السرايا والغزوات
جميع ما غزا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بنفسه سبعاً وعشرين غزوة ... وكانت بعوثه وسراياه - صلى الله عليه وسلم – ثمانية وثلاثين من بين بعث وسرية.
وكان عدد السرية أو البعث أو الغزوة يتراوح ما بين أفراد وعشرة آلاف كما في فتح مكة . ولم يكن تابعوا محمد يخرجون في السرايا والغزوات والبعوث بل تبقى الغالبية العظمى وتظل بيوت الخارجين مكشوفة ورغبة التماس بين نسائهم والقاعدين أو المخلفين على ما وصفنا ، لذا غدت هذه مشكلة اجتماعية حارقة وهي " مشكلة المغيبات " وهن اللائى غاب عنهن أزواجهن.
كان على محمد أن يواجهها بحسم لضرورة توالي السرايا والغزوات التي هي ضمان بالغ الأهمية للدين الذي جاء به والدولة القرشية حلم أجداده وآبائه التي أقامها في يثرب ، وبلغت إحصائية ابن هشام في السيرة النبوية خمساً وستين في عشر سنين أي خمسين يوماً على وجه التقريب لكل غزوة أو سرية أو بعث ومن المستحيل على محمد أن يكف عن إرسالها وبصورة منتظمة تحصيناً لدينه وتثبيتاً لدولته التي وضع حجر أساسها جده الأعلى قصي بن كلاب .
وكان عليه من جانب آخر أن يضمن لجنوده الخارجين في الغزوات والسرايا تغطية مواعينهم وستر بيوتهم وصيانة أعراضهم ، وعدم انفلات ( المغيبات ) بعد مبارحتهم يثرب/المدينة ، خاصة أن هناك من هم على استعداد كامل للالتقاء بهن.
من أجل هذا قابل محمد " مشكلة المغيبات " بحزم وصرامة شديدين وأصدر بشأنها أحاديث توقع الرهبة البالغة في نفس كل من يقترب مجرد اقتراب من هؤلاء " المغيبات " المتعطشات ، وقلنا إن أحاديثه لها قدسية كبيرة لدى أتباعه ولو أنها تجئ في الرتبة التالية للقرآن :-
1. ( عن سليمان بن بريدة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم ، ما من رجل يخالف إلى امرأة رجل من المجاهدين إلا وقف يوم القيامة فقال : هذا خانك في أهلك فخذ من عمله ما بدالك فما ظنكم ) .
في هذا الحديث يسوي محمد بين حرمة الأم وحرمة المغيبة أي من يزني بزوجة الخارج فكأنما زنى بأمه ومن يفعل ذلك يفضح علانية على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ويمكن للخارج اقتصاصاً منه أن يضع يده على جميع حسناته !!
وهي عقوبات صوارم قصد منها معالجة المشكلة بل القضاء عليها ، ولكن هل أفلحت في ذلك أم أن النزعة الغلابة لدى الطرفين ظلت كما هي ، هذا ما سوف نراه.
2. ( في حديث علي – رضي الله عنه – قال يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : من آذى مجاهداً في أهله فمأواه النار لا يخرجه منها إلا شفاعة المجاهد لله إن فعل ذلك ) .
هنا تتساوى جريمة الزنا بزوجة الخارج في غزوة أو سرية بالكبائر التي تخلد مرتكبها في النار لأن إحتمال شفاعة الخارج للزاني مع زوجته منعدم تماماً.
3. ( مثل الذي يجلس علي فراش المغيبة مثل الذي ينهشه أسود أي ثعبان من أساود يوم القيامة ) .
إن صدور هذه الأحاديث الباترة كحد السيف يقطع بأن المشكلة متفاقمة و تزداد اتساعاً ولا توجد في الأفق بادرة حل لإنهائها كما يتضح مما يلي :
4. ( عن جابر بن سمرة قال : بعد رجم ماعز بن مالك ( صاحب الغامدية التي يفهم من سياق الحديث أنها كانت إحدى المغيبات ) خطب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : أكلما نفرنا في سبيل الله عز وجل خلف أحدهم نبيباً كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة ، أما والله إن يمكنني الله من أحدهم منهم إلا نكلته عنهن ) والنبيب : الصياح والتيس ذكر الماعز.
والحديث يصور بعبارات بليغة أحوال القاعدين الذين يحومون حول المغيبات وتشبيهه لهم بالتيوس التي تصيح إغراء لإناث الماعز تشبيه مستقى من البيئة. وهو ( = الحديث ) يدل على أن المشكلة لم تكن فردية بل جماعية بل أنها تحولت إلى ظاهرة اجتماعية وإلا لما جاء وعيد محمد شديداً وصل حد النكال والتنكيل - إنما الذي لا مرية فيه تلك الأحاديث رغم قساوة العقوبات التي حملتها وصرامة الوعيد الذي بشرت به لم تمنع التيوس من القاعدين من الدخول على المغيبات والاستمتاع بهن فقد رأينا فيما سلف حكاية الأنصاري الذي دخل على زوجة ( أخيه ) الثقفي الذي كان خارجاً في غزوة أو سرية ... وكذلك فهمنا من سياق قصة الغامدية صاحبة ماعز أنها ( مغيبة ) فأغراها مالك أو ربما هي التي أغرته والأصح أنه تلاقت رغبتاهما وسلك محمد في علاج مشكلة المغيبات طريقاً آخر وهو نهي الأزواج عن مفاجأة زوجاتهم ليلاً ويسمى" الطروق ليلاً " :
5. ( إذا دخلت ليلاً فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتط الشعثة ) . والاستحداد هو حلق العانة وتسمية العامة في مصر : " النتف " . وهي كلمة عربية فصيحة ، والشعثة هي التي تفرق شعرها لعدم الامتشاط .
6. ( إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً ) .
7. ( قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : لا تطرقوا النساء ليلا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة .
8. وقيل إن بعض الصحاب خالف هذه الأوامر الصريحة وطرق أهله ليلاً ففوجىء بزوجته في أحضان رجل وكان من الحتم اللازم أن يتوقع ذلك ، أليس هو ابن " مجتمع يثرب " وربيبه !!!
من الواضح أن محمداً بنهيه صحبه عن دخول بيوتهم ليلاً هو أن يجنبهم المرور بتجربة قاسية تحطم معنوياتهم وتمنعهم من الانخراط مرة أخرى في سراياه وغزواته وبعوثه ونعنى بها تجربة مشاهدة الزوجة تحت رجل آخر لأن الاستحداد والامتشاط والاغتسال والتزين والتعطر...الخ .. لا تستغرق جميعها من الزوجة أكثر من ساعة ، وهذه لا تساوى أن يقضي الزوج الليل بطوله خارج بيته خاصة وأنه قد عاد مجهداً معفراً ...
ولماذا لم ينههم محمد على الدخول عن الزوجات نهاراً وحالتهن في الليل أو النهار واحدة : عدم الاستحداد والامتشاط ... وما الفرق بين أن ينتظر الزوج حليلته بعض الوقت حتى تتزين له سواء بالنهار وبالليل ؟
إن محمداً الحصيف كان يعرف أن الليل هو الوقت المفضل لتلاقي الأخدان خاصة في ذلك الزمان إذ لم تكن إنارة الشوارع والطرقات قد عرفت بعد وأدوات الإضاءة كانت آنذاك ضعيفة واهنة كليلة تمكن من الدخول والخروج في أمان خاصة وأن الناس قد أوت إلى مساكنها وانقطعت الأرجل السابلة…
لهذا نهى محمد أتباعه عن الدخول على الزوجات المغيبات في ظلمة الليل حتى لا يفاجأوا بما لا يسرهم بل يفزعهم ويفجعهم ويدفعهم إلى الإحجام عن الخروج.
واستمرت " مشكلة المغيبات " بعد وفاة محمد فقد قرأنا في خلافة عمر ما يدل على ذلك :
9. ( روى أبو حفص عن زيد بن أسلم قال : بينما عمر بن الخطاب يحرس المدينة فمر بامرأة تقول :
تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وطال عليّ ألا خليل ألاعبه والله لولا خشية الله وحده ... لحرك من هذا السرير جوانبه.
( وفي رواية لزلزل ) فسأل عمر عنها فقيل له : هذه فلانة زوجها غائب في سبيل الله فأرسل إليها امرأة تكون معها وبعث إلى زوجها فأقفله ، بعدها كتب إلى أمراء الأجناد : لا تحبسوا رجلاً عن امرأته أكثر من أربعة أشهر ) .
إرسال ابن الخطاب امرأة إلى المتشوقة لزلزلة السرير مقصود منه مراقبتها حتى يؤوب زوجها خشية أن تدفعها النزعة العارمة إلى خدن أو خليل يزلزل بها سريرها بعد أن طالت غيبة زوجها ولو كان عمر يثق فيها لما فعل ذلك وإرساله الرقيبة يرجع إلى معرفته بأحوال " المجتمع اليثربي " ...
أما سبب توقيت مدة غيبة الزوج بأربعة شهور فمرده أنه سأل النسوة عن المدة التي تصبر فيها المرأة عن المجامعة فأجبته : أربعة أشهر – الأشهر الأربعة هي الحد الأقصى لا الحد الأدنى ، خاصة وأن نسوة ذلك المجتمع تعودن على المباطنة اليومية ومن ثم استمرت المشكلة دون حل :
10. ( عن الحسن قال : أرسل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى مرأة مغيبة كان يدخل عليها فأنكر ذلك فأرسل إليها فقيل لها : أجيبي عمر فقالت : يا ويلها ما لها ولعمر...الخ )
وعبارة " يدخل عليها " واضحة تفسر نفسها وفزع المغيبة المدخول عليها من طلب عمر لها ودعاؤها على نفسها بالويل والثبور وعظائم الأمور دليل على أنها كانت مريبة أو إذا شئت الدقة أنها مغيبة نموذجية أي يتوافق سلوكها مع موجبات وأنساق وأعراف " مجتمع يثرب " الذي كانت نزعة التلاقي والتماس مع الآخر فيه غالبة.
تلك جولة – على طولها النسبي – نراها قصيرة في " مجتمع يثرب " إبان العهدين المحمدي والخليفي من زاوية واحدة هي علاقة الرجل بالمرأة ( والمرأة بالرجل ).
والعهد المحمدي هو عهد التدشين التأسيس والتبليغ والتقويم أما العهد الخليفي فهو حقبة التشييد الانسياح والتوسع والإعلام ... والعهدان في نظرنا على درجة قصوى من الأهمية وخاصة أولهما.
ومع ذلك لم يأخذا حقهما من الدراسة الموضوعية المنهجية العلمية ، من كافة النواحي : العقائدية أو الدينية والاجتماعية والاقتصادية بل والعسكرية...الخ.
وإن كان هناك ركام هائل من الكتابات الخطابية الإنشائية عنها.
وكتب التراث بمختلف أنواعها تنضوي على مخزون ضخم ضخامة لا يتصورها القارئ العادي من المعلومات عن العصر الخليفي . وكثيراً ما لفتنا النظر إلى أن الكتابة عن هاتين الحقبتين من القصور البين بل من السذاجة المفرطة بمكان لأن الاعتماد فيها على كتب التاريخ وحدها – مع تقديرنا البالغ لها ولأصحابها – والإعراض عن دواوين السنة بمختلف أسمائها ورتبها وكتب أسباب النزول وتفسير القرآن والناسخ والمنسوخ والقراءات والعدد في القرآن ومناسبات ورود الحديث والجرح والتعدين والمتروكين والمدلسين وكل علوم الحديث ومؤلفات الفقه منذ نشأته في يثرب وقبل ظهور المذاهب ثم بعد ظهورها والمذاهب المندرسة والمندثرة والباقية والمستمرة وعلم أصول الفقه وكتب الطبقات في شتى المجالات وعلم الكلام...الخ.
وعن كتب الأدب والأمالي والنوادر.. ( هذه نذكرها كمصدر ثان ) .
أنها جميعها أرخت لهذين العهدين تأريخاً دقيقاً ولكن بطريقتها الخاصة التي هي من البديهي ألا تجئ مطابقة لطريقة المؤرخين وتبتعد عن السرد التاريخي ...
ولكن بها كنوز – وليس في هذه اللفظة أدنى مبالغة – من الأحداث والأخبار والنوازل والخطب والرسائل المساجلات والمحاورات ...
التي تضئ بشكل باهر ومبهر جميع النواحي في المجتمعي المحمدي والخليفي وخاصة الأول منهما وذلك للعناية البالغة التي أولها مصنفو وواضعو وجامعو ومؤلفو...تلك الكتب لشخصية محمد حتى أننا نؤكد أنهم لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة عن ذلك العهد ولها علاقة بمحمد ألا دونها ولما كان هو محور ذلك العهد فمعنى ذلك أنهم سطروا كل شيء عنه ، ثم بدرجة أقل عن الحقبة التالية له أي الحقبة الخليفية .
وفي مذهبنا أنهم أدوا أمانتهم ولا يطلب منهم أكثر من ذلك ، ولا ينال من عملهم الجبار ذاك ما لحقه من تبرير وتلفيق وتزويق حاولوا أن يبرروا به أو يجملوا به بعض الوقائع من أشخاص يكنون لهم في نفوسهم قداسة أو تقديراً فهذه مسألة يعذرون فيها.
والعين البصيرة الناقدة التي تقرأ بوعي والتي نزعت عنها القداسات الزيوف – التي عادة ما تصاحب القارئ لهذه الكتب – هذه العين تستطيع بقدر من التمحيص أن تكشف تلك التبريرات والتلفيقات والتزاويق وتنحيها جانباً وتعكف على الوقائع نفسها تدرسها دراسة موضوعية وتبحثها بحثاً علمياً مجرداً وتحللها تحليلاً دقيقاً ، كما فعلنا – على قدر جهدنا وطاقتنا – في هذا البحث . فالأخبار والنوازل والوقائع والأحداث التي أوردناها معجونة – في مصادرها الأصلية – عجنا بالتبريرات والتسويغات والتلفيقات والتزاويق والتجميلات .. الخ ولكننا استطعنا بعد قراءة أو قراءات مستأنية متمسكة بحبال الصبر ، وبعيون ناقضة متحررة من غبش التقديس الزائف أن ننفض عنها كل ذلك ونعيد قراءتها قراءة جديدة نحت جانباً هالات التبجيل المصطنعة وحللناها وعرضناها بموضوعية لعل القارئ قد أدركها.
ومن المهم بمكان أن نذكر أن هالات التفخيم والتعظيم بدأت في تلك المؤلفات مبكرة للغاية ربما منذ " عصر التدوين " لأن كاتبيها ومؤلفيها أو جامعيها يكتبون عن أناس لهم في نظرهم قدر وفير من القداسة ، وليس صحيحاً أن التفخيم والتبجيل والتعظيم لم تعرفها إلا كتابات ما يسمى بكل مجانية وخفة بـ " عصور الانحطاط " وإن كانت النبرة زادت زيادة واضحة والعبارات تضاعفت والنهج نفسه تضخم أو لنقل إنه تورم في هذه العصور ولكن الذي لا شك فيه أن البذرة كانت موجودة منذ البدايات الأولى وهذا أمر طبيعي.
وعجبي يتزايد يوماً بعد يوم من كليات العلوم الإنسانية في الجامعات المصرية والعربية والإسلامية التي تلتفت منذ نشأتها إلى تلك الدواوين والكتب والمؤلفات ...الخ كمصدر رئيسي للتاريخ والتقييم للحقبة المحمدية على وجه خاص ثم من بعدها للحقبة الخليفية ، واعتمادها فقط على كتب التاريخ وحتى لا يساء فهمنا نكرر العبارة السابقة " مع تقديرنا لها ولواضعيها "
وكم أسفت بل تألمت وتوجعت وأنا أطالع – مؤخراً كتاباً ألفه أستاذ كبير مقاماً وسناً – في إحدى كليات العلوم الإنسانية بجامعة مصرية وصاحب اسم لامع في سماء الفكر في العالم العربي لا في مصر وحدها ، وهو يصف تلك المؤلفات التي ذكرناها بـ " الكتب الصفراء " وتحدث عنها بسخرية مريرة واستهزاء شديد واستكبار واضح ، وإني على ثقة كاملة أنه لم يفتح كتاباً واحداً منها بل ولم يقرأ سطراً يتيماً فيها ، وكيف يصدر عالم حكماً على شيء لم يطلع عليه ، ومن المحزن أن المادة التي يدرسها ويؤلف فيها وثيقة الصلة بهذه " الكتب الصفراء ".
إن ما تحتويه هذه الذخائر يهم استثناء كل العلماء في :-
علم الاجتماع – في سائر فروعه – والأنثروبولوجيا وخاصة الدينية والاقتصاد والسياسة والتاريخ والتربية والإعلام والأدب واللغة بل والعلوم العسكرية ؛ وتحتاج إلى كتائب – ولا أقول كتيبة واحدة – من الدارسين والباحثين والعلماء لدراستها وبحثها وتمحيصها وتبويبها وتصنيفها وتحليلها وغربلتها… الخ.
ولا صلة لهذه الدعوة التي أطلقها وأنادي بها بأعلى صوتي بما يسمى بـ " معركة الأصالة والحداثة " أو " معركة التراث والتجديد " التي أصبحت الكتابة فيها ممجوجة ومملة ومستهلكة وبائخة بعد أن أهرقت فيها بحور من الحبر ، ولا يشكل ذلك تعصباً مني لـ " التراث " ولا انبهاراً به ، فليس إلى شيء من هذا قصدت بل ربما يكون العكس تماماً هو الصحيح :
إن هذا الضرب من الدراسات والبحوث الذي ندعو إليه بكل ما نملك من قوة سوف يؤدي بطريق الحتم واللزوم إلى تفكيك " القباب المقدسة " قداسات زيوف والتي تخيم على العقل العربي ( بما فيه المصري ) منذ قرون فتحجب عنه الهواء النقي والشمس الساطعة وإلى كسر القيود التي تكبله وتمنعه من الانطلاق إلى الآفاق الرحيبة والفضاءات غير المحدودة التي تسبح فيها عقول الآخرين وإلى تسليط الأنوار الكاشفة على " النصوص " لتعرف على حقيقتها ، وساعتها ينعتق المخاطبون بها من هيمنتها وتسلطها عليهم في كل مناحي حياتهم حتى عندما يدخلون أماكن قضاء الحاجة !!! .
وإلى تعرية رموز كبيرة الشأن رفيعة المقام ونزع الهالات المصطنعة التي أحاطوها بها وعرضها بالصورة الحقيقية الواقعية بلا رتوش كما هي مرسومة في كتب التراث بعد إقضاء التزويقات والتجميلات التي أشرنها إليها فيما سلف ، وساعتها سوف يصيح من " يعانيها على الطبيعة " : كم كنا مخدوعين !!
وسوف يؤدى إلى تحطيم " الأساطير " التي يؤمن بها حتى حملة الإجازات العلمية الجامعية الرنانة وبعضهم أحضرها من بلاد " الفرنجة " !!!
ولكن ما الهدف من وراء ذلك كله ؟
والجواب : إن تحرير العقل العربي ( وطبعاً المصري ) من القيود التي تكبله والفكر العربي " وطبعا المصري " من " النصوص "و " الأساطير" التي تشل حركته ، من أهم دوافع إن لم تكن أهمها جميعاً والني ستساهم في انتشال مجتمعاتنا من وهدة التخلف التي تتردى فيها منذ قرون.
والسؤال الخاتم الذي حيرني وأقض مضجعي منذ أعوام طوال :
متى تنجز تلك الدراسات والبحوث ؟
بل : من يجرؤ على مجرد الاقتراب منها الآن ؟
مجتمع يثرب
العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي
هذا الكتاب يضئ جانباً مهماً في مجتمع يثرب إبان حياة الرسول محمد وزمن خلفائه الأربعة.
والذي فجر ثورة في منطقة الحجاز تعد من أخطر الثورات التي شهدتها الإنسانية منذ العصور الوسطى.
ويحاول المؤلف خليل عبد الكريم أن يكشف جانباً مهماً من العلاقة بين الرجل والمرأة في ذلك المجتمع ، والتي تعتبر المقياس الأساسي عند تقييم أي مجتمع.
في هذا الكتاب ما يدهش القارئ وربما يصدمه بما تحفل به صفحاته من نوازل وأحداث لم يتعود على مطالعتها في كتب التبجيل والتعظيم التي ولفها الكثيرون ومن بينهم أسماء لامعة لها رنين صاخب ودوي زاعق وهي معروضة بالأسلوب العلمي الصارم الذي نحى عنه جانباً ، عوارض العاطفة والتعصب.
جميع ما غزا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بنفسه سبعاً وعشرين غزوة ... وكانت بعوثه وسراياه - صلى الله عليه وسلم – ثمانية وثلاثين من بين بعث وسرية.
وكان عدد السرية أو البعث أو الغزوة يتراوح ما بين أفراد وعشرة آلاف كما في فتح مكة . ولم يكن تابعوا محمد يخرجون في السرايا والغزوات والبعوث بل تبقى الغالبية العظمى وتظل بيوت الخارجين مكشوفة ورغبة التماس بين نسائهم والقاعدين أو المخلفين على ما وصفنا ، لذا غدت هذه مشكلة اجتماعية حارقة وهي " مشكلة المغيبات " وهن اللائى غاب عنهن أزواجهن.
كان على محمد أن يواجهها بحسم لضرورة توالي السرايا والغزوات التي هي ضمان بالغ الأهمية للدين الذي جاء به والدولة القرشية حلم أجداده وآبائه التي أقامها في يثرب ، وبلغت إحصائية ابن هشام في السيرة النبوية خمساً وستين في عشر سنين أي خمسين يوماً على وجه التقريب لكل غزوة أو سرية أو بعث ومن المستحيل على محمد أن يكف عن إرسالها وبصورة منتظمة تحصيناً لدينه وتثبيتاً لدولته التي وضع حجر أساسها جده الأعلى قصي بن كلاب .
وكان عليه من جانب آخر أن يضمن لجنوده الخارجين في الغزوات والسرايا تغطية مواعينهم وستر بيوتهم وصيانة أعراضهم ، وعدم انفلات ( المغيبات ) بعد مبارحتهم يثرب/المدينة ، خاصة أن هناك من هم على استعداد كامل للالتقاء بهن.
من أجل هذا قابل محمد " مشكلة المغيبات " بحزم وصرامة شديدين وأصدر بشأنها أحاديث توقع الرهبة البالغة في نفس كل من يقترب مجرد اقتراب من هؤلاء " المغيبات " المتعطشات ، وقلنا إن أحاديثه لها قدسية كبيرة لدى أتباعه ولو أنها تجئ في الرتبة التالية للقرآن :-
1. ( عن سليمان بن بريدة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم ، ما من رجل يخالف إلى امرأة رجل من المجاهدين إلا وقف يوم القيامة فقال : هذا خانك في أهلك فخذ من عمله ما بدالك فما ظنكم ) .
في هذا الحديث يسوي محمد بين حرمة الأم وحرمة المغيبة أي من يزني بزوجة الخارج فكأنما زنى بأمه ومن يفعل ذلك يفضح علانية على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ويمكن للخارج اقتصاصاً منه أن يضع يده على جميع حسناته !!
وهي عقوبات صوارم قصد منها معالجة المشكلة بل القضاء عليها ، ولكن هل أفلحت في ذلك أم أن النزعة الغلابة لدى الطرفين ظلت كما هي ، هذا ما سوف نراه.
2. ( في حديث علي – رضي الله عنه – قال يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : من آذى مجاهداً في أهله فمأواه النار لا يخرجه منها إلا شفاعة المجاهد لله إن فعل ذلك ) .
هنا تتساوى جريمة الزنا بزوجة الخارج في غزوة أو سرية بالكبائر التي تخلد مرتكبها في النار لأن إحتمال شفاعة الخارج للزاني مع زوجته منعدم تماماً.
3. ( مثل الذي يجلس علي فراش المغيبة مثل الذي ينهشه أسود أي ثعبان من أساود يوم القيامة ) .
إن صدور هذه الأحاديث الباترة كحد السيف يقطع بأن المشكلة متفاقمة و تزداد اتساعاً ولا توجد في الأفق بادرة حل لإنهائها كما يتضح مما يلي :
4. ( عن جابر بن سمرة قال : بعد رجم ماعز بن مالك ( صاحب الغامدية التي يفهم من سياق الحديث أنها كانت إحدى المغيبات ) خطب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : أكلما نفرنا في سبيل الله عز وجل خلف أحدهم نبيباً كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة ، أما والله إن يمكنني الله من أحدهم منهم إلا نكلته عنهن ) والنبيب : الصياح والتيس ذكر الماعز.
والحديث يصور بعبارات بليغة أحوال القاعدين الذين يحومون حول المغيبات وتشبيهه لهم بالتيوس التي تصيح إغراء لإناث الماعز تشبيه مستقى من البيئة. وهو ( = الحديث ) يدل على أن المشكلة لم تكن فردية بل جماعية بل أنها تحولت إلى ظاهرة اجتماعية وإلا لما جاء وعيد محمد شديداً وصل حد النكال والتنكيل - إنما الذي لا مرية فيه تلك الأحاديث رغم قساوة العقوبات التي حملتها وصرامة الوعيد الذي بشرت به لم تمنع التيوس من القاعدين من الدخول على المغيبات والاستمتاع بهن فقد رأينا فيما سلف حكاية الأنصاري الذي دخل على زوجة ( أخيه ) الثقفي الذي كان خارجاً في غزوة أو سرية ... وكذلك فهمنا من سياق قصة الغامدية صاحبة ماعز أنها ( مغيبة ) فأغراها مالك أو ربما هي التي أغرته والأصح أنه تلاقت رغبتاهما وسلك محمد في علاج مشكلة المغيبات طريقاً آخر وهو نهي الأزواج عن مفاجأة زوجاتهم ليلاً ويسمى" الطروق ليلاً " :
5. ( إذا دخلت ليلاً فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتط الشعثة ) . والاستحداد هو حلق العانة وتسمية العامة في مصر : " النتف " . وهي كلمة عربية فصيحة ، والشعثة هي التي تفرق شعرها لعدم الامتشاط .
6. ( إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً ) .
7. ( قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : لا تطرقوا النساء ليلا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة .
8. وقيل إن بعض الصحاب خالف هذه الأوامر الصريحة وطرق أهله ليلاً ففوجىء بزوجته في أحضان رجل وكان من الحتم اللازم أن يتوقع ذلك ، أليس هو ابن " مجتمع يثرب " وربيبه !!!
من الواضح أن محمداً بنهيه صحبه عن دخول بيوتهم ليلاً هو أن يجنبهم المرور بتجربة قاسية تحطم معنوياتهم وتمنعهم من الانخراط مرة أخرى في سراياه وغزواته وبعوثه ونعنى بها تجربة مشاهدة الزوجة تحت رجل آخر لأن الاستحداد والامتشاط والاغتسال والتزين والتعطر...الخ .. لا تستغرق جميعها من الزوجة أكثر من ساعة ، وهذه لا تساوى أن يقضي الزوج الليل بطوله خارج بيته خاصة وأنه قد عاد مجهداً معفراً ...
ولماذا لم ينههم محمد على الدخول عن الزوجات نهاراً وحالتهن في الليل أو النهار واحدة : عدم الاستحداد والامتشاط ... وما الفرق بين أن ينتظر الزوج حليلته بعض الوقت حتى تتزين له سواء بالنهار وبالليل ؟
إن محمداً الحصيف كان يعرف أن الليل هو الوقت المفضل لتلاقي الأخدان خاصة في ذلك الزمان إذ لم تكن إنارة الشوارع والطرقات قد عرفت بعد وأدوات الإضاءة كانت آنذاك ضعيفة واهنة كليلة تمكن من الدخول والخروج في أمان خاصة وأن الناس قد أوت إلى مساكنها وانقطعت الأرجل السابلة…
لهذا نهى محمد أتباعه عن الدخول على الزوجات المغيبات في ظلمة الليل حتى لا يفاجأوا بما لا يسرهم بل يفزعهم ويفجعهم ويدفعهم إلى الإحجام عن الخروج.
واستمرت " مشكلة المغيبات " بعد وفاة محمد فقد قرأنا في خلافة عمر ما يدل على ذلك :
9. ( روى أبو حفص عن زيد بن أسلم قال : بينما عمر بن الخطاب يحرس المدينة فمر بامرأة تقول :
تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وطال عليّ ألا خليل ألاعبه والله لولا خشية الله وحده ... لحرك من هذا السرير جوانبه.
( وفي رواية لزلزل ) فسأل عمر عنها فقيل له : هذه فلانة زوجها غائب في سبيل الله فأرسل إليها امرأة تكون معها وبعث إلى زوجها فأقفله ، بعدها كتب إلى أمراء الأجناد : لا تحبسوا رجلاً عن امرأته أكثر من أربعة أشهر ) .
إرسال ابن الخطاب امرأة إلى المتشوقة لزلزلة السرير مقصود منه مراقبتها حتى يؤوب زوجها خشية أن تدفعها النزعة العارمة إلى خدن أو خليل يزلزل بها سريرها بعد أن طالت غيبة زوجها ولو كان عمر يثق فيها لما فعل ذلك وإرساله الرقيبة يرجع إلى معرفته بأحوال " المجتمع اليثربي " ...
أما سبب توقيت مدة غيبة الزوج بأربعة شهور فمرده أنه سأل النسوة عن المدة التي تصبر فيها المرأة عن المجامعة فأجبته : أربعة أشهر – الأشهر الأربعة هي الحد الأقصى لا الحد الأدنى ، خاصة وأن نسوة ذلك المجتمع تعودن على المباطنة اليومية ومن ثم استمرت المشكلة دون حل :
10. ( عن الحسن قال : أرسل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى مرأة مغيبة كان يدخل عليها فأنكر ذلك فأرسل إليها فقيل لها : أجيبي عمر فقالت : يا ويلها ما لها ولعمر...الخ )
وعبارة " يدخل عليها " واضحة تفسر نفسها وفزع المغيبة المدخول عليها من طلب عمر لها ودعاؤها على نفسها بالويل والثبور وعظائم الأمور دليل على أنها كانت مريبة أو إذا شئت الدقة أنها مغيبة نموذجية أي يتوافق سلوكها مع موجبات وأنساق وأعراف " مجتمع يثرب " الذي كانت نزعة التلاقي والتماس مع الآخر فيه غالبة.
تلك جولة – على طولها النسبي – نراها قصيرة في " مجتمع يثرب " إبان العهدين المحمدي والخليفي من زاوية واحدة هي علاقة الرجل بالمرأة ( والمرأة بالرجل ).
والعهد المحمدي هو عهد التدشين التأسيس والتبليغ والتقويم أما العهد الخليفي فهو حقبة التشييد الانسياح والتوسع والإعلام ... والعهدان في نظرنا على درجة قصوى من الأهمية وخاصة أولهما.
ومع ذلك لم يأخذا حقهما من الدراسة الموضوعية المنهجية العلمية ، من كافة النواحي : العقائدية أو الدينية والاجتماعية والاقتصادية بل والعسكرية...الخ.
وإن كان هناك ركام هائل من الكتابات الخطابية الإنشائية عنها.
وكتب التراث بمختلف أنواعها تنضوي على مخزون ضخم ضخامة لا يتصورها القارئ العادي من المعلومات عن العصر الخليفي . وكثيراً ما لفتنا النظر إلى أن الكتابة عن هاتين الحقبتين من القصور البين بل من السذاجة المفرطة بمكان لأن الاعتماد فيها على كتب التاريخ وحدها – مع تقديرنا البالغ لها ولأصحابها – والإعراض عن دواوين السنة بمختلف أسمائها ورتبها وكتب أسباب النزول وتفسير القرآن والناسخ والمنسوخ والقراءات والعدد في القرآن ومناسبات ورود الحديث والجرح والتعدين والمتروكين والمدلسين وكل علوم الحديث ومؤلفات الفقه منذ نشأته في يثرب وقبل ظهور المذاهب ثم بعد ظهورها والمذاهب المندرسة والمندثرة والباقية والمستمرة وعلم أصول الفقه وكتب الطبقات في شتى المجالات وعلم الكلام...الخ.
وعن كتب الأدب والأمالي والنوادر.. ( هذه نذكرها كمصدر ثان ) .
أنها جميعها أرخت لهذين العهدين تأريخاً دقيقاً ولكن بطريقتها الخاصة التي هي من البديهي ألا تجئ مطابقة لطريقة المؤرخين وتبتعد عن السرد التاريخي ...
ولكن بها كنوز – وليس في هذه اللفظة أدنى مبالغة – من الأحداث والأخبار والنوازل والخطب والرسائل المساجلات والمحاورات ...
التي تضئ بشكل باهر ومبهر جميع النواحي في المجتمعي المحمدي والخليفي وخاصة الأول منهما وذلك للعناية البالغة التي أولها مصنفو وواضعو وجامعو ومؤلفو...تلك الكتب لشخصية محمد حتى أننا نؤكد أنهم لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة عن ذلك العهد ولها علاقة بمحمد ألا دونها ولما كان هو محور ذلك العهد فمعنى ذلك أنهم سطروا كل شيء عنه ، ثم بدرجة أقل عن الحقبة التالية له أي الحقبة الخليفية .
وفي مذهبنا أنهم أدوا أمانتهم ولا يطلب منهم أكثر من ذلك ، ولا ينال من عملهم الجبار ذاك ما لحقه من تبرير وتلفيق وتزويق حاولوا أن يبرروا به أو يجملوا به بعض الوقائع من أشخاص يكنون لهم في نفوسهم قداسة أو تقديراً فهذه مسألة يعذرون فيها.
والعين البصيرة الناقدة التي تقرأ بوعي والتي نزعت عنها القداسات الزيوف – التي عادة ما تصاحب القارئ لهذه الكتب – هذه العين تستطيع بقدر من التمحيص أن تكشف تلك التبريرات والتلفيقات والتزاويق وتنحيها جانباً وتعكف على الوقائع نفسها تدرسها دراسة موضوعية وتبحثها بحثاً علمياً مجرداً وتحللها تحليلاً دقيقاً ، كما فعلنا – على قدر جهدنا وطاقتنا – في هذا البحث . فالأخبار والنوازل والوقائع والأحداث التي أوردناها معجونة – في مصادرها الأصلية – عجنا بالتبريرات والتسويغات والتلفيقات والتزاويق والتجميلات .. الخ ولكننا استطعنا بعد قراءة أو قراءات مستأنية متمسكة بحبال الصبر ، وبعيون ناقضة متحررة من غبش التقديس الزائف أن ننفض عنها كل ذلك ونعيد قراءتها قراءة جديدة نحت جانباً هالات التبجيل المصطنعة وحللناها وعرضناها بموضوعية لعل القارئ قد أدركها.
ومن المهم بمكان أن نذكر أن هالات التفخيم والتعظيم بدأت في تلك المؤلفات مبكرة للغاية ربما منذ " عصر التدوين " لأن كاتبيها ومؤلفيها أو جامعيها يكتبون عن أناس لهم في نظرهم قدر وفير من القداسة ، وليس صحيحاً أن التفخيم والتبجيل والتعظيم لم تعرفها إلا كتابات ما يسمى بكل مجانية وخفة بـ " عصور الانحطاط " وإن كانت النبرة زادت زيادة واضحة والعبارات تضاعفت والنهج نفسه تضخم أو لنقل إنه تورم في هذه العصور ولكن الذي لا شك فيه أن البذرة كانت موجودة منذ البدايات الأولى وهذا أمر طبيعي.
وعجبي يتزايد يوماً بعد يوم من كليات العلوم الإنسانية في الجامعات المصرية والعربية والإسلامية التي تلتفت منذ نشأتها إلى تلك الدواوين والكتب والمؤلفات ...الخ كمصدر رئيسي للتاريخ والتقييم للحقبة المحمدية على وجه خاص ثم من بعدها للحقبة الخليفية ، واعتمادها فقط على كتب التاريخ وحتى لا يساء فهمنا نكرر العبارة السابقة " مع تقديرنا لها ولواضعيها "
وكم أسفت بل تألمت وتوجعت وأنا أطالع – مؤخراً كتاباً ألفه أستاذ كبير مقاماً وسناً – في إحدى كليات العلوم الإنسانية بجامعة مصرية وصاحب اسم لامع في سماء الفكر في العالم العربي لا في مصر وحدها ، وهو يصف تلك المؤلفات التي ذكرناها بـ " الكتب الصفراء " وتحدث عنها بسخرية مريرة واستهزاء شديد واستكبار واضح ، وإني على ثقة كاملة أنه لم يفتح كتاباً واحداً منها بل ولم يقرأ سطراً يتيماً فيها ، وكيف يصدر عالم حكماً على شيء لم يطلع عليه ، ومن المحزن أن المادة التي يدرسها ويؤلف فيها وثيقة الصلة بهذه " الكتب الصفراء ".
إن ما تحتويه هذه الذخائر يهم استثناء كل العلماء في :-
علم الاجتماع – في سائر فروعه – والأنثروبولوجيا وخاصة الدينية والاقتصاد والسياسة والتاريخ والتربية والإعلام والأدب واللغة بل والعلوم العسكرية ؛ وتحتاج إلى كتائب – ولا أقول كتيبة واحدة – من الدارسين والباحثين والعلماء لدراستها وبحثها وتمحيصها وتبويبها وتصنيفها وتحليلها وغربلتها… الخ.
ولا صلة لهذه الدعوة التي أطلقها وأنادي بها بأعلى صوتي بما يسمى بـ " معركة الأصالة والحداثة " أو " معركة التراث والتجديد " التي أصبحت الكتابة فيها ممجوجة ومملة ومستهلكة وبائخة بعد أن أهرقت فيها بحور من الحبر ، ولا يشكل ذلك تعصباً مني لـ " التراث " ولا انبهاراً به ، فليس إلى شيء من هذا قصدت بل ربما يكون العكس تماماً هو الصحيح :
إن هذا الضرب من الدراسات والبحوث الذي ندعو إليه بكل ما نملك من قوة سوف يؤدي بطريق الحتم واللزوم إلى تفكيك " القباب المقدسة " قداسات زيوف والتي تخيم على العقل العربي ( بما فيه المصري ) منذ قرون فتحجب عنه الهواء النقي والشمس الساطعة وإلى كسر القيود التي تكبله وتمنعه من الانطلاق إلى الآفاق الرحيبة والفضاءات غير المحدودة التي تسبح فيها عقول الآخرين وإلى تسليط الأنوار الكاشفة على " النصوص " لتعرف على حقيقتها ، وساعتها ينعتق المخاطبون بها من هيمنتها وتسلطها عليهم في كل مناحي حياتهم حتى عندما يدخلون أماكن قضاء الحاجة !!! .
وإلى تعرية رموز كبيرة الشأن رفيعة المقام ونزع الهالات المصطنعة التي أحاطوها بها وعرضها بالصورة الحقيقية الواقعية بلا رتوش كما هي مرسومة في كتب التراث بعد إقضاء التزويقات والتجميلات التي أشرنها إليها فيما سلف ، وساعتها سوف يصيح من " يعانيها على الطبيعة " : كم كنا مخدوعين !!
وسوف يؤدى إلى تحطيم " الأساطير " التي يؤمن بها حتى حملة الإجازات العلمية الجامعية الرنانة وبعضهم أحضرها من بلاد " الفرنجة " !!!
ولكن ما الهدف من وراء ذلك كله ؟
والجواب : إن تحرير العقل العربي ( وطبعاً المصري ) من القيود التي تكبله والفكر العربي " وطبعا المصري " من " النصوص "و " الأساطير" التي تشل حركته ، من أهم دوافع إن لم تكن أهمها جميعاً والني ستساهم في انتشال مجتمعاتنا من وهدة التخلف التي تتردى فيها منذ قرون.
والسؤال الخاتم الذي حيرني وأقض مضجعي منذ أعوام طوال :
متى تنجز تلك الدراسات والبحوث ؟
بل : من يجرؤ على مجرد الاقتراب منها الآن ؟
مجتمع يثرب
العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي
هذا الكتاب يضئ جانباً مهماً في مجتمع يثرب إبان حياة الرسول محمد وزمن خلفائه الأربعة.
والذي فجر ثورة في منطقة الحجاز تعد من أخطر الثورات التي شهدتها الإنسانية منذ العصور الوسطى.
ويحاول المؤلف خليل عبد الكريم أن يكشف جانباً مهماً من العلاقة بين الرجل والمرأة في ذلك المجتمع ، والتي تعتبر المقياس الأساسي عند تقييم أي مجتمع.
في هذا الكتاب ما يدهش القارئ وربما يصدمه بما تحفل به صفحاته من نوازل وأحداث لم يتعود على مطالعتها في كتب التبجيل والتعظيم التي ولفها الكثيرون ومن بينهم أسماء لامعة لها رنين صاخب ودوي زاعق وهي معروضة بالأسلوب العلمي الصارم الذي نحى عنه جانباً ، عوارض العاطفة والتعصب.
0 تعليقات