولى قيادة الصليبيين من هناك بمساعدة أسطول من «بيزا» الإيطالية.... «وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره حتى عض بنانه ندماً وأسفاً حيث لم ينفعه ذلك» على حد تعبير ابن الأثير(118).
هاجم الصليبيون من صور مدينة عكا 585هـ-1189م وانتظروا هناك حتى جاءتهم إمدادات الحملة الصليبية الثالثة التي دعا إليها البابا أوربان الثاني «لاستعادة» بيت المقدس يقودها ثلاثة من ملوك أوروبا، امبراطور ألمانيا فردريك بربروسا الذي مات وهلك أكثر جيشه في الطريق(119)، وريتشارد قلب الأسد ملك انكلترا الذي جاء بحراً «فعظم به شرُّ الفرنج واشتدت نكايتهم في المسلمين، وكان رجل زمانه شجاعة ومكراً وجلداً وصبراً، وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها»(120)، وملك فرنسا فيليب أغسطس. وحاصرت جميع الجيوش عكا (ربيع الثاني - جمادى الأولى 587هـ - يونيو 1191) وسقطت بأيدي الفرنج في 17 جمادى الأولى 587هـ -12 يوليو 1191م. وبهذا عاد الصليبيون ليكون لهم موطئ قدم جديد في فلسطين. وتداول المسلمون والفرنج الصراع ونال كل طرف من الآخر، واستطاع الفرنج التمدد على الساحل إلى الجنوب فاحتلوا حيفا ويافا(121).
ومن المهم الإشارة إلى أن الصراع كان دموياً مريراً فقد أشار ابن كثير إلى أن صلاح الدين أقام على عكا صابراً مصابراً مرابطاً سبعة وثلاثين شهراً وأن جملة من قتل من الفرنج كان خمسين ألفاً(122).
وانتهت الحملة الصليبية الثالثة بعقد صلح الرملة بين ريتشارد قلب الأسد وصلاح الدين الأيوبي في 21 شعبان 588هـ - 1سبتمبر 1192، وهو عبارة عن هدنة مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر، سيطر الفرنج بمقتضاها على الساحل من يافا إلى عكا، وسمح لهم بزيارة القدس وحرية التجارة وتنقل القوافل بين الطرفين(123). على أنه من المهم الإشارة هنا إلى بعض النقاط المتعلقة بهذا الصلح:
1- لم يكن صلاح الدين يميل إلى عقد الصلح وعندما أحضر أمراءه المستشارين كان رأيه عدم قبول الهدنة، وكتب العماد الأصفهاني بأسلوبه رأي صلاح الدين... «نحن بحمد الله في قوة، وفي ترقب نصرة مرجوة...، وقد ألفنا الجهاد، وألفنا به المراد، والفطام عن المألوف صعب...، وما لنا شغل ولا مغزى إلا الغزو....، رأيي أن أخلّف رأي الهدنة ورائي، وأقدم بتقديم الجهاد اعتزازي وإليه اعتزائي...، ولي بتأييد الله من الأمر أجزمه وأحزمه»(124).
ولكن مستشاريه أجمعوا على قبول الصلح بحجة خراب البلاد، وتعب الأجناد والرعية، وقلة الأقوات، ولأن الفرنج إذا لم تحدث الهدنة أصروا على البقاء والقتال، أما إن حدثت فسيعود للبلاد سكانها وعمارها، وتستريح الأجناد وتقوى وتستعد للحرب، وكان رأيهم أن الفرنجة لا يفون بعهودهم ولذلك نصحوه بعقد الهدنة حتى يتفرق الفرنج وينحلوا. وما زالوا به حتى رضي(125).
2- إن هذا الصلح هدنة مؤقتة قصيرة الأجل وليس معاهدة سلام دائمة وقد عقد مثلها قبلها وبعدها العديد وهي جائزة في الشرع حسب تقدير المصلحة التي يقررها إمام المسلمين، وقد استمرت من بعدها الصراعات والمعارك.
3- لم يتم في هذه الهدنة أي اعتراف للفرنج بأي حق لهم على أرض فلسطين، وإنما تقررت الهدنة بعدم القتال على ما انتزعوه من أرض إلى أن تنتهي الهدنة.
وشتان ما بين هذه الهدنة التي عقد المسلمون منها العشرات وبين معاهدة السلام مع الكيان الإسرائيلي التي تجري في عصرنا.
وعلى كل حال فإن الأمر لم يطل بصلاح الدين فتوفي رحمه الله في 27 صفر 589هـ 4مارس 1193(126)، أي بعد ستة أشهر فقط من توقيع صلح الرملة.
الأيوبيون والصراع مع الصليبيين
دب النزاع والشقاق بين خلفاء صلاح الدين، ودخلوا بعد سنوات من وفاته في صراعات دموية أضعفتهم، وقوت شوكة المملكة الصليبية في عكا التي استمرت وتمددت في بعض الأحيان على حسابهم. لقد كان حب الدنيا وحب السلطان ولو على حساب المبادئ والمقدسات أحد المظاهر التي حكمت عدداً من سلاطين الدولة الأيوبية، فتحالف بعضهم مع الصليبيين ضد بعض وعرضوا عليهم بيت المقدس أكثر من مرة مقابل أن ينتصر سلطان الشام على سلطان مصر أو العكس!! وقد سعد الصليبيون بهذا الدور الذي لعبوه، ولكنهم ظلوا على طمعهم في الجميع، غير أن ربيع الصليبيين لم يدم طويلاً.
انتهت الحملة الصليبية الرابعة التي أرسلها الغرب 601هـ-1204م في القسطنطينية- ولم تصل إلى الشام أو مصر(127)، أما الحملة الخامسة فقد انطلقت من عكا نفسها بقيادة ملكها يوحنا بريين إلى دمياط بمصر 615-618هـ - 1218-1221م. وعندما شعر السلطان الأيوبي الكامل محمد بن محمد بن أيوب بخطورة الوضع عرض على الفرنج الصلح مقابل تسليمهم القدس ومعظم فتوح صلاح الدين، فرفضوا وطالبوا بجنوب شرق الأردن أيضاً (الكرك والشوبك...) وقام الملك المعظم عيسى بن أحمد بن أيوب صاحب دمشق بتدمير أسوار القدس وتخريبها حتى لا يستفيد منها الفرنج إذا احتلوها 616هـ -1219م لكن الأيوبيين حشدوا قواهم في النهاية واستطاعوا هزيمة الصليبيين الذين عادوا خائبين إلى عكا بعد أن فاتتهم فرصة عظيمة(128).
ثم إن الخلاف الناشب بين الكامل محمد والمعظم عيسى أدى إلى استنجاد الكامل محمد بفردريك الثاني امبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة والذي أصبح وصياً على عرش مملكة عكا الصليبية، ووعده بتسليمه القدس إن هو ساعده على أخيه المعظم عيسى. وجاء فريدريك الثاني يقود الحملة الصليبية السادسة ووصل إلى عكا سنة 625هـ-1228م، ورغم أن المعظم عيسى توفي مما مكن أخويه الكامل والأشرف من اقتسام أملاكه مع إعطاء ابنه الناصر داود الكرك والبلقاء والأغوار والسلط والشوبك، ولم يعد الكامل بحاجة إلى فردريك الثاني، إلا أن الكامل فرط في القدس «وفاء» بعهده لفردريك!! الذي لم يكن لديه من القوة ما يكفي لإجبار المسلمين على التنازل عن القدس بل إن فردريك اضطر للبكاء واستعطاف الكامل في مراحل المفاوضات ليتسلم القدس!! ومما قاله للكامل «... أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عما تأمره خروج.... فإن رأى السلطان أن ينعم علي بقبضة البلد والزيارة فيكون صدقة منه ويرتفع رأسي بين ملوك البحر»!! واستجاب له الكامل وعقد معه صلح يافا 626هـ- 18فبراير 1229م لمدة عشر سنوات وبمقتضاه تقرر أن يأخذ الفرنجة بيت المقدس وبيت لحم وتبنين وهونين وصيدا مع شريط من الأرض من القدس يخترق اللد وينتهي عند يافا فضلاً عن الناصرة وغرب الجليل، على أن يكون الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى بأيدي المسلمين(129).
وهكذا استولى الفرنج على بيت المقدس الأمر الذي أثار غضب المسلمين «فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل وأقيمت المآتم وعظم على أهل الإسلام هذا البلاء، وقال الوعاظ والعلماء: يا خجلة ملوك المسلمين لمثل هذه الحادثة. واشتد الإنكار على الملك الكامل وحقد أهل دمشق عليه ومن معه، وكثرت الشناعات عليه في سائر الأقطار»(130)، وقال ابن كثير «فعظم ذلك على المسلمين جداً، وحصل وهن شديد، وإرجاف عظيم»(131).
واستمر الصراع بين أبناء البيت الأيوبي، غير أن الناصر داود صاحب الأردن انتهز فرصة انتهاء مدة صلح يافا وتحصين الفرنج بيت المقدس بخلاف الشروط فاستولى على القدس وطرد منها الفرنج 6 جمادى الأولى 637هـ - 7 ديسمبر 1239 ولكن الصالح إسماعيل صاحب دمشق سلمها لهم 638هـ-1240م!! بعد أن طلب مساعدتهم له ضد صاحب مصر الصالح نجم الدين أيوب، هذا فضلاً عن تسليمهم عسقلان وقلعة الشقيف ونهر الموجب وأعمالها وقلعة صفد وأعمالها ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالهما وجبل عامل وسائر بلاد الساحل... وقد أثار هذا التصرف سخط المسلمين الذين «أكثروا من التشنيع على الملك الصالح إسماعيل» وهكذا عادت القدس مرة أخرى للفرنج.
وعندما حشد الصالح إسماعيل قواته لينضم إلى حلفائه الفرنج عند غزة لقتال الصالح أيوب رفض جند الشام محالفة الفرنج ضد إخوانهم فانحازوا إلى جند مصر وهزموا الفرنج هزيمة كبيرة، ولكن الصالح أيوب صالحهم 638هـ -1240م واستقرت سيطرتهم على بيت المقدس وما أعطاهم إياه الصالح إسماعيل(132).
ومرة أخرى دخل أبناء البيت الأيوبي في الصراع وظلت القدس والأرض المقدسة ورقة يلعبون بها في تهافتهم على السلطة والنفوذ. فقد عرض الصالح إسماعيل مرة أخرى على الفرنج في عكا التحالف مقابل أن يسيطروا على القدس سيطرة تامة بما في ذلك الصخرة والمسجد الأقصى، وانضم إليه في ذلك الناصر داود، وفي الوقت نفسه عرض الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر على الصليبيين أنفسهم نفس العرض مقابل التحالف معهم(133)!!!
واختار الفرنج التحالف مع الصالح إسماعيل الذي شرع في غزو مصر بمساعدة حليفه الناصر داود والمنصور إبراهيم ملك حمص إلى جانب الفرنج. واستعان الصالح نجم الدين أيوب بالخوارزمية الذين جاءوا لمساعدته في قوة من عشرة آلاف مقاتل في طريقها إليه بالاستيلاء على طبرية ونابلس، اقتحمت بيت المقدس في 17 يوليو واستعادت بيت المقدس بشكل كامل إلى حظيرة الإسلام 642هـ - 23 أغسطس 1244م(134). وبذلك عادت بيت المقدس نهائياً إلى أيدي المسلمين، وظلت تحتفظ بهويتها الإسلامية حتى دخلها الإنجليز في 10 ديسمبر 1917.
ثم إن الخوارزمية اتجهوا لمساعدة الصالح أيوب ضد الصالح إسماعيل وحلفائه، ووقعت معركة غزة الثانية (قرب غزة في موقع اسمه هِرْبيا) بين هذه القوى في 12 جمادى الأولى 642هـ-17 أكتوبر 1244 وانتهت بهزيمة ساحقة للصالح إسماعيل والفرنج وقدِّر فيها عدد قتلى الفرنج بأكثر من ثلاثين ألفاً عدا ثمانمائة أسير سيقوا إلى مصر، وكانت هذه المعركة هي أخطر ضربة تلقاها الصليبيون بعد معركة حطين، وتعتبر من المعارك الفاصلة في تاريخ فلسطين. إذ ضعف الصليبيون بعدها ولم يتمكنوا من التوسع وسعوا إلى الاحتفاظ بما لديهم(135).
ثم قام الصالح أيوب بالسيطرة على القدس والخليل وبيت جبرين والأغوار ودمشق سنة 642هـ- 1245م، وعاقب الفرنج فسيطر على قلعة طبرية واقتحم عسقلان وبذلك انحسرت حدود مملكة الفرنج إلى أبواب يافا سنة 644هـ-1247م. ثم داهمت مصر الحملة الصليبية السابعة بزعامة لويس التاسع ملك فرنسا 646هـ-1249م والتي انتهت بالفشل وأسر لويس التاسع ثمَّ إطلاق سراحه وذهابه إلى عكا(136). ثم ما لبث الحكم الأيوبي لمصر أن انتهى بدخولها تحت حكم المماليك 647هـ - 1250م، وبدأت صفحة جديدة من صفحات الجهاد ضد المغول والصليبيين(137).
وهكذا فإن بيت المقدس والأرض المقدسة في السنوات الخمسين التي تلت حكم صلاح الدين الأيوبي كانت عرضة لحالة من عدم الاستقرار خصوصاً في النصف الثاني منها، واستخدمت أكثر من مرة في مساومات عدد من حكام البيت الأيوبي مع الفرنج مقابل عقد تحالفات معينة، وافتقد هؤلاء مصداقيتهم الجهادية الإسلامية، حتى إن قتالهم للفرنج لم يكن يعبر بالضرورة عن التزامهم الإسلامي بقدر حرصهم على الحكم والنفوذ والمصالح الشخصية، ولذلك كان القتال مع الفرنج يعبر إلى حد كبير عن موازين القوى المادية بين هذه الأطراف، وهو ما جعل القدس وأجزاء من فلسطين
فلسطين عبر التاريخ
منذ بداية علو اليهود الأول وحتى بداية علوهم الثاني
# تاريخ ما قبل الميلاد :
طالوت ( شاول ) ملكاً على اليهود - 1020 ق.م
عصر الملك سليمان وبناء الهيكل في القدس - 965 – 928 ق.م
تقسيم دولة إسرائيل إلى مملكة إسرائيل ( شمالية ) ويهودا ( جنوبية ) - 928 ق.م
فلسطين تحت الحكم الآشوري - 732 ق.م
فتح الآشوريون لمملكة إسرائيل ونهاية مملكة إسرائيل ( الشمالية ) - 721 ق.م
انتصار البابليين بقيادة " نبوخذ نصر" على مملكة يهودا ( في القدس ) ، وتدمير الهيكل وترحيل سكانها إلى بابل - 586 ق.م
الاسكندر يهزم الفرس ، وتصبح فلسطين تحت الحكم اليوناني - 333 ق.م
موت الاسكندر يؤدي لتغيير الحكم إلى البطالسة ( في مصر ) والسالوقيين ( في سوريا ) - 323 ق.م
بداية حكم البطالسة - 301 ق.م
تمرّد المكابيين ( اليهود ) ضد الحكم السالوقي ، للعمل على إنشاء دولة يهودية مستقلة - 165 ق.م
فلسطين ضمن الإمبراطورية الرومانية ( بعد استيلاء الرومان عليها ) - 63 ق.م
استيلاء الفرس على فلسطين - 40 ق.م
عودة الحكم الروماني الوثني للمنطقة - 38 ق.م
القضاء على المكابيين وابتداء حكم الهرادسة في فلسطين - 37 ق.م
# تاريخ ما بعد الميلاد :
تدمير الهيكل الثاني على يد الإمبراطور الروماني ( تيطس أو تايتوس ) . 70م
إخماد ثورة ( باركوبا ) اليهودي ضد الرومان ، وإبعاد بقية اليهود عن القدس ، على يد الإمبراطور ( هادريان ) . 132- 135م
فلسطين تحت الحكم البيزنطي ( نسبة إلى بيزنطة ) . 313 – 638م
( في عام 330م أسّس الإمبراطور قسطنطين ، الذي جعل المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية ، عاصمة جديدة للنصف الشرقي في بيزنطة عُرفت بالقسطنطينية . وفي عام 395م انقسمت الإمبراطورية الرومانية ، إلى قسمين : شرقية عاصمتها بيزنطة ( القسطنطينية ) وغربية وعاصمتها روما ، ومع اتخاذ المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية ، بدأ عصر الاضطهاد المسيحي لليهود ، واستمرّ حتى منتصف القرن الماضي )
العرب المسلمون يفتحون فلسطين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب . 638م
فلسطين تحت الحكم الإسلامي ( الأمويون ، العباسيون ، الفاطميون ، السلاجقة ) . 638 - 1099م
الصليبيون يقيمون المملكة اللاتينية في القدس . 1099 - 1187م
صلاح الدين الأيوبي يهزم الصليبيين في معركة حطين . 1187م
فلسطين تحت حكم المماليك بعد هزيمة المغول في موقعة عين جالوت . 1220م
فلسطين جزء من الإمبراطورية العثمانية وعاصمتها استنبول ( القسطنطينية ) . 1516 - 1917م
* تاريخ فلسطين الحديث :
إنشاء أول مستوطنة زراعية صهيونية ( بتاح تكفا ) في فلسطين . 1878م
البارون ( ادموند دورتشلد ) يبدأ دعمه المالي للمستوطنات اليهودية . 1882م
أول موجة من 25 ألف مهاجر صهيوني تدخل فلسطين ، وغالبيتهم من أوروبا الشرقية . 1882 – 1903م
ينعقد المؤتمر الصهيوني الأول " في بال بسويسرا " ويصدر " برنامج بال " الذي يدعو إلى إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين ، ويقرر إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية ( WZO ) للعمل من أجل هذا الهدف . 1897م
إنشاء أول كيبوتز على قاعدة العمل اليهودي ، إنشاء قاعدة تل أبيب شمالي يافا . 1909م
* بداية الحرب العالمية الأولى . 1914م
المراسلات بين الشريف حسين (شريف مكة وقائد الثورة العربية ضد العثمانيون ) ، وبين سير هنري مكماهون ( المندوب السامي في مصر ) ، تنتهي إلى اتفاق استقلال ووحدة البلاد العربية ، تحت الحكم العربي بعد انتهاء الحرب . 3/1/1916م
اتفاقية ( سايكس بيكو ) السرية لتقسيم البلاد العربية ، التي كانت تحت الحكم العثماني بين بريطانيا وفرنسا . 16/5/1916م
( وقد كشف البلاشفة ( الروس ) النقاب عنها في تشرين أول 1917م )
الشريف حسين يعلن استقلال العرب عن الحكم العثماني وبداية الثورة العربية . 1916م
وزير الخارجية البريطاني ( بلفور ) يتعهد بالدعم البريطاني لوطن قومي لليهود في فلسطين . 2/11/1917م
قوات الحلفاء بقيادة الجنرال اللنبي البريطاني تحتل فلسطين . -/9/1917م
* نهاية الحرب العالمية الأولى . 30/10/1918م
المجلس الأعلى لمؤتمر السلام سان ريمو يعطي بريطانيا الانتداب على فلسطين . 25/4/1920م
المندوب السامي سير هربرت صموئيل السياسي اليهودي الإنجليزي يدشن " الإدارة المدنية البريطانية " . 1/7/1920م
عصبة الأمم تقرّ الانتداب على فلسطين . 24/7/1921م
* بداية الحرب العالمية الثانية . 1/9/1938م
اللجنة الأمريكية – الإنجليزية لتقصي الحقائق تصل إلى فلسطين . 6/3/1946م
تقرير اللجنة الأمريكية الإنجليزية يقدر حجم القوات المسلحة اليهودية ( 61 - 69 ) ألف فرد ، ويوصي بقبول 100.000 يهودي في فلسطين ، وفلسطين تضرب احتجاجا . ( هنا تدخل العناية الأمريكية ) . -/5/1946م
لجنة الأمم المتحدة الخاصة تقترح خطة للتقسيم والجامعة العربية ترفضها . 8/9/1947 م
بريطانيا تعلن أنها ستغادر فلسطين خلال ستة شهور إذا لم يتم التوصل إلى تسوية . 29/10/1947م
الجمعية العامة للأمم المتحدة توصي بتقسيم فلسطين بنسبة 56.5% لدولة يهودية ، ونسبة 43% للدولة الفلسطينية ، ومنطقة دولية حول القدس . 29/11/1947م
الجامعة العربية تنظم جيش الإنقاذ العربي ( قوة متطوعين بقيادة فوزي القاوقجي لمساعدة الفلسطينيين في مقاومة التقسيم ) . -/12/1947م
بريطانيا توصي الأمم المتحدة بإنشاء دولتين يهودية وفلسطينية بعد أسبوعين من انتهاء الانتداب . 8/12/1947م
جيش الإنقاذ العربي يشن هجمات ناجحة على المستعمرات الإسرائيلية شمالي بيسان . 16/2/1948م
القاوقجي يدخل فلسطين ويقود وحدات جيش الإنقاذ في مثلث جنين - نابلس- طولكرم . 5-7/3/1948م
الرئيس الأمريكي ( ترومان ) يدعو إلى هدنة فورية للقتال . 25/3/1948م
عصابة ( شتيرن ) ترتكب مذبحة في دير ياسين بالقرب من القدس تسفر عن مقتل أكثر من 250 شخصاً . 9/4/1948م
قرار لمجلس الأمن يدعو إلى هدنة . 17/4/1948م
* نهاية الانتداب البريطاني وإعلان الدولة الإسرائيلية من تل أبيب . 15/5/1948م
القوات اللبنانية تعبر الحدود وتستعيد مؤقتا قرى المالكية وقدس من الهاجاناة . 15- 17/5/1948م
القوات الأردنية تعبر نهر الأردن وتتحرك صوب القدس ، وتسيطر على الشيخ جراح والحي اليهودي في المدينة القديمة . 15- 28/5/1948م
الوحدات العراقية تعبر نهر الأردن وتتحرك نحو مثلث نابلس - جنين - طولكرم . 15/5 – 4/6/1948م
القوات المصرية تعبر الحدود وتتحرك عبر الساحل إلى أسدود . 15/5 – 7/6/19489م
تقدم الطوابير السورية عبر الشمال . 16/5 - 10/6/1948م
مجلس الأمن الدولي يعين الكونت ( فولك برنادوت ) كوسيط دولي في فلسطين . 20/5/1948م
قرار مجلس الأمن الدولي ، بوقف إطلاق النار . 22/5/ 1948م
الهدنة الأولى . 11/6- 8/7/1948م
الهدنة الثانية . 18/7- 15/10/1948م
تقرير الوسيط الدولي ( برنادوت ) يقترح تقسيم فلسطين إلى دولتين ؛ عربية وإسرائيلية مع بقاء القدس منطقة دولية ، وتُرفض من العرب وإسرائيل . 16/9/1948م
اغتيال الوسيط الدولي ( برنادوت ) في القدس ، بواسطة عصابة ( شتيرن ) ، ويخلفه نائبه الأمريكي ( رالف باتش ) .
* عام 1949م :
توقيع اتفاقيات الهدنة من قبل الدول العربية التي شاركت في حرب 48 باستثناء العراق :
24/2 الهدنة المصرية – الإسرائيلية .
23/3 الهدنة اللبنانية – الإسرائيلية .
3/4 الهدنة الأردنية - الإسرائيلية .
20/5 الهدنة السورية – الإسرائيلية .
المراحل الزمنية في تاريخ اليهود حسب ما جاءت في سورة الإسراء
بعد كل ما تقدم وبالنظر مليا في الآيات من ( 4 - 8 ) من سورة الإسراء ، نجد أن هناك خمس مراحل زمنية في تاريخ بني إسرائيل ، توضحت على النحو التالي :
المرحلة الأولى : ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَــابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
( زمن موسى عليه السلام حيث أوحى إليه ربه عز وجل ، فيما أنزل إليه من الكتاب نص هذه النبوءة ، والأرجح أنها أنزلت في بداية فترة التيه قبل أربعين عاما ، من دخولهم الأول للأرض المقدسة ) .
المرحلة الثانية : ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا ………………… …… …… وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
( منذ نهاية فترة التيه … بدء حرب الملك طالوت ، لدخول الأرض المقدسة …مُلك ونبوّة داود وسليمان عليهما السلام … مُلك مُتوارث بدون نبوّة : فساد وإفساد … حتى السبي البابلي سنة 586 قبل الميلاد ) .
المرحلة الثالثة : ( … ثُمَّ … (6)
( منذ السبي البابلي … بعث عيسى عليه السلام … نزول سورة الإسراء بنص هذه النبوءة سنة 621م … إلى ما قبل حرب 1948م ) .
المرحلة الرابعة : ( رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ … … … … … وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
( منذ قيام دولة إسرائيل ( 15/5/1948م ) … وانتصار الجيش إسرائيلي في حروبه … ووصول الدولة إلى قمة مجدها … حتى نهايتها ) .
المرحلة الخامسة : ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا … ( 8)
( منذ نهاية إسرائيل … قيام الدولة العربية المتحدة في بلاد الشام والعراق … الحرب العالمية النووية الثالثة … ظهور المهدي … معارك المهدي … قيام الإمبراطورية الإسلامية وعاصمتها القدس … خروج الدجال … نزول عيسى عليه السلام … هروب الدجال وأتباعه إلى فلسطين … قتل الدجال … نطق الحجر والشجر … حتى الذبح النهائي لبني إسرائيل على أرض فلسطين ) .
[ نهاية الجزء الأول ]
تاريخ فلسطين
فلسطين
هي المنطقة التاريخية الواقعة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، في جنوب شرق آسيا
الأرض
تمتلك المنطقة أرض متنوّعة جدا، تقسم عموما إلى أربعة مناطق وهي من الغرب الي الشرق السهل الساحلي، التلال وجبال الخليل، وادي الأردن، و الهضبة الشرقية. في أقصى الجنوب هناك صحراء النقب. تتراوح الإرتفاعات من 395 قدم تحت مستوى البحر على شواطئ البحر الميت، وهي أخفض نقطة على سطح الأرض، إلى 1020 قدم في أعلى قمم جبال الخليل.
تمتلك المنطقة عدّة مناطق خصبة. إمدادات المياه للمنطقة ليست وفيرة. نهر الأردن هو النهر الوحيد في المنطقة، يتدفق جنوبا خلال بحيرة طبريا (بحيرة الماء العذبة الوحيدة في المنطقة) إلى البحر الميت الشديد الملوحة.
التاريخ
العرب الكنعانيون كانوا أول السكان المعروفين لفلسطين. خلال الألف الثالثة قبل الميلاد وقد أصبحوا مدنيين يعيشون في دول ومدن منها أريحا. طوّروا أبجدية ومنها إشتقّت أنظمة كتابة آخرى. موقع فلسطين في مركز الطرق التي تربط الثلاث قارات جعل لها موقع للإجتماع الديني و التأثير الثقافي على مصر، سوريا، بلاد ما بين النهرين، وآسيا الصغرى. وكانت أيضا ساحة للحروب بين القوى العظمى في المنطقة و خاضعة لهيمنة الإمبراطوريات المجاورة، بدأ بمصر في ألفية الثالثة قبل الميلاد. الهيمنة المصرية والحكم الذاتي للكنعانيين كانا بشكل دائم في تحدّ خلال ألفية الثانية قبل الميلاد من قبل غزاة متنوّعين عرقيا كالعموريون، هيتيتيس، وهورريانس. على أية حال، هزم الغزاة من قبل المصريين والكنعانيون.
بدأت السلطة المصرية بالضعف بعد القرن الرابع عشر قبل الميلاد، المحتلون الجدّد ومنهم العبرانيين وهم مجموعة من القبائل السامية من بلاد ما بين النهرين، و الفلستينيين (بعد ذلك سميت البلاد باسمهم)،وإيجي وهم شعوب من أصل هندي أوروبي.
مملكة إسرائيل
بعد خروج القبائل العبرية من مصر (1270 قبل الميلاد) قاموا بغزو مدن الكنعانيين. وتم لهم بقيادة جوشوا السيطرة على أجزاء من فلسطين (1230 قبل الميلاد). أستقر العبرانيون في تلال البلاد، لكنّهم كانوا غير قادرين على السيطرة على كلّ فلسطين. الإسرائيليون، وهم إتحاد القبائل العبرية، أخيرا هزموا الكنعانيون حوالي 1125 قبل الميلاد. لكن تم غزوهم و قوتلوا قتالا شديدا من قبل الفلستينيين. حيث أسّس الفلستينيين دولة مستقلة لهم على الساحل الجنوبي لفلسطين وسيطروا على مدن الكنعانيين بما فيها القدس. وبما كان لهم من قيادة عسكرية منظمة ولإستعمالهم الأسلحة الحديدية، هزموا الإسرائيليين بشدة حوالي 1050 قبل الميلاد.
التهديدات المخّتلفة أجبرت الإسرائيليين على التوحد وتأسيس الحكم الملكي. نبي الله داهود علية السلام، هزم الفلستينيين أخيرا بعد قليل من سنة 1000 قبل الميلاد، وتم لهم كامل السيطرة على أرض كنعان. وحدة إسرائيل وضعف الإمبراطوريات المجاورة مكّنا داهود من تأسيس دولة مستقلة كبيرة عاصمتها في القدس. في عهد إبن داهود ووريث، نبي الله سليمان علية السلام، تمتّع نبي إسرائيل بالسلام و الإزدهار، لكن مع موته في 922 قبل الميلاد قسّمت المملكة إلى إسرائيل في الشمال ويهودا في الجنوب.
عندما أستأنفت الإمبراطوريات القريبة توسعها، لم يستطع الإسرائيليون المقسّمون في الإبقاء على إستقلالهم. سقطت إسرائيل إلى الإمبراطورية الآشورية في 722-721 قبل الميلاد، ويهودا هزمت في 586 قبل الميلاد من قبل بلاد بابل، الذين حطّموا القدس ونفوا أغلب اليهود الذين يعيشون فيها.
الحكم الفارسي
اليهود المنفون سمح لهم بالمحافظة على هويتهم ودينهم، بعض من أفضل الكتب اللاهوتية والعديد من الكتب التاريخية و منها العهد القديم كتب خلال فترة النفي أو ما عرف بالسبى البابلي. عندما حكم سيروس العظميم بلاد فارس قهر بلاد بابل في 539 قبل الميلاد أجاز لليهود العودة إلى يهودا وهي منطقة في فلسطين. تحت الحكم الفارسي سمح لليهود بالحكم الذاتي. جدّدوا جدران القدس وصنّفوا التوراة التي أصبحت رمز الحياة الإجتماعية والدينية.
الحكم الروماني
الحكم الفارسي لفلسطين إستبدلت بالحكم اليوناني عندما أحتل الأكسندر الأكبر المقدوني المنطقة في 333 قبل الميلاد. ورثة الأكسندر، بتوليميس وسيليوسدس، واصلوا حكم البلاد. سيليوسدس حاول أن يفرض الثقافة والديانة الهيلانية (اليونانية) على السكان. في القرن الثاني قبل الميلاد، تمرّد اليهود تحت ماكابيس وبدأ دولة مستقلة (141 - 63 قبل الميلاد) حتى قهرهم بومبي العظيم من روما وجعلها مقاطعة حكمت من قبل الملوك اليهود.
خلال حكم الملك هيرود العظيم (37-4 قبل الميلاد) ولد سيدنا عيسى علية السلام. كان هناك ثورتان لليهود وقمعتا في 66-73 و 132-35. بعد الثانية، قتل عدد كبير من اليهود، والعديد بيع كعبيد، أما البقية فلم يسمح لهم بزيارة القدس. بدل أسم يهودا إلى إسم سوريا فلستينيا.
لاقت فلسطين إهتمام خاصّ عندما زارت القدس الإمبراطورة هيلينا أم الإمبراطور الروماني قسطنتين الأول الذي شرع المسيحية وأعلنها ديانة للدولة في 313 ميلادي. أصبحت القدس بؤرة للحجّ المسيحي. وكان لها عصرا ذهبيا من الإزدهار، الأمن، والثقافة. أغلب السكان أصبحوا مسيحيين.
قطع الحكم البيزنطي (الروماني) خلال فترات قصيرة بغزوات فارسية وأنهى تماما عندما فتحت الجيوش العربية الإسلامية فلسطين والقدس في العام 638.
الخلافه الأسلاميه
الغزو اإسلامي بدأ حكم أسلامي لفلسطين لمدت 1300 سنة. كانت فلسطين مقدّسة للمسلمين لأن الله أمر سيدنا محمد بأن تكون القدس القبلة الأول للمسلمين ( الإتجاه الذي يواجهة المسلم عندما يصلّي) ولأنة صلي الله علية وسلم صعد في ليلة الإسراء و المعراج في رحلة إلى السماء من المدينة القديمة للقدس (المسجد الأقصى اليوم)، حيث بني المسجد الإقصى و مسجد قبة الصخرة بعد ذلك.
أصبحت القدس المدينة الأقدس الثالثة للإسلام. الحكام المسلمون لم يجبروا دينهم على الفلسطينيين، وخلال أكثر من قرن تحول الأغلبية إلى الإسلام. المسيحيون واليهود الباقون إعتبروا أهل الكتاب. وسمح لهم السيطرة المستقلة ذاتيا في مجتمعاتهم وضمن لهم أمنهم وحريتهم في العبادة. مثل هذا التسامح كان نادر في تاريخ الأديان و في تاريخ فلسطين.
أكثر الفلسطينيين تبنّوا العربية والثقافة الإسلامية. فلسطين إستفادت من التجارة مع الإمبراطوريات المجاورة ومن أهميتها الدينية خلال الحكم الأموي الإسلامي في دمشق. عندما إنتقلت السلطة إلى بغداد مع العباسيين في 750، أصبحت فلسطين مهملة. عانت البلاد بعد ذلك من الإضطراب والهيمنة المتعاقبة من قبل السلجوقيين، الفاطميين، والغزوات الصليبية. شاركت فلسطين، على أية حال، في مجد الحضارة الإسلامية، عندما تمتّع العالم الإسلامي بعصر ذهبي من علم، فنّ، فلسفة، وأدب. حيث بدأ المسلمون تعلّم العلوم اليونانية وبدأوا طريقا جديدا في عدّة حقول، بعد سنين كان لكلّ ذلك مساهمة كبيرة في عصر النهضة في أوروبا.
الحكم العثماني
الأتراك العثمانيون من آسيا الصغرى هزموا المملوكيين في 1517، وحكموا فلسطين حتى شتاء 1917. البلد كان قد قسّم إلى عدّة مناطق (سناجق) منها القدس. إدارة المناطق وضعت بشكل كبير في أيادي العرب الفلسطينيون. المسيحييون و اليهود، على أية حال، سمح لهم بكل الحريات الدينية والمدنية. إشتركت فلسطين في مجد الإمبراطورية العثمانية خلال القرن السادس عشرة، لكن ضعف ذلك المجد ثانية للإمبراطورية في القرن السابعة عشرة.
ضعف فلسطين في التجارة، الزراعة، والسكان إستمرّ حتى القرن التاسع عشر. في ذلك الوقت في بحث الأوروبيين عن الخام والمواد والأسواق، بالإضافة إلى مصالحهم الأستراتيجية، جلبهم إلى الشرق الأوسط. بين 1831 و1840، محمد علي، الوالى العثماني على مصر، حاول توسيع حكمة إلى فلسطين. سياساته حسنت الحال الأقتصادية حيث زادت الزراعة، وتحسن التعليم. عادت السلطة للإمبراطورية العثمانية ثانية في 1840، وفرضت إصلاحاتها الخاصة.
تصاعد القومية الأوروبية في القرن التاسعة عشرة، وخصوصا مع أنتشار اللاسامية، شجّع اليهود الأوروبيين لطلب اللجوء الى "أرض الميعاد" في فلسطين. ثيودور هيرزل، مؤلف كتاب الدولة اليهودية (1896)، أسّس المنظمة الصهيونية العالمية في 1897 لحملّ أوروبا على حل "المشكلة اليهودية". كنتيجة لتزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين بشّدة في 1880، العرب الفلسطينيون وهم حوالي 95 بالمائة من السكان بدأوا يشعرون بالتخوف من هجرة اليهود وشراء الأرض ومن ثمّ تحولت الى معارضة للصهيونية.
الأنتداب البريطاني
بمساعد من قبل العرب، أحتل البريطانية فلسطين من الأتراك العثمانيين في 1917 - 1918. العرب تمرّدوا ضدّ الأتراك لأن البريطانيين وعدوهم، في 1915-1916 من خلال المراسلات مع الشريف حسين إبن علي والى مكة المكرمة، بإستقلال بلدانهم بعد الحرب. بريطانيا، على أية حال، قدمت إلتزامات متعارضة أخرى في السرّ من خلال إتفاقية سيكيس بيكوت مع فرنسا وروسيا 1916، بالتعهد بتقسيم وحكم المناطق العربية مع حلفائها. في إتفاقية ثالثة، في وعد بلفور 1917، وعدت بريطانيا اليهود بالمساعدة على تاسيس "وطن قومي" في فلسطين.
هذا الوعد دمج بعد ذلك في صك الإنتداب الممنوح لبريطانيا من عصبة الأمم في 1922. خلال إنتدابهم من 1922 الى 1948،البريطانيون وجدوا أن وعودهم المتناقضة إلى اليهود و العرب الفلسطينيين صعبة التوافق. تصوّر الصهاينة بفتح الهجرة اليهودية بشكل واسع النطاق، والبعض تكلّم عن دولة يهودية تشمل كلّ فلسطين. الفلسطينيون، على أية حال، رفضوا قيام بريطانيا بتقديم بلادهم إلى طرف ثالث و هم لا يملكونها، حدثت الهجمات المضادة للصهيونية في القدس في 1920 ويافا في 1921.
في 1922 في بيان سياسي للحكومة البريطانية تم أنكار طلبات الصهيونية بالحصول على كلّ فلسطين وحدّدت الهجرة اليهودية، لكن تم أعادت التأكيد على دعم بريطانيا للوطن القومي لليهود. و قدم أقتراح بتأسّيس مجلس تشريعي، رفض الفلسطينيون هذا المجلس لكون التمثيل فية عدم عدالة.
في 1928، عندما زادت الهجرة اليهودية بعض الشّيء، السياسة البريطانية تجاه الهجرة تأرجح تحت تضارب الضغوط العربية واليهودية. الهجرة تزايدة بحدّة بعد أضهاد النظام النازي في ألمانيا لليهود سنة 1933. في 1935 تقريبا حوالى 62,000 يهودي دخلوا فلسطين.
الخوف من الهيمنة اليهودية كان السبب الرئيسي للثورة العربية التي إندلعت في 1936 وإستمرّت بشكل متقطّع حتى 1939. في ذلك الوقت حدّدت بريطانيا الهجرة اليهودية ثانية ومنعت بيع الأرض لليهود.
فتره ما بعد الحرب العالميه الثانيه
الكفاح الفلسطين، الذي توقف خلال الحرب العالمية الثانية، إستأنف في 1945. الرعب من المحرقة النازية المزعومة أنتج عطفا عالميا و أوروبي لليهود وللصهيونية، وبالرغم من أن بريطانيا ما زالت ترفض هجرة 100,000 يهودي إلى فلسطين، العديد من اليهودي وجد طريقهم الى هناك بشكل غير قانوني.
الخطط المختلفة لحلّ مشكلة فلسطين رفضت من طرف أو آخر. أعلنت بريطانيا أن الإنتداب فاشل وحولت المشكلة إلى الأمم المتّحدة في أبريل/نيسان 1947. اليهود والفلسطينيون أستعدوا للمواجهة. بالرغم من أن الفلسطينيون فاقوا عدد اليهود (1300000 إلى 600000)، اليهود كانوا مستعدّين أفضل. إمتلكوا حكومة شبة مستقلة، تحت قيادة ديفيد بن جوريون، وجيشهم، الهاجانا، كان مدرّب بشكل جيد. الفلسطينيون لم يكن لهم الفرصة للتجهز منذ الثورة العربية، وأغلب زعماء الثورة كانوا في المنفى أو سجون الإنتداب البريطاني.
مفتي القدس، والناطق الرئيسي للفلسطينيين، رفض القبول بالدولة اليهودية. عندما قررت الأمم المتّحدة تقسيم فلسطين في نوفمبر/تشرين الثّاني 1947، رفض العرب الخطة بينما قبلها اليهود. في الحرب العسكري التي بدأت بعد أنهاء بريطانيا للإنتداب هزم العرب والفلسطينيون.
قامت إسرائيل في 14 مايو/أيار 1948، جائت خمس جيوش عربية لمساعدة الفلسطينيين، وقامت بالهجوم فورا. عدم التنسيق وأسباب آخرى كانت السبب في هزيمة الجيوش العربية. إسرائيل أحتلت أكثر مما كان مقررا لها في قرار التقسيم. في حين أخذت الأردن الضفة الغربية من نهر الأردن، ومصر أخذت قطاع غزة. إحتلّت إسرائيل هذه الأراضي بعد حرب الأيام الستّة 1967. نتج عن الحرب 780,000 لاجىء فلسطيني. جزء منهم تركوا بيوتهم من الخوف والرعب، بينما البقية أجبرت على الخروج. الفلسطينيون مع إنتشارهم خلال البلدان المجاورة، أبقوا على هويتهم الوطنية الفلسطينية والرغبة في العودة إلى وطنهم.
مقدمة
ساعدت خصوبة أرض فلسطين واعتدال مناخها وموقعها المتوسط على وجود الإنسان فيها، منذ أقدم العصور حتى الوقت الحالي، وإذا تعرضنا إلى المجموعات البشرية الأولى التي عاشت في فلسطين منذ أقدم العصور، فإن الكتابة حول هذه المرحلة الطويلة من حياة الإنسان تحتاج إلى مجلدات عدة، وسأحاول أن أستعرض باختصار تاريخ فلسطين لاكتشاف الخصوصية التاريخية الفلسطينية لسكان هذه المنطقة، ولاضفاء بعض الضوء على الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال تلك الفترات..
لقد كان لموقع فلسطين المتوسط بين الدول التي نشأت في وادي النيل، وبلاد ما بين النهرين، والأناضول دوركبير في كتابة تاريخها، ولهذا كان لفلسطين دور بارز في عملية الاتصال الحضاري ما بين المناطق المختلفة من العالم، إذ كانت موضع تأثر وتأثير في جميع مناطق الشرق القديم، وشرق البحر المتوسط، وشمال افريقيا..
** التسمية
عرفت فلسطين منذ القرن الثامن عشر ق.م بأرض كنعان، وبـ "فلستيا" التي وردت في السجلات الآشورية كمجموعة من الدول الفلسطينية التي كان أشهرها الدولة الساحلية حول مدينة أسدود العاصمة، وذكر اسم "أرض فلسطين" علماً أن المقصود من هذا المصطلح الساحل الفلسطيني.. واصبح اسم فلسطين في العهد الروماني ينطبق على الأرض المقدسة، وغدا مصطلحاً رسمياً منذ عهد "هدريان" وانتشر استعمال هذا الاسم في الكنيسة المسيحية على نطاق واسع..
أما في العهد الإسلامي فقد كانت فلسطين جزءاً من بلاد الشام، حيث كانت لها منزلة خاصة في نفوس العرب المسلمين حيث ورد في القرآن الكريم "الأرض التي باركنا فيه للعالمين" صدق الله العظيم..
** من جغرافية فلسطين التاريخية:
كان لموقع فلسطين المتوسط ما بين القارات الثلاث: آسيا، وأفريقيا، و أوروبا، دور كبير في كتابة تاريخها، خاصة وأنها تعتبر المدخل الرئيسي لهذه القارات، كما أنها حلقة الوصل ما بينها بشكل عام، وما بين مصر القديمة والمناطق الآسيوية الأخرى بشكل خاص..
يمكن تقسيم فلسطين طولياً حسب الآتي: الساحل والسهل الساحلي الفلسطيني، المقصود به سهل عكا، سهل مرج ابن عامر،وسهل يافا، والساحل الفلسطيني الجنوبي ثم المنطقة السفلي الواقعة بين الجزء الجنوبي للسهل الساحلي ومنطقة جبال القدس والخليل، وسلسلة الجبال الداخلية المقصود بها امتداد سلسلة جبال لبنان التي تنتهى بجبال الخليل، منها جبال الجليل شديدة الارتفاع ومناخها البارد، وجبال نابلس، وجبال القدس، وجبال الخليل، ثم منطقة بئر السبع والنقب تبدأ من وادي الخليل شمالاً حتى وادي السبع جنوباً الذي يتجه غرباً حتى البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم تتجه غرباً إلى سيناء وباتجاه الجنوب والجنوب الشرقي إلى الجزيرة العربية مروراً بالعقبة. ثم منطقة وادي الأردن الواقعة بين جبل الشيخ في الشمال والبحر الميت في الجنوب وتشمل منطقة الحولة، وبحيرة طبريا، والبحر الميت، ووداي عربة، والتي تعتمد جميعها على مياه الأمطار بشكل رئيسي والينابيع والأنهار (الأردن والمقطع وإبراهيم والعوجا وروبين والداليه)..
** فلسطين في العصر الحجري القديم:
تبدأ مرحلة العصر الحجري منذ أن بدأ الإنسان الأول يصنع أدواته من الحجارة، وتنتهى بمعرفة الإنسان للكتابة في الألف الرابع قبل الميلاد، وقد دلت المخلفات الأثرية على أن الإنسان قد عاش في منطقة غربي وشرقي نهر الأردن، وقد عثر على معظم المخلفات الأثرية التي تعود لهذا العصر في مواقع موزعة على منطقة واسعة من بلاد الشام، خاصة في منطقة حفرة الانهدام..
ويعتبر مركز العبيدية في الجزء الشمالي لغور الأردن في فلسطين من أهم المواقع الأثرية وأشملها في جنوب بحيرة طبريا، وقد تمتعت منطقة فلسطين و الأردن بأفضل الأجواء المناخية وبطبيعة خضراء، ومجموعات حيوانية مختلفة، حيث مثلت هذه المرحلة بداية للتجمعات البشرية التي أصبحت تشكل أنماطاً معيشية متطورة، وتم تصنيف المواقع الفلسطينية المنسوبة إلى المرحلة الانتقالية بين الإنسان الجامع للقوت، والإنسان المنتج له تبعاً للأدوات التي تم اكتشافها، وخاصة الميل إلى الاستقرار الدائم في قرى ثابتة بين الإنسان الجامع للقوت والإنسان المنتج في بلاد الشام، حيث يمكن تقسيم مرحلة العصر الحجري الحديث إلى مرحلة البكر ومرحلة المتأخر، وفي هذه المرحلة يبدو أن فلسطين كغيرها من مناطق بلاد البحر المتوسط قد تعرضت لتغيرات مناخية، فقد بنى الإنسان لنفسه بيتاً في هذه الفترة، ففي أريحا عثر على بيوت مستطيلة الشكل، مبنية بطوب ترابي يختلف في شكله على الذي استعمل في الفترات السابقة، وفضلاً عن أريحا فقد تم اكتشاف العديد من المواقع، التي تعود إلى هذه الفترة السابقة، في فلسطين منها: تل المتسلم، وبيسان، والشيخ على وبلاطة، وتل الفارعة وغيرها الكثير.. وقد دخل تصنيع النحاس في حياة السكان في أواخر هذا العصر في مواقع عدة حول الأودية والأنهار ومصادر المياه، وفي المناطق الخصبة، وكانت أول هذه المواقع موقع تليلات الغسول على الزاوية الشمالية الشرقية للبحر الميت، وهناك ثلاثة مواقع هامة تقع بالقرب من بئر السبع وهي خربة البيطار، وبئر الصفدي، وتل أبومطر وهي متشابهة في إطار حضاري واحد، تعتمد على زراعة القمح والشعير وحياة الرعى والاستغلال الجزئي للنحاس والتجارة مع المناطق المجاورة، وتمثل المرحلة السكنية بمبان تحت الأرض تتضمن غرفاً مستطيلة الشكل متوسطة الطول، تطورت إلى غرف دائرية أو مخروطية بنيت من الطوب المجفف فوق أساس من الحجارة، بسقوف من لوحات خشبية متعارضة ومغطاة بطبقة طينية.. وأهم ما يميز هذه المرحلة أيضاً وجود الأدوات الفخارية، ووجود عدد من التماثيل (الدمي) الآدمية من العاج تمثل الرجال والنساء، امتدت هذه الحضارة لتمثل الجزء الأكبر من شمال النقب، ابتداء من مواقع وادي غزة في الغرب وتل عرار في الشرق..
** ظهور دويلات المدن:
شهدت منطقة الشرق القديم ومنها فلسطين، في العصر البرنزي مع نهاية الآلف الرابع قبل الميلاد، تغيراً حاسماً في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والمعمارية، وكان أكثر ما ميز هذه المرحلة في فلسطين، ظهور اعداد كبيرة من المدائن المقطوعة في الصخر، تنسب إلى جماعات وضعت نهاية لحضارة العصر الحجري النحاسي، أو حضارة غسول/ بئر السبع حيث تظهر هذه المدافن الصخرية في فلسطين وتنتشر على نطاق واسع وقد وجد مع الهياكل العظيمة عدد كبير من المرفقات الجنائزية كالأواني الفخارية والبازلتيه وبعض الأدوات البرونزية، مما يظهر بأن سكان فلسطين اخذوا في تزايد مستمر، وأصبحوا يطورون في مواقعهم السكنية تدريجياً حتى أصبحت مدناً محصنة ذات طابع مستقل، تميزت باستعمال عجنة الفخار على نطاق واسع، وذلك بخلط النحاس بنسبة معينة من القصدير، انتجوا منها أدوات برونزية متعددة الأشكال والوظائف، وغلب عليها الصحن العميق بأحجام مختلفة، وكانت مادة البناء الرئيسية في مدنهم وقراهم الفلسطينية من الطوب المجفف على أرضية من الحجارة الملساء، مؤلفة من غرفة واحدة، وقد اضيفت غرف أخرى تبعاً للحاجة، وقد كشفت الحفريات على وجود معابد في تل الفارعة، وفي اريحا، والتل (عي) الذي عثر فيها على معبد أعيد بناؤه ثلاث مرات، وعلى بعض أواني (التقدمات) جراراً كبيرة مغروسة في الأرض، وكذلك في تل المتسلم، وتميزت مدافنهم بالمدافن المقطوعة من الصخر، والمدافن القبية، ومدافن الغرف المستطيلة، والمدافن العمودية المقطوعة من الصخر.
إن تطور حياة المدن والاستقرار زاد من حركة العمران التي تدل على نمو السكان، وارتفاع مستوى المعيشة، وتقدم ملحوظ في نظام الزراعة مثل الحبوب والزيتون و اللوزيات، وقد عثر أيضاً على أدوات للزينة مصنعة محلياً أو مستوردة مثل الخرز والعظام والأحجار الكريمة وبعض قطع الذهب، في أهم المدن اريحا (تل عين السلطان) وعرار في منطقة النقب، والتل (عي) شرق قرية بتين في محافظة رام الله والبيرة، وخربة الكرك في المنطقة الجنوبية، والعفولة بالقرب من مدينة العفولة، ويازور على الطريق بين يافا والقدس، وتل الشيخ العرينى على الساحل الفلسطيني، وتل الفارعة الشمالي، وباب الزراع شرق البحر الميت، وقد امتدت هذه المرحلة بتطور ملموس في المدن حتى منتصف القرن السادس عشر حتى أواخر القرن الثالث عشر ق.م، حيث تميزت هذه الفترة بالسيطرة المصرية شبه التامة على بلاد الشام بالقضاء على آخر ملوك الهكسوس، وباختصار فإن حالة من الاضطراب قد سيطرت على فلسطين من مواقع الجنوب والوسط.
وفي التاريخ الاجتماعي والاقتصادي في العصر البرونزي الأخير، نستنتج من انتشار المدن والكهوف المحصنة ازدهار الحياة الاقتصادية في فلسطين خلال الألف الثاني قبل الميلاد، حيث وجدت بعض مجموعات من الحرفيين وفئات التجار والفلاحين، وصناعة الأسلحة المعدنية، ولاشك بأن العائلة كانت تشكل أساساً للعلاقات الاجتماعية، وكان لها التأثير المباشر على الحياة السياسية إذ كان الحاكم يورث ابنه الحكم من بعده، وكان النصيب الأكبر من الإرث للأولاد من الذكور، والابن الأكبر مسؤول عن العائلة، وينسب إلى هذا العصر أقدم تاريخ للقبائل العبرية، تبعاً لتفسيرات علماء اللاهوت لسفري العدد ويشوع في التوراة مما جعل غالبية رجال اللاهوت المهتمين بالعهد القديم، تحاول تفسير أسفار التوراة على أنها حقيقة مسلم به، حيث اخذوا ينسبون غالبية المادة الحضارية لتاريخ العبرانيين لخدمة أطماعهم السياسية.
** عصر المماليك:
اعتمد شرح هذه الحقبة الزمنية على تفسيرات علماء اللاهوت للتوراة، مستمدة من شرح مفصل من أسفار التوراة المتتابعة زمنياً، ابتداء من سفر القضاة الذي يعنى استقرار ما يسمى بالقبائل العبرية في فلسطين، ويتبع ذلك سفرا صموئيل الأول والثاني، وسفرا الملوك الأول والثاني أيام شاؤول وداوود وسليمان ثم انفصال هذه المملكة إلى مملكة إسرائيل الشمالية، ومملكة يهودا الجنوبية والصراع بينهما ثم الصراع مع ممالك المؤابين والعمونيين في الضفة الشرقية من نهر الأردن والممالك الآرامية الأخرى في شمال سوريا، حيث كانت فلسطين مسرحاً لعدد من الصراعات الداخلية والخارجية بين القوى الكبرى في مصر وبلاد ما بين النهرين وآسيا الصغرى، تكونت في هذه الظروف مراكز قوى محلية من كنعانية وآرامية، امتزجت مع مجموعات مهاجرة أشهرها الفلسطينيون الذين يعتبرونهم من مجموعة شعوب البحر، واعتبرهم آخرون سكان فلسطين أصلاً امتزجوا بمجموعات شعوب البحر الذين أثروا في حضارتهم، وأدخلوا عليها مواداً وعادات جديدة، اصبحت متميزة في الكثير من مواقع الساحل الفلسطيني الجنوبي، ظهرت التأثيرات الكنعانية على مخالفاتهم من خلال اسماء آلهتهم (داجوت، وعشتروت) وحياتهم الدينية الكنعانية،وبيوتهم، ومعابدهم ومبانيهم العامة التي نسبتها ادعاءات التوراتيين الإسرائيليين لهم، فقد ادعت التوراة أن القبائل العبرية الاثنتى عشرة قد عقدت تحالفاً مع شكيم، وتجمعت حول اله واحد ومعبد واحد، واستطردت التوراة بسرد وانجازات داوود وسليمان حيث انقسمت المملكة في عهده إلى مملكتين احتدم الصراع بينهما حتى الحملات العسكرية الآسيوية باخضاع ممالك آرام وأروم وإسرائيل ودفعهم الجزية لآشور حتى سقوط الدولة البابلية في منتصف القرن السادس ق.م واصبحت بلاد الشرق الأدنى تحت سيطرة الفرس، بعد أن تم نفي اليهود وسبيهم في (586ق.م) من قبل القوات البابلية المسيطرة بقيادة بنوخنصر، حيث بقيت المعلومات التاريخية الموثقة عن فلسطين في العهد الفارسي قليلة ومبعثرة..ونستطيع أن نلخص الفترة الممتدة من الألف الرابع إلى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، هجرة أقوام هبطوا من الصحراء، وتنقل قبائل جاءت تستوطن عموريين وكنعانيين وغير ذلك، وقبائل فاتحة وغازية من الشرق بابليون، وآشوريون وكلدانيون، وفرس، والفاتحون من مصر، ومن البحر "شعوب البحر" الذين عرفوا بالفلسطينيين جاؤوا إلى البلاد في القرن الثاني عشر قبل الميلاد..
** عهد الاسكندر والبطالمة والسلوفيون:
في سنة 334ق.م اجتاز الاسكندر من اليونان إلى آسيا الصغرى، وانتصر على الفرس واتجه بعد ذلك جنوباً نحو سواحل بلاد الشام رغبة منه في تدمير الأسطول البحري الفنيقي، فاستولى على ساحل بلاد الشام شمالاً حتى غزة المدينة التي حاصرها ووقفت في طريقه مدة شهرين إلى أربعة أشهر قبل تدميرها، وبعدها تسلم الاسكندر مصر سلماً بعد غزة وبني فيها مدينة الاسكندرية، ثم عاد إلى بلاد الشام حيث أعد حملته نحو فارس و أواسط آسيا وحوض السند، وقد توفى فجأة بعد ذلك،وقامت الحروب بين قادته، وظهر ملوك البطالمة والسلوقيون طوال القرن الثالث قبل الميلاد بعد حروب طاحنة فيما بينهم، وقد أصاب فلسطين الضرر من هذه الحروب إلا أنها نعمت بالاستقرار في العصر السلوقي إلى أن قامت حرب الماكبين ضد السلوقيين استمرت أربعين سنة إلى أن جاء الرومان فأصبحت فلسطين جزءاً من الدولة الرومانية..
كانت فلسطين في أيام الفرس جزءاً من المرزبانية الخامس، التي تشمل بلاد الشام وجزيرة قبرص، مقسمة، إلى خمس وحدات إدارية: الجليل، والسامرة، ومنطقة القدس، و اسدود فلسطيا القديمة مع عسقلان وغزة، وأدوم،وقد ورث البطالمة هذا التقسيم عن الفرس، وقد أدخلوا بعض التعديلات، وبقي هذا التقسيم في عهد السلوقين مع بعض التعديلات لغاية الثورة المكابية حاكم السامرة بفصل منطقة القدس وجعلها إبارخيا مستقلة، حيث كانت البلاد عبارة عن ساحة حرب في معظم الفترات، كان للمدينة المستقلة دور كبير في تاريخ فلسطين، فازداد عدد المدن ودخل في تنظيمها العنصر الهليني، بتبديل طبيعة المدن، ونشاط المجتمع كمراكز للنشاط الحضاري والثقافي، حيث منحت الاستقلال الاداري لفرض الضرائب، وكان من أشهرها: عكا كميناء على البحر، وجبع على منحدر الكرمل، ودورا على الساحل الفلسطيني الجنوبي، وحصن استراتون صيدا، ويافا، ويبنا جنوب يافا، اسدود على السهل الساحلي الجنوبي، وعسقلان، وغزة، ورفح، اعتمدت جميعها على الزراعة والصناعة والتجارة مع الغرب والريف الشرقي وغور الأردن مع قيام سكة للنقود والمصارف في المدن التجارية والمؤسسات الرسمية والمدن المستقلة والمنظمات السياسية والدينية من أهمها جماعات الصديقون من الجماعة الدينية اليهودية، والفريسيون والغلاة..
** روما تحتل فلسطين:
في سنة 65ق.م دخلت الجيوش الرومانية كيليكيا في طريقها إلى سوريا وفلسطين، وفي سنة 63ق.م اعتبرت المنطقة الغربية من الدولة السلوقية وفيها فلسطين بأجمعها وغرب سوريا، ولاية (سوريا الرومانية).. بقيت لغاية سنة 66م حيث اندلعت في فلسطين حركة عصيان عنيفة ضد الحكم الروماني بسبب الضرائب، حتى أخمدها نيرون (54-68م) وتم هدم الهيكل سنة 70م من قبل ابن نيرون (تيطس) الذي كان هيرودس قد بناه، هدمت بيت المقدس نتيجة هذه الحرب العنيفة على أن محاولة إنشاء مدينة هيلينية محل بيت المقدس القديمة أدت إلى قيام عصيان كبير في فلسطين..
** المسيحية في فلسطين:
كانت السلبية تتمثل في موقف اليهود العدائي نحو الهيلينية، ونحو الدولة الرومانية، فقد كانوا يحاولون ترسيخ عقائدهم الدينية، بربطها بأمور كثيرة، باتخاذهم قواعد دينية غريبة،كربطهم بالاعتزال عن الآخرين اجتماعياً، حتى في قواعد الطعام واللباس والطهارة مما اشعر الرومان بأنهم جماعة يختلفون عنهم تماماً، فهم أي اليهود يعتقدون أن الله اختارهم شعباً خاصاً، وأن مملكة ستقوم على الأرض، هي المملكة اليهودية الآلهية المنتظرة، سيتحقق وجودها على يد مخلص منقذ يعود إلى الشعب اليهودي، حيث أصبح للهيكل اليهودي مكانة خاصة في الحياة اليهودية بطقوس متنوعة تتم في الهيكل، وكان الفريقان الرئيسيان في المجتمع اليهودي الفريسيين والصدوقين على خلاف في تأدية طقوسهم الدينية، في هذا الجو جاء المسيح برسالته التي تتلخص، بان ملكوت الله، هو هبة الله للبشر أجمعين، وأنه يتم بإرادة الله، والحصول عليه يتم بالتوبة، والتنازل عن متاع الدنيا، والوصول إلى هذا المكتوب يصبح أمراً روحياً داخلياً في نفس كل مؤمن، وحملت دعوة المسيح تحريراً للإنسان من القيود والأربطة التي لفتها الجماعة الدينية اليهودية حوله، فقيدت المجتمع فرادي وجماعات.. ويمكننا أن نلخص ما مر بالمسيحيين في الفترة الأولى من حياتهم، وخاصة في بيت المقدس بالآتي: أصر اليهود الذين قبلوا المسيحية بأن "الخلاص" الذي دعا إليه المسيح لا يمكن أن يتم إلا في إطار "الشريعة" والحفاظ على قواعدها، والمظهران الرئيسيان لذلك هما الختان والتقيد بأنظمة التطهر، أما الذين لم يكونوا يهوداً فلم يروا التقيد بهذين الأمرين، والمؤمنين الجدد قبلوا فكرة مجيء المخلص المنتظر "المسيا" وقبلوا المسيح على هذا الأساس، فالذين كانوا يهوداً أصلاً، كانوا يأملون من المخلص "المسيا" أن يعيد لهم دولة، بعد التي ضاعت بعد احتلال بومبي لفلسطين عام 63ق.م، وبعد زوال هيرودس سنة 4ق.م، أما الآخرون لم تكن تر أن إعادة دولة يهود هو الخلاص.. في هذه الأجواء الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والروحية، التي لم تكن هادئة، كانت فلسطين من النقاط الحارة في الصدام لغاية 135م، حيث كانت المسيحية تشق طريقها وتنتشر،رغم الاضطهاد الرسمي على أيدي الأباطرة، بحيث أنه قدر أن خمس سكان الامبراطورية كانوا اعتنقوا المسيحية في أواسط القرن الرابع الميلادي، حيث كانت خصوماتهم تدور حول أن المسيحيين هم خصوم للمدنية، والمسيحية أداة لتدمير الحضارة اليونانية والرومانية، واعتناق المسيحية يضعف الأخلاق الفاضلة، وهي خالية من الفكر الفلسفي، وهي حديثة العهد ومن أهم وأعنف الاعتراضات كانت من اليهود والوثنيين على المسيحية..
** الدولة البيزنطية في فلسطين لغاية الفتح العربي:
تاريخ بلاد الشام طغت منذ بداية القرن الثالث الميلادي على الحروب المستمرة، بين الدولة الساسانية الفارسية والدولة الرومانية، علماً بأن الدولة البيزنطية حافظت منذ قيامها، على ما ورثته من مؤسسات ونظم وترتيبات إدارية، جاءت نتيجة للتجربة الهلينية الرومانية متراكمة ومجتمعة، ومن أبرزها قيام الحكم المركزي المطلق، الذي يعتمد على سلم بيروقراطي تكاد تنعدم فيه، المرونة فقد تولى شؤون الامبراطورية المطلق، بعد قسطنطين وحتى نهاية 527سبعة عشر امبراطورا، وبالنسبة لفلسطين فإن أهم ما تم في هذه الفترة هو العناية بتطوير الادارة، فالوالي الذي يمثل السلطة المركزية العليا أي الملك، هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، وداخل حدود ولايته في فلسطين كانت مدن لها إدارتها المدنية الخاصة بها، مثل بيسان، وقيصرية (الساحل) ونابلس وسبسطية وصفورية وعكا وغزة وبيت جبرين، مستقلة تصك النقود الخاصة بها، لها حدودها، إلى أن أصبحت فلسطين سنة 400م مقسمة إلى ثلاثة أقسام إدارية فلسطين الأولى والثانية والثالثة (الصحراوية) أو (الداخلية). الأولى كانت تضم القدس (إيليا كابيتولينا) قيصرية (قيسارية) دور الطنطورة، رأس العين، اللد، يبنه، عمواس، كفر عانة، عسقلان، غزة، رفح ، بيت جبرين، نابلس سبسطية، أريحا، اسدود، تل الفارعة، الخليل، أما فلسطين الثانية: بيسان، أم قيس، اللجون، صفورية، دبورية، طبريا، الكرك، الحصن، الخليل الأعلى، اما فلسطين الثالثة: بئر السبع، أراد (تل عراد)، العقبة (إيليا)، عوجا الحفير، سبيطة، مقسمة إلى 31 قضاءاً فيها 31 مدينة، 422 قرية، عدا عن القلاع والحصون، وفي الفترة التي تلت عهد قسطنطين تطورت الكنيسة في فلسطين والجوار، حيث كان انتشار المسيحية في المدن بداية، ثم الريف، ثم مع الطرق التجارية، وقد تخلصت من التصاقها باليهودية كديانة جديدة متمثلة في اتجاهين مشرقي يمثل في الكنيسة التي نظمت أمورها في بلاد الشام وبعض مناطق العراق، وكانت اللغة المستعملة في خدمتها السريانية، وفي مصر استعملت اللغة المرقسية القبطية، والاتجاه الثاني الذي ظهر في آسيا الصغرى وبلاد اليونان والاسكندرية والذين كانوا يعتمدون اللغة اليونانية، قامت بينها خلافات متعددة ومتباينة، لتباين الخلفيات التاريخية والحضارية والاجتماعية لفئاتها المتعددة، وخاصة خلافات لاهوتية حول عدة أمور، كان تنظيم الكنيسة في فلسطين يسير على أساس الوحدات الادارية، فحيث يوجد مسيحيون وكنيسة أو كنائس كان يتولى إدارتها "أسقف" يتم انتخابه من قبل العلمانيين ورجال الدين..
لم يتبدل سكان فلسطين من القرن الرابع لغاية القرن السادس من حيث العناصر إلا بازدياد عدد العرب بين السكان إلى الأدمويين في الجنوب، والأيطوريين في الشمال الشرقي، والقبائل التي كانت تقطن الساحل الجنوبي والأوسط، إزدادوا بالقبائل الغسانية، وبعض الأنباط، ودخول الأنباط كجنود وتجار و موظفين، وقد تبدل الوضع الديني وبقي فئة من اليهود كانت على عادتها من العنصرية من التحجر الفكري والاجتماعي، كما ظل السامريون الذين ينتشرون في فلسطين على دينهم، يعيشون جميعهم على الزراعة والتجارة والصناعة، وقد استعملوا الاقتصاد العيني بدل الاقتصاد النقدي أي المقايضة فيما بينهم، وقد بنى الرومان في هذا العهد عدة جسور وطرق وموانئ ادت إلى ازدهار فلسطين من الناحية التجارية والعسكرية. أما التعليم فكانت مسؤولية الأسرة نفسها حيث يقوم الآباء بتعليم أبنائهم بتوفير المعلمين لهم، وعنيت المدينة بتوفير التعليم العالي، ، وأنشئوا مؤسسات البحث العلمي والمكتبات العامة والخاصة، وعرفت من بين مدارسهم مدرسة غزة في القرن السادس، للحفاظ على الفكر الهليني لتوضيح الفكر المسيحي..
في دراسة التطور الحضاري في فلسطين لغاية مجيء العرب، والتي ترجمته النقوش والآثار والقيود والنصوص التاريخية. وما عرفته من مؤلفات في جميع مجالات الحياة والمسرح، وما يشبه ذلك من الأبنية التي كانت تتم فيها الاحتفلات العامة، والنحوتات، وبناء المنازل ، و الرسوم الفنية، والمصنوعات الفنية، وفنون البناء، ما أثبت أن المسيحية، الدين الجديد، نمت وترعرعت في إطار إجتماعي ثقافي روماني مميز، بالهيكل الوثني، بكل ما في من اتقان في البناء والزخرفة، والثاني الباسلكيا المبني الواسع المستطيل الشكل، حيث اخذت الكنيسة بأسس وقواعد للبناء، اعتمد التراث الفني والفكري الذي كان سائداً في ذلك الوقت، وفي فلسطين كان التراث الهلينستي هو السائد بفنونه وبنائه وتنظيمه..
كانت الحروب بين البيزنطيين والساسانيين تعنف وتهدأ، وكانت تعقد بين الدولتين معاهدات واتفاقات صلح متعددة لا تلبث أن تلغي وتقع الحروب مجدداً بين البلدين، ولكن كان لهذه الحروب آثار كبيرة فيما يتعلق بالادارة والتنظيم في البلاد، فقد وجد العرب الفاتحون إدارة بيزنطية في فلسطين قد تآكلت، وتضاربت المصالح العامة والخاصة فيها بحيث أن البلاد لم تتمكن من الوقوف أمام الفاتحين..
** فلسطين والفتح العربي:
كانت فلسطين تقع تحت حكم البيزنظيين، في صلب الأحداث التي نجمت عن الحروب الانتقامية التي شنها (هرقل) على فارس، رداً للهجوم الذي قام به كسرى الثاني (590-628م) على بيزنطة في الأناضول وانطاكية ودمشق وبيت المقدس، التي تركها نهباً للحرائق ودمر فيها كنيسة القيامة وغيرها من بيوت العبادة، وأعمل السيف في أهلها عام 614م، وحمل معه الصليب المقدس وعاد به إلى عاصمته، وقد استرد (هرقل) ما فقده من أرض ومن جملتها فلسطين، كان الحكم الفارسي قد دام اثنتي عشرة سنة، فقدت خلالها بيزنطة الكثير من نفوذها وهيبتها، وخاصة في المناطق الجنوبية من بلاد الشام (فلسطين)، بعد إيقاف المساعدات المالية المدفوعة لهذه المنطقة، مقابل حراسة الحدود، ولم تكن الحال بأفضل في المجال الديني، إذ أن الانشقاق في الكنيسة الذي حدث في منتصف القرن الخامس أدى إلى تصدع وحدة المجتمع الروحية.
كان الفتح العربي لبلاد الشام ومنها فلسطين، جزءاً من مخطط بدأ تنفيذه منذ حياة الرسول (ص)، تطبيقاً لمبدأ عالمية الدعوة الإسلامية: الأقربون، عرب الجزيرة، العرب خارج الجزيرة، شعوب العالم، فكانت بدايات الفتح للعرب خارج الجزيرة، علماً بأن العرب خارج الجزيرة، غالبية قبائلهم تحالفت مع البيزنطيين لعاملين أساسيين أولهما عامل الدين إذ كان بعضها يدين بالنصرانية، والثاني عامل الاستقلال القبلي ورفض تدخل أية قوة خارج عن إطار القبلية، كان اللقاء الأول للفاتحين مع هذه القبائل، ثم تم فتح المدن ذات الغالبية العربية الواقعة جنوب بلاد الشام، ثم أواسط بلاد الشام، ثم المدن الساحلية، ومعظم هذه المدن تم فتحها بعد حصار طويل، وقد سهل على الفاتحين التناقض في التركيب السكاني وتعدد الديانات، وسوء الادارة البيزنطية، والخلافات المذهبية، وقد أقامت الجيوش الفاتحة قواعدها العسكرية المركزية في الجابية في الجولان منطقة الغساسنة والرملة في فلسطين، ونزل القادة الفاتحون في طبريا، وبيسان، وفي القدس (إيلياء)..
0 تعليقات